حفلت مقالات الرأي والتحليلات هذا الأسبوع بكم هائل من الرؤى والتصورات التي عبرت عنها أقلام نخب عربية من مختلف الانتماءات السياسية والأيديولوجية، وذلك بمناسبة مرور خمس سنوات على اندلاع موجات الاضطراب التي يحلو للبعض تسميتها بالربيع العربي. وقد لفت انتباهي في هذه التحليلات أمران مهمان، أولهما يتعلق باتهام البعض لدول مجلس التعاون بالوقوف وراء "فشل الثورات العربية" والأمر الثاني يتعلق بالتحامل الشديد على بعض الجيوش العربية وتجاهل دور تنظيمات الارهاب التي أفسدت المشهد الاقليمي برمته، وليس فقط الأوضاع الأمنية والسياسية في بعض الدول العربية.
فيما يتعلق بالأمر الأول، اعتقد أن رؤية بعض المراقبين القائمة على اتهام بعض دول مجلس التعاون بالتسبب في افساد ما يصفونه بالمد الثوري العربي، هي رؤية قاصرة وساذجة من الناحية السياسية لسبب بسيط، هو أن هذه الرؤية تتجاهل التأثير الأساسي للعوامل الداخلية وتقفز على إرادة الشعوب، التي هي الأساس في أي إحداث أي تغيير، بمعنى أن من الصعب القول بأن هذه الدولة أو تلك قد نجحت ـ على سبيل المثال ـ في إحداث تغيير ما بالمشهد السياسي لدولة كبيرة بحجم الشقيقة مصر وثقلها الاستراتيجي، ما لم يكن هناك اصطفاف شعبي واسع لإحداث التغيير.
هذا الاصطفاف الشعبي هو ما تجسد في ثورة الثلاثين من يونيو 2013 ضد حكم جماعة الاخوان المسلمين الارهابية، وهي ثورة ترجمت إرادة المصريين في تغيير نظام حكم مكتب الارشاد وعصابة المرشد، ما يعني أن القول بوجود ضغوط خارجية في هذا التغيير تمثل في الحقيقة إهانة لإرادة هذا الشعب العظيم، الذي لا يزال يكن كراهية شديدة لهذه الجماعة وينبذها ويحول دون ظهورها في المشهد السياسي المصري مجدداً.
الأمر الثاني أن من لا يكف عن كيل الاتهامات لبعض الجيوش العربية بالتسبب في إفساد ما يضفه هؤلاء بـ "العرس الديمقراطي" يعبر عن ديماجوجية شديدة لا مثيل لها، فلا يستطيع هؤلاء وغيرهم أن ينكر ـ على سبيل المثال أيضاً ـ دور الجيش المصري في اسقاط نظام مبارك والانتصار لإرادة الشعب المصري، فلولا وقوف الجيش ومساندته للارادة الشعبية ـ وقتذاك ـ ما كان للجموع المحتجة أن تنتصر، وأن تتحقق الأهداف التي طالبت بها الملايين!!
&بعد أحداث عام 2011، ظل الجيش المصري يرعى الأمن والاستقرار ويحفظ استقرار البلاد ويحول دون انفراط العقد الوطني في ساعات كثيرة حاسمة حبس فيها العالم العربي ـ من المحيط إلى الخليج ـ أنفاسه خوفاً وقلقاً خشية انزلاق الشقيقة الكبرى مصر إلى حالة من الفوضى والاحتراب الأهلي، ولكن الجيش ظل صمام الأمان، وبقي متماسكاً رغم تعرضه لحملات مسعورة من العناصر التي تم تدريبها في الخارج، والتنظيمات المتطرفة التي حاولت غير مرة استدراج الجيش المصري لمعارك شوارع تسنزف قدراته وتسهم في انفراط عقده، تمهيداً لإضافة مصر إلى قائمة الدول العربية التي استشرت فيها الفوضى والعنف والاضطراب الأمني.
من نسى أو تناسى ماحدث خلال الفترة من 2011 حتى 2013، فليتذكر جيداً المؤامرات ومحاولات الاستدراج التي تعرض لها الجيش المصري، والتي بلغت عقر داره وأبواب قيادة الأركان على يد جماعة "حازمون" تارة، وعلى يد عناصر حركات مدربة وممولة من الخارج تارة أخرى، &ناهيك عما تعرض له على يد جماعة الاخوان المسلمين الارهابية، حين سعت إلى اختراق صفوفه وإرهاب قادته واخضاعه لإمرتها، بل لا يجب أن ننسى دعوات تكوين جيش موازي للجيش المصري من ميلشيات الجماعة ومؤيديها والمتعاطفين معها!.
