طلع راشدالغنّوشي زعيم حركة النهضة الاسلامية على التّونسيّين خلال الأشهر الاخيرة &بخطاب أراده أن يكون مختلفا تماما عن خطبه السّابقة التيّ تميّزت بالتّصلّب، والحدّة،والتهديد ،والوعيد لكلّ الأطراف المتنافسة سياسيّا وفكريّا معه ومع حركته. والغنوشي الذي تعوّدناه عبوسا، منقبض الملامح، ناظرا من حوله بارتياب وحذر، بدا الآن & باسما، واثقا من نفسه،ومرتاحا لكلّ ما يطلق من أفكار وآراء ومقترحات ،ساعيا بكلّ ما أوتي من جهد لإقناع خصومه بأنه في الحقيقة "ملاك" رحيم القلب ،طاهر النفس ،ولا هدف له غير الدعوة للوفاق،والتّآزر ،والتّسامح ،والتّضامن بين كلّ التونسييّن بقطع النظر عن آختلافاتهم السياسيّة والإيديولوجيّة .
في هذه المرّة لم يتحدّث بنخوة،واعتزاز وصلابة المجاهد الذي نذر حياته ل”لنصرة الإسلام والمسلمين “ بل تنصّل من مرجعيّاته الدينيّة التي تعوّد اللّجوء إليها في كلّ آن و حين ،مبيحا لنفسه الإشارة إلى “دستور قرطاج” ،وإلى دستور “عهد الأمان ” الذي أنجزه الجيل الأول من المصلحين التّونسييّن برعاية المصلح الكبير خير الدين باشا الذي لم يسبق أن كلّف نفسه مجرّد التّلميح له سابقا في كلّ ما كتب،ونطق من أقوال ،ومن خطب.وربّما توهّم البعض من الذين آستمعوا إليه، بأن الغنوشي بات من أنصار الزعيم الحبيب بورقيبةالذي دأب منذ ظهوره على المسرح السياسي على تكفيره،وشتمه،والدعوة إلى تخريب مشروع الإصلاحية الحداثي باعتباره &معاديا للإسلام. وبطبيعة الحال ،كان الهدف الأساسي للشيخ من كلّّ هذا هو تلميع صورته التي أزدادت تشوها في فترة حكم "الترويكا" يقيادة النهضة ،والتي دأب خلالها عدد وفير من التونسيين على رفع أصواتهم في اللّيل كما في النّهار ،وفي الّصلوات كما في الشّوارع والأسواق ليدعوا عليه بالشرّ محمّلين إيّاه مسؤليّة ترديّ الأوضاع الأمنية &،واستفحال الإرهاب والعنف وغلاء المعيشة،وتفشّي الفتن ، وووساخة المدن والقرى . والحقيقة أن خطاب الغنوشي الجديد ينطبق عليه المثل التونسي الذي يقول “حل الصّرّة تلقى خيط”،أي أنه لا يعدو أن يكون ركاما من الكلام المعسول الذي لا هدف منه غير المزيد من التّضليل والخداع والمراوغة لربح الوقت وإرباك الخصوم السياسييّن.والادلة على ما أقول كثيرة.فمثلا لم يعترف الغنوشي بأي خطأ من الأخطاء &الفادحة التي آرتكبتها حركة النهضة خلال فترة حكم بورقيبة أو زين العابدين بن علي . كما أنه لم يعترف بالتجاوازات التي طالت جميع المستويات خلال سنوات حكم النهضة للبلاد.والخطأ الوحيد الذي أقرّ به هو تجاوز السنة في صياغة الدستور،غير انه سارع بتبرير هذا الخطأ مستندا الى أن دستور الجمهورية الأولى الذي أنجز عام 1959 تطلّب ثلاث سنوات من العمل الدّؤوب.أما بخصوص أداء الحكومة فقد غضّ الطّرف عن الكوارث الجسيمة التي نتجت عنه على جميع المستويات،السياسيّة منها والإجتماعيّة والإقتصادية حتى أن البلاد أصبحت بشهادة المختصّين على حافة الهاوية.ولم يشر الغنوشي بأيّة إشارة التي التّعيينات التي شملت المؤّسسات والإدارات ،والتي كانت من نصيب أنصار حركة النهضة على حساب بقيّة الأحزاب .