جدل كثير يدور من حولنا،لاسيما على وسائل التواصل الاجتماعي حول الدين، ويكفي أن تتابع نماذج من التعليقات لتدرك حجم المأساة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي فيما يتعلق بالزج بالدين في أتون صراعات السياسة والمصالح.
البعض يرى أن عالمنا العربي والإسلامي يعيش مأساة أوروبا خلال الحقبة التاريخية المعروفة بعصور الظلام في القرن الخامس عشر الميلادي، وبالتالي يبدو الفارق الزمني بيننا وبين أوروبا نحو خمسة قرون تقريبا وفقاً لوجهة النظر هذه. ويرى آخرون أن مايعرف بالربيع العربي قد فجر بركان الجدل الديني بعد أن قفزت تيارات الإسلام السياسي وجماعاته إلى صدارة المشهد السياسي في بعض الدول العربي واختطفت زمام المبادرة بحكم تجاربها العميقة في المناورات السياسية واستقطاب الجماهير وخداع ملايين البسطاء في دول تبحث غالبية شعوبها عن أمل تستحقه في حياة كريمة ومستقبل آمن.
في جميع الأحوال، وبغض النظر عن التفسيرات والتأويلات، فإننا أمام واقع يشير إلى تحول الدين إلى مادة ومحور للجدل والصراع السياسي، وهذا أخطر مافي المسألة برمتها، لأن وجود الدين وسط هذه النقاشات يزيل المساحات ويلغي المسافات بين المقدس والمدنس ويخلط الثابت بالمتحول، ويدفع بالدين وقيمه السامية إلى مراجل السب والقذف والنقد غير الموضوعي.
وسط هذا التراشق الكلامي المحتدم الذي يتخذ من وسائل التواصل الاجتماعي منصات ومنابر وميادين للصراع، يبدو واقع العالم العربي ومستقبله غير مطمئن بالمرة، وكأن موروث أربعة عشر قرناً من التاريخ الإسلامي وحضارته وتراثه الثقافي والانساني قد نسف بجرة قلم وانصرف ملايين المسلمين إلى البحث عن هوية يتصورون أنها مفقودة!!.
على هامش هذا التراشق الكلامي أيضا تدور محاولات لتفسير ظواهر مصاحبة لهذا الواقع البائس، مثل الالحاد الذي يقول البعض أنه قد تحول إلى "ظاهرة" في العديد من الدول العربية والاسلامية ردا على انتشار الخطاب الديني المتطرف.
المزعج في تنامي الحديث عن انتشار الالحاد ليس في هذا التوجه، الذي يبدو قديم جديد في تاريخنا الحديث، فقد رافق الالحاد منحنيات عدة في التاريخ العربي المعاصر، وجاء دائما رداً على انتكاسات وهزائم وخيبات أمل تعرضت لها الشعوب العربية والإسلامية في حقب تاريخية سابقة، ولا جديد في ذلك، ولكن الأمر هذه المرة مصحوب بجدل محتدم بحكم وجود متغير جديد هو وسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب دوراً بارزاً في توسيع دائرة النقاش والإعلام وتداول الأخبار والوقائع الصغير منها والكبير على حد سواء.
لا أحد يستطيع ـ علمياً ـ القطع بأن الالحاد تحول إلى "ظاهرة" في ظل غياب قياسات منهجية ومعيارية يمكن من خلالها بلوغ درجة اليقين أو الاقتراب منها على أقل تقدير، ولكن يمكن القول من دون مبالغة في هذا الشأن أن هناك عوامل تبدو "دينية"في ظاهرها، أو تتخذ منه ستاراً وشعاراً، وقد أسهمت هذه العوامل في تغذية الحالة السائدة وبلوغها مستويات قياسية، ومن هذه العوامل: انتشار الخطاب الديني التحريضي والمتطرف، والفشل المخزي للجماعات المتطرفة عندما تولت السلطة في بعض الدول العربية، حيث اكتشف الجميع خواء فكرها وزيف مشروعاتها، وتكالبها على السلطة ما جعلها وجهاً آخر للاحزاب السياسية التقليدية، التي ظلت توصف لسنوات وعقود بالاستبداد والسلطوية، ولم يجد الكثير من الشباب في ظل هذا الواقع البائس سوى الاندفاع إلى أقصى ما يذهب إليه العقل في حالات كهذه، وهو فقدان الثقة بكل شىء وانتشار الاحباط وانحسار الأمل، الذي يمثل وقود الحياة بالنسبة لشريحة الشباب تحديداً.
