&

مشاهد المهاجرين الذين يتدفقون كالسيول الى اوربا لا زالت هي اكثر المشاهد تاثيرا في صناعة الراي العام العالمي خلال هذه الايام خاصة عبر التركيز على طبيعة الاوضاع المأساوية في كل من سوريا و العراق. البلدان اللذان لازالا في معاناة يومية تدفع الملايين الى التفكير بالهجرة في ظل غياب بوادر الاصلاح الحكومي و انعدام مؤشرات الامن و الحل للازمات المستعصية منذ سنوات.&

فشلت الحكومات محليا في توفير استحقاقات المواطنين و عجزت عن الوقوف بوجه المشاريع و المؤامرات التي حيكت لهذه الاوطان منذ فترات زمنية بعيدة. فالكل يعلم بان متطرفي الادارة الامريكية مثلا كانوا يحلمون بالوصول الى اللحظة التي يعلن فيها عن تفكك الجغرافيا في هاتين الدولتين. وهو تفكك اشبه بانفجار عظيم يخلف وراءه شظايا متناثرة باتجاهات عدة. لعل ما نشهده اليوم من هجرة واسعة هي تطبيق واقعي لفكرة تشظي الاوطان و تحولها الى اطلال بفعل المشاريع الدولية و الاقليمية التي عرفت جيدا كيف تستغل الانهيارات الداخلية لمصلحة توجهاتها و خدمةً لتحقيق غاياتها.&

يشير المبدع امين معلوف في رائعته " التائهون " الى إن الهجرة ليست خيارا ترفيا بالنهاية. فهي رحلة اخرى نحو المجهول نحو عالم لن تستقيم فيه الحياة بالسهولة التي يتخيلها البعض. وهو يشير رغم ذلك الى حق المواطنين بالبحث عن حياة بديلة حين تُسد كل الافاق في الوطن الام الذي عليه إن يعمل بكل السبل على اقناع ابنائه بالبقاء و بعدم جدوى هذه الخطوة.&

لم تفوت القوى الاقليمية و الدولية هذه اللحظة المفعمة بالاسى دون إن تفكر باستغلالها سياسيا. او على الاقل هكذا يبدو من سياق الحدث في ظل ازمته الخانقة التي ادت الى تشريد ملايين السوريين بعد إن جثم التطرف على اجزاء واسعة من التراب السوري.&

الكل يتحدث الان بطريقة استفزازية عن الموضوع ليصور نفسه بانه هو المدافع و الحامل لمشعل الانسانية الذي ينير درب هذه الملايين التي ضلت الطريق الى العالم المنشود. فاردوغان يوجه انتقادات لاذعة للاوربيين بالقول " انهم هم من حول البحر المتوسط، مهد اغلب الحضارات العالمية القديمة، الى مقبرة للمهاجرين و بالتالي هم مسؤولون عن المشاركة في موت كل لاجيء... إن ما غرق في البحر المتوسط هو ليس طفل بعمر الثلاث سنوات، بل هي انسانيتنا ". وهذا ما حصل بالفعل فالبحر المتوسط اصبح مقبرة لضحايا انتهازية القوى الامبريالية المتحمكة بجغرافيته. اردوغان الذي هزت مشاعره صورة الطفل الملقى على الشاطيء لم يعلم بانه من عائلة كردية هربت من سوريا بعد إن فتكت داعش بالنطاقات التي هيمنت عليها و بالذات عبر الصراع الشرس الذي يدور منذ اشهر في كوباني. وهو ما يجعل الكثيرين يتساءلون عن سبب هذا الموقف المغدق في الانسانية من دولة دعمت نشأة هذا العنف و الخراب في المنطقة ؟.

تلقفت تركيا الحدث لتنطلق بقوة باتجاهات متعددة، فاردوغان يطالب باصلاح المنظومة الدولية العاجزة عن التعاطي مع ازمة اللاجئين حيث يقول " إن النظام الحالي القائم على اساس هيمنة الدول الخمس الدائمة العضوية على مجلس الامن الدولي يؤشر إلى بنية قلقة تهمل القضايا التي لا تمس مصلحته المباشرة... لذلك قلنا مرارا بان مصير 200 دولة في العالم لا يمكن إن يترك لقرار واحدة من هذه الدول الخمس ".&

