"لا تخبئ الكلام فلن يرثه أحد ليقوله، ولا تؤجل الرسائل فقد تتغير العناوين وتموت حروفك"
&
يُحكى أن في إحدى القرى الصغيرة بمنطقة عفرين* كان هنالك رجلٌ مصاب بداء المعرفة المسبقة لكل شيء، ومتى ما طرح أحدهم موضوعاً أمامه حتى سبقه بالقول بأنه يعرفه من قبل، وفي إحدى المرات أرسل الرجل قريباً له الى البقالية لشراء علبة سجائر، حيث الطقس حينها كان ماطراً وما زاد الطين بلة هو وعورة جغرافية القرية المركونة لا تزالُ على كتف منحدرٍ قاسي، فتحدَّرَ الصبي وبعد المجهود الذي لاقاه في الطلوع والنزول، وقف بالباب وهو يلهث من أثر الركض ذهاباً وإيابا وقال لصاحب الحاجة: لم أجد ما طلبته من الدخان في المحل، فرد من فوره الرجل بكلمة أعرف، ومن شدة انزعاج الصبي الذي بلله المطر وأرهقه الصعود قال: ما دمت كنتَ تعرف فلماذا أرسلتني؟ فزمَّ الرجل شفتيه ولم يعرف بماذا يجيب.
ونحن بدورنا نتوجه بسؤالٍ مماثل الى من كانوا غير مبادرين إلى فعل ما هو خير للمجتمع، ضعفاء، غير مؤثرين على محيطهم الاجتماعي لا من قريب ولا من بعيد، ولا ظهرت على أغلبهم سيماء الإرشاد أو هيئة مَن يسعى إلى مد الجسور أمام الرعية، فأخفوا معارفهم وفضائلهم وقت الحاجة إليها يوم كانوا يلازمون ديارهم؟ ولكنهم ولمجرد أن غيَّروا أماكن سُكناهم حتى أظهروها للعلن ما لم يبدو عليهم من قبل، وصاروا أساتذة الفقه بكل الأشياء، وراحوا يُمطرون الناس بالنظريات والمواعظ ودروس &يومية عن فنون العيشِ وحقوق الأوادم وما يحيطونهم من الكائنات، فلماذا يا ترى لم يوظِّف هؤلاء علومهم ومعارفهم وقدراتهم الاصلاحية في بلدانهم وقراهم وشوارعهم؟ فهل العشيرة قمعتهم لأنهم علَّموا أطفالها فك شيفرة القراءة والكتابة؟ أم الدولة صادرت مكانسهم يوم بادروا بكنس أزقتهم؟ عموماً فمن بعض محاسن المواقف والوقائع الراهنة هو أن ما يبدو طالحاً لدى بعضهم قد يمد غيرهم بثراءٍ تخييلي لا يوصف، وهم أغنى ربما لدى البعضِ من فيلق الصالحين من الناس، مع الإدراك بأن بعض التصورات قد تكون مصدر امتعاض متقطع لدى قسمٍ من المتابعين الرومانسيين، وربما تثير مكامن الشحناء لدى البعض الآخر، إذ من محاسن السيئات أنها قد تحرِّض على إشغال الفكر أكثر من المحاسن ذاتها، وهذا التعارض السلوكي يُحيلنا بدوره الى رجلٍ مهتمٍ بنسف الكثير مما جاء في الموروث الشعبي، ومنها رفضه القاطع لفحوى المثال المتعلق بالذيل الأعوج للكلب، إذ كانوا فيما مضى يقولون: بأن ذيل الكلب وضعوه في القالب أربعون سنة ولكنهم بعد إخراجه فوجئوا بوجود كوعٍ زائدٍ فيه، وأن ثمة طعجة أضيفت بعد القولبة الى الذيل، ويبدو أن الرجل معه بعض الحق فيما يتعلق بمغزى المقول، خاصةً وأن صائغَ المثل يقصد به معشر الأوادم وليس مجتمع الكلاب، إذ أن واحدنا قد يلاحظ التغيير العجيب على أقوال وتحركات بعض البشر لمجرد أنهم غادروا مراتعهم وغدوا ضيوفاً في مضارب الآخرين، فإمكانك مثلاً أن ترى مَن كان قبل فراقه لمسقط رأسه ممن انشهر بضرب الزوجة والأولاد ليل نهار، تتفاجأ به وقد غدا من المدافعين عن حقوق النسوة على المنابر، ومَن كان بشدة يُعارض الاختلاط بين