كارثة أن تربط تيارات وجماعات سياسية نفسها بالدين وتحتكر الخطاب الديني ثم تفشل، ويبدو فشلها فشلاً للدين وعدم مقدرته على معالجة الأزمات، والأمر ليس كذلك بالمرة، فالدين لا يحمل حلول سحرية، بل يدعو إلى الأخذ بالأسباب الدنيوية. ومع ذلك فإن تجار الدين لم يفطنوا بعد إلى حجم اساءتهم للدين حين نصبوا أنفسهم واجهة له، وحين ربطوا أنفسهم بالدين ربطاً قسرياً، وللاسف من يدفع فاتورة هذا الفشل هو الدين نفسه، وكذلك ملايين المسلمين الذي ظنوا أن هذه الجماعات تلتزم شرع الله، وأن الله يرعى خطاها، ولكن عندما تصرف أتباع هذه الجماعات بشكل مثير للشفقة والسخرية في شؤون السياسة والاقتصاد، حدث رد فعل سلبي تلقائي يمكن تقسيمه إلى شقين، أولهما اندفاع أعداء الدين للنيل من الدين وقيمه والطعن فيه واتخاذ هذه الجماعات مطية للنيل من الدين واعتبار صورتها المذرية وجها آخر للدين وفشلها فشل للدين، أما الجزء الآخر فيتمثل في فقدان شريحة من الشباب ثقتهم في كل شىء، وانزلاقهم إلى مربع الخيارات الضيقة التي يقع الالحاد في القلب منها.
بشكل عام لا أريد هنا التركيز على الالحاد لأني لا اعتبره قد بلغ مرحلة الظاهرة بمعناها الاصطلاحي العلمي، كون عدد الملحدين لا يتجاوز& ـ على سبيل المثال ـ في تقديرات رسمية الألف ملحد (بحسب تقديرات منسوبة إلى دار الافتاء المصرية العام الماضي) في دولة كبيرة مثل مصر، التي يبلغ عدد سكانها نحو تسعون مليون نسمة، بما يجعل عدد الملحدين الضئيل نسبة لا تذكر لإجمالي السكان.
وبصراحة، لا يقلقني الالحاد بقدر ما يقلقني وجود الدين في قلب الصراعات الدائرة وما يصيبه في خضم ذلك من اساءات وما يتردد بشأنه من خرافات!! وهنا تبرز الإشكالية الأخطر والأهم التي ينبغي الانتباه لها، وهي ارهاصات الفتن الدينية التي تتشكل وتتعمق معالمها ومؤشراتها في منطقتنا العربية وعالمنا الإسلامي، فالتراشق الديني ـ الديني، لم يعد سنياً ـ شيعياً فقط كما كان في السنوات الأخيرة، بل بات إسلامياًـ مسيحياً أيضا وبات التشكيك في أصول الدين ـ الإسلامي والمسيحي على حد سواء ـ& وجبة يومية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي!!.
أحد أسباب هذا الواقع البائس، باعتقادي، هو أنظمة التعليم المتدهورة ومعدلات التنمية المتردية، والتراجع الثقافي والحضاري والعلمي للعالم العربي والاسلامي، وانتشر ثقافة الاقصاء ونبذ الآخر وكراهيته، وانصراف الكثيرين إلى البحث عن حلول غيبية لمشكلات دنيوية، فما يدور من حولنا في حقيقته صراع بين العقل والنقل... بين الماضي والمستقبل... بين العلم والخرافة، ووسط ذلك كله يبدو الدين متهم في نظر البعض بأنه سبب هذا الواقع والدين من ذلك برىء، فالاسلام هو دين العقل والعلم وليس دين الخرافات والجهل والانانية المفرطة والاقصاء البغيض، وكل ماتحمله تصرفات بعض الجماعات المريضة التي تربط نفسها به زوراً وبهتاناً.
&