الاشارة المفتاحية المهمة في هذه الكلمة المقتبسة من صحيفة حرييت تشير الى القرار الذي يتخذ من قبل واحدة من القوى الخمس، وهي دلالة على المواقف المتصلبة للبعض بطريقة تثير امتعاض صناع القرار التركي ومن وراءهم الحلفاء الدوليين. لذلك قد تكون فكرة اصلاح المنظومة الدولية على الطريقة التركية – الامريكية لمواجهة ازمات الهجرة و اللجوء بمثابة مشروع مُبيت لمعادلة الادوار المعطلة التي تقوم بها بعض الدول في مجموعة الخمس بهدف تعديل نظام التصويت داخل هذه المجموعة و حجب الاثر الذي يمارسه حق الفيتو لاحدها في ارباك او الغاء مشاريع الهيمنة التي تحلم بها الاطراف الاخرى.&

الاتجاه الاخر الذي تسعى تركيا الى استغلاله سياسيا في هذه الازمة يسير باتجاه توفير القناعة الاوربية للمشاركة في تحقيق احلام انقرة في سوريا. وهنا يقول اردوغان " ان القوى الغربية لم تبدي مقدارا مناسبا من التضامن الضروري تجاه الارهاب العالمي الذي يحرق سوريا و العراق ! ". إن هذا التضامن الذي تسعى تركيا الى الحصول عليه انما يكمن في اساسه بترسيخ و تطبيق فكرة المنطقة العازلة في الاراضي السورية بحجة توفير الحماية للمواطنين و الحيلولة دون هجرتهم الى خارج البلد. وهي فكرة جاءت متوافقة تماما مع راي طرحه وزير الداخلية الالماني الذي اشار الى امكانية اقامة منطقة للاجئين في تركيا او العمل على تأسيسها في الداخل السوري بحماية اوربية او اممية وفقا للاقتراح التركي !. حيث يدو بان تركيا اليوم تعيش مأزقا كبيرا بفعل التردد الامريكي من مشروع المنطقة العازلة، الامر الذي يحتم عليها في مثل هذه الحالة البحث عن حلفاء مساندين لتطبيق هذا المشروع بغض النظر عن الحجج التي تساق لتمريره.&

لذلك يبدو إن تزامن هذه الاحداث غير بعيد عن القرار الذي اتخذه البرلمان التركي مؤخرا باتجاه تمديد التفويض العسكري في سوريا و العراق لمدة عام كامل، يُسمح في ظله بفتح الاراضي التركية امام القوات الاجنبية، كما يسمح بامكانية المساهمة الفعلية في عمليات قتالية خارج الحدود التركية. وهو ما يجعل من امكانية تصاعد العنف في الاشهر القادمة امرا حتميا اذا ما حصلت اي تطورات ميدانية – عسكرية لفرض المنطقة العازلة و بالطريقة التي ستقود الى مزيد من الهجرة و الفوضى في سوريا التي عصف بها ما سمي بالربيع العربي. وهي الظاهرة التي يصفها الكاتب التركي يوسف كانلي في مقاله المنشور في صحيفة حرييت بتاريخ 3 سبتمبر بالاتي " يحق لاولئك الذين خططوا لمسرحية الربيع العربي في الشرق الاوسط إن يكونوا فخورين بالنتائج العظيمة التي حققوها في التجارب التي حصلت من تونس الى سوريا. الاطفال ممن هم على شاكلة الطفل السوري الغريق ايلان يعانون في تونس، ليبيا، مصر، العراق و سوريا و فلسطين. وهم دوما كانوا الضحايا".

بالمقابل لابد من الاشارة الى إن اوربا متخوفة من اعداد المهاجرين الكبيرة خشية من التاثير على البنية المسيحية فيها. لذلك يوجد الان حديث محموم في اوساطها عن ضرورة ايجاد حل، والحل برايهم لن يكون مجديا الا عبر البوابة التركية للاسراع بتمرير المنطقة العازلة. لذا ليس من المستغرب ان ينشغل العالم في ظل هذا السيناريو بصور جثث المهاجرين وهي تطفو على الشاطئ، في حين سيغمض عينيه كما فعل من قبل عن المجازر التي سترتكب قريبا عبر تمزيق الجغرافيا السورية بحجة توفير الحماية للهاربين من المعارك الجارية هناك !.

بين المعاناة و الاستغلال السياسي لها يبرز صوت احد المهاجرين لايجاد الحل لقضية وطنه المهدد بالضياع و لمأساة رحلته المقبلة على سنوات لا تخلو من الصعوبات، حيث يقول بكلماته البسيطة المعبرة " ارجوكم ساعدو السوريين. عليكم فقط ايقاف الحرب. سوف لن نذهب الى اوربا. فقط اوقفوا الحرب ". لتكون هذه الدعوة هي الاحل الامثل الذي يفكر به الكثير من المنصفين لانهاء الجزء الاقسى من مسببات الأزمات في الدول المصدرة لللاجئين في المنطقة.&

&

أكاديمي عراقي&

[email protected]