وتجنّب الشيخ الحديث عن سياسة تونس الخارجيّة التي تعاني راهنا بسبب النهضة انتكاسات لم يسبق لها مثيل ،والتي كان الضّالعون فيها من المقربين” الاولى &بالمعروف”.ونحن نعلم أن الغنوشي لم يتردّد في أيّ يوم من الأيام في التعبير عن تعاطفه مع المتشددّين دينيّا والتكفيرييّن الذين احتلواالمساجد، واحترفوا الإرهاب،وهددّوا الأمن العام أكثر من مرة،ناعتا إيّأهم ب”أبنائه الذين يذكّرونه بشبابه”.لكنه في خطبه الجديده نفض يديه من مسؤليّته ، ومن مسؤوليّة حركته من كل ما أدى الى تدهور الإقتصاد الوطني ، واستفحال الإرهاب في البلاد . وباختصار &يبدو خطاب الغنوشي شبيها بخطاب من يريدأن يوهمنا بأن قطيع الخرفان يمكن أن يرعى آمنا في الحقل الفسيح من دون أن يخشى الذئاب التي تحاصره من كلّ الجوانب! ولكن من حين الى آخر ،يتذكر الغنوشي سنوات تطرفه الأعمى فيدلي بتصريحات تتناقض تمام التناقض مع خطابه المعتدل.واخيرا أشار الى انه &يمكن أن يغفر للتونسيين خطأ تورّطهم في القتال في سوريا وفي العراق وفي ليبيا ! كما أنه سمح لنفسه بالتدخّل في السياسة الخارجية معلنا عقب الزيارة التي أدّاها الرئيس الباجي قائد السبسي الى مصر بأن الرئيس عبد الفتاح السيسي لن يكون مرحبا به في تونس ، معطيا الضوء الأخضر &لأنصاره ولحلفائه من حزب المؤتمر الذي يرأسه محمد المنصف &المرزوقي لكي يطلقوا تهجّمات عنيفة على الرئيس المصري،معلنين مناصرتهم المطلقة للإخون المسلمين في بلاد النيل!وفي ربيع عام 2015،أبدى الغنوشي اعتراضات على التعيينات التي قام بها رئيس الحكومة الحبيب الصيد في الأجهزة العليا للإدارة ،وتحديدا في سلك الولاة والمعتمدين زاعما أن هذه التعيينات "حزبية".وهو لا يفعل هنا غير المغالطة إذ أن حركة النهضة آستعملت نفوذها القوي خلال الفترة التي حكمت فيها البلاد لنشر آلاف من أنصارها في جل أجهزة الدولة ، وحتى في السفارات والقنصليّات من دون أن يكون لهؤلاء الأنصار أيّة كفاءة!فهل ينسى التونسيّون مثلا أن صهر الغنوشي السيد رفيق عبد السلام كان وزيرا للخارجية في حين أنه لم يكن يفقه في فنّ الديبلوماسية ما يبيح له تقلد هذا المنصب الرفيع؟!
وخلال الاحداث الأخيرة &التي جدت بكامل أنحاء البلاد،وأجبرت الحكومة على فرض منع الجولان ليلا ،اتخذ الغنوشي موقفا إيجابيا مدينا العنف،ومنتقدا المتربصين بأمن البلاد واستقرارها.ونرجو أن يكون الهدف من سكوته عن البعض من قادة النهضة الذين لم يتفاعلوا مع تصريحاته الإيجابية،هو من باب الحفاظ على وحدة حركته وتماسكها،وليس &من باب التورية ،ومن باب تبادل الأدوار .كما نرجو أن يظل الغنوشي ثابتا في مواقفه هذه فيكون بذلك قد ضمن لنفسه احترام التونسيين،وتقديرهم ، وساهم في إعادة الإستقرار للبلاد التي لم تعد تتحمل المزيد من العبث بمصالحها على حساب المصالح الحزبية الضيقة.وإن هو دأب على ذلك فسيكون اول من يصالح الإسلاميين مع مجتمعهم، جاعلا من الدين وسيلة للتوحيد والتضامن،وليس أداة للتفرقة والتنابذ والفتن القاتلة.
&