نعم، انحازت بعض دول مجلس التعاون لإرادة الشعب المصري في تغيير نظام حكم جماعة الاخوان المسلمين الارهابية، وإن كان هذا الأمر معيباً من وجهة نظر بعض المحللين والمراقبين، فإننا لا نرى كذلك، بل هو من الأمور التي تعتز بها شعوب هذه الدول، التي ترى في الشقيقة مصر ركناً أساسياً للأمن القومي العربي، وترى في شعبها وجيشها حائط الصد الأساسي ضد أطماع الطامعين وأحقاد الحاقدين، اقليمياً ودولياً.
نعم، وقفت دولة الامارات العربية المتحدةـ وستظل إلى جانب إرادة الاشقاء في مصر العروبة، وستظل هكذا دوماً إن شاء الله، ولكن هذه الوقفة الأخوية لم تكن سوى دعم لإرادة شعب عبر عنها في ثورة الثلاثين من يونيو 2013، والتي اعادت تصحيح المسار، وأسهمت في استعادة الأمن والاستقرار الداخلي.
وفي تفسير مواقف هؤلاء المتحاملين، أرى أن البعض يتجاهل &أحوال الشقيقة مصر في السنوات القليلة الفائتة، ويزعم أن الجيش قد قفز إلى السلطة، ودعني أذكركم فقط ببعض المشاهد التي خلعت قلوب الكثيرين حزناً وألماً على مصر: هل كان الجيش المصري هو من حاصر مقر المحكمة الدستورية العليا ومنع قضاتها من الدخول؟ هل كان الجيش المصري هو من اقتحم مقرات أمن الدولة وألقى بأوراقها السرية في الشوارع ونشرها عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وتسابق الجميع إلى تخاطف التقارير والأوراق الرسمية، التي يجب المحافظة عليها سواء احتوت على ما يسىء للبعض أو أنها اعدت بشكل غير قانوني، باعتبارها وثائق تخص امن الدولة وهيبتها ويجب الحفاظ على سريتها.
ألم يكن ما يسمون أنفسهم بالثوار من الحركات الشبابية هم معاول هدم سعت إلى تفكيك الجيش المصري وتشويه صورته والتشهير به أمام وسائل الاعلام العالمية كافة؟ ألم يتعرض جنود الجيش المصري وضباطه لأبشع الشتائم والسلوكيات غير الاخلاقية من جانب شرائح ممولة تم تدريبها بدقة شديدة على كيفية استفزاز الجنود واستدراجهم إلى مواقف مسيئة ثم نشرها عبر وسائل التواصل والاعلام الأجنبي؟
الحقيقة أنني عندما احفز ذاكرتي على استعادة لقطات من المشاهد الفائتة، يزداد يقيني في أن ذاكرة بعض مثقفينا مثل ذاكرة السمكة، التي اختلف العلماء في تقديرها ولكنهم لم يتحدثوا عن أشهر قلائل في أحسن التقديرات، فقد نسي هؤلاء أو تناسوا كل المهاترات التي تعرض لها الجيش المصري، وتجاهلوا الضغط الشعبي الهادر من أجل ترشح وزير الدفاع وقتذاك (الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي) لمنصب الرئاسة، وبالدرجة ذاتها تجاهلوا كل ما فعله الاخوان من مصائب وكوارث في إدارة السياسة المصرية، داخلياً وخارجياً، وماتسببوا فيه من فتن وانقسامات شعبية يصعب ان تلتئم في سنوات معدوات!! ولم أجد تفسيراً لمواقف البعض الآن من محاولات تجاهل أو طمس لجرائم جماعة الاخوان المسلمين الارهابية سوى ميل البعض إلى التعاطف مع المجرم لا لشىء سوى لتقادم الجريمة نسبياً وفتور أثرها، وهو أمر يعكس قصوراً نفسياً لدى من يشعرون بذلك، فعلمياً هؤلاء هم ضحايا لما يوصف ب "متلازمة ستوكهولم"، التي تفسر تعاطف الضحية مع المجرم، أو الشعور بالشفقة حيال من أساء اساءة بالغة ومحاولة إبعاده عن دائرة الاتهام، ونيل العقاب القانوني اللازم لردع غيره عن تكرار الجريمة ذاته!. فهل أصبح بعض من يعيشون بيننا من ضحايا متلازمة استوكهولم بالفعل؟
&