&الرسالة التي نزل بها القرآن الكريم لم تأت للقضاء على الرسالات السابقة أو نسخها بالكامل وإنما جاءت لتكون مكملة لها وهذه سنة متوارثة لدى الأنبياء لا سيما أصحاب الرسالات المؤيدة بالكتب كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى 13. وهذا يدل على أن شريعة النبي محمد (ص) هي مجموع وصايا الله تعالى للأنبياء الذين ورد ذكرهم في الآية، وهذه السنة لا يمكن أن يتم لها البقاء والاستمرار إلا بتصديق اللاحق للسابق وبشارة السابق باللاحق، وهذا الأمر لا يقتصر على أولي العزم بل يتعدى إلى جميع الأنبياء وإن تدارس الأمر بسبب طول الأمد، ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يرسل الأنبياء إلى جميع أنحاء الأرض وبكثرة عددية حتى وصفهم بعض المحققين بأنهم جم غفير لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ومما تقدم يظهر أن الهدف من مجيء الرسل يتمثل في البشارة والإنذار لكي يتم نشر دين التوحيد في الأرض، فإذا طال الأمد بعد فترة إرسال النبي فمن الطبيعي أن يسلك الناس سلوكاً آخر لا يتفق مع الأهداف التي بعث من أجلها الأنبياء، مما يجعل الفساد يعم الأرض مرة أخرى والعبادة تأخذ منحى آخر وتتشعب إلى طرق مختلفة، وبهذا يتلاشى الإنذار ويذهب أثر الوعظ والإرشاد وتحرف الكتب إلى تأويلات باطلة لا تمت لدين الله بصلة.

فإن قيل: هل تسقط الحجة عن الناس في هذه الفترة؟ أقول: هذه المرحلة لا تكون خالية من النذير ولكن ينتابها الضعف باعتبار أن النذير لا يحمل نفس التعاليم المراد نشرها بين الأمم كما هو الحال في بعثة الأنبياء مع ملاحظة إتمام الحجة على الناس، وهذا يدل على أن الأمم التي يرسل الله تعالى إليهم أنبياء أكثر من غيرهم لا بد أن يكون القابل عندهم ضعيفاً ما يباعد بينهم وبين التسليم لأمر الله تعالى، وهذا ما حدث بالفعل لبني إسرائيل الذين كانوا يزعمون أن تفضيلهم ناتج عن كثرة ما أرسل إليهم من أنبياء وأنت خبير بأن العكس هو الصحيح.

فإن قيل: ما سبب إطناب القرآن الكريم في ذكر الوقائع والأحداث التي مر بها بنو إسرائيل؟ أقول: الوقائع المختلفة التي مرت على بني إسرائيل لم تذكر في القرآن الكريم جزافاً وكذا لا يمكن تصنيفها ضمن الأحداث التأريخية التي لا طائل من وراء سرد مجرياتها، وإنما ذكرت لغاية أسمى باعتبارها من المناهج التي لا تمحى آثارها ولا تخلق على مر الدهر مهما اختلفت المراحل التي تمر بها البشرية أو اتخذت ما تشاء من الأهواء والفتن، ومن هنا كان التطرق إلى ذكر تفاصيل حياتهم قد أخذ مساحة واسعة في القرآن الكريم، ولا يخفى على المتأمل بأن هذا النهج قد مهد للمسلمين الأخذ بأسباب التمسك بشريعتهم والرجوع إلى الحق الثابت الذي يكفل لهم تصحيح مسيرتهم بعيداً عن الخط المنحرف الذي انتهجه أهل الكتاب في تعاملهم مع الأنبياء من خلال رحلتهم الشاقة التي أثرت فيهم الأثر السلبي حتى وصل بهم الأمر إلى الاعتراف بعدم تلبية نداء الحق وذلك في قولهم قلوبنا غلف كما سيمر في تفسير آيات البحث، ولذلك حذرنا القرآن الكريم عن عدم المساس بالمصلحين والهداة كما كان يفعل بنو إسرائيل في تكذيب الأنبياء أو قتلهم، ولهذه الأسباب نرى أن الحق سبحانه قد أرسل رسله تتراً يقفو بعضهم إثر بعض نتيجة لانحراف اليهود عن المنهج الذي كلفوا به من جهة وبسبب الأمراض الخلقية التي لا تكاد تفارقهم من جهة أخرى، وسيمر عليك هذا المعنى من خلال البحث.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) البقرة 87. الكتاب المشار إليه هو التوراة الذي توارثه جمع من الأنبياء، وقفينا أي أتبعنا ونظير هذه الآية قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون) المؤمنون 44. وفي هذا دليل على تواتر الرسل ومجيء بعضهم في إثر بعض على نهج واحد مأخوذ من التوراة، حتى وصل الأمر إلى بعثة عيسى الذي اختصه الله تعالى وأيده بروح القدس، وقيل في معنى روح القدس مجموعة من الأقوال أهمها:

أولاً: هو القوة الغيبية التي أيدت عيسى فكان بواسطتها يحيي الموتى ويشفي الأكمه والأبرص.

ثانياً: هو جبرائيل وإضافة الروح إليه فيها إشارة إلى طهارته وقداسته.

ثالثاً: قال بعضهم هو الإنجيل والأول أقرب لاختصاص عيسى بما ذكرنا.

فإن قيل: لمَ خص الله تعالى عيسى بالذكر دون سائر الأنبياء؟ أقول: السبب في ذلك يرجع إلى توبيخ اليهود وتقريعهم لأنهم كانوا يكذبونه ويكفرون به لذا ناسب ذكره في هذا المقام علماً أنه لم يأت بشرع جديد أو رسالة مخالفة لما في التوراة، والمراد من التأييد إشارة إلى تقويته وهذا اللفظ مشتق من اليد لأن فيها معنى القوة، كما في قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) ص 17. أي صاحب القوة والمراد من القوة هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة، أما البينات فهي المعجزات التي أيد الله تعالى بها عيسى ومعنى بما لا تهوى أنفسكم أي بما لا يتفق مع اتجاهاتكم، ولهذا فرع على هوى أنفسهم ذكر استكبارهم أي استكبرتم عن الإجابة احتقاراً للرسل، وههنا إشارة للأنبياء الذين كذبوهم ومنهم عيسى ومحمد (ص) وفي الوقت نفسه تطرق سبحانه إلى الأنبياء الذين قتلوهم ومنهم زكريا ويحيى.

قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون) البقرة 88. ههنا صدر ادعاء منهم بأن قلوبهم مغلفة أي لا يدخلها شيء من الإنذار أو الهداية، ونظير هذا المعنى قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) فصلت 5. والدليل على أن هذا ادعاء منهم هو رده تعالى عليهم بقوله: (بل لعنهم الله بكفرهم) من سياق البحث. أي ليس الأمر كذلك وإنما هذا الادعاء كان سبباً في لعنهم وطردهم من رحمته سبحانه وذلك بسبب جحودهم بالله تعالى وبرسله.

قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89. الآية تشير إلى أن اليهود كانوا يستفتحون على كفار العرب أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي، إلا أن الأمر اختلف اختلافاً كلياً عند بعثة النبي (ص) وذلك بسبب استكبارهم الذي نتج عنه كفرهم، وذكر في أسباب النزول أنهم هاجروا إلى يثرب من أجل انتظار النبي الذي بشرت به التوراة كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا إلا أنهم سرعان ما أعرضوا عن تأييد الرسالة علماً أن تعاليمها تتطابق مع نهجهم وتصدق ما في كتابهم، ولهذا ذيل تعالى السياق بلعنهم المتفرع على كفرهم بما عرفوا من الحق.

فإن قيل: ما المقصود من قوله تعالى: (فقليلاً ما يؤمنون) الذي ورد في سياق البحث؟ أقول: في هذا التعبير إشارة إلى أن إيمانهم كان في الجملة لا بالجملة فتأمل.&

&من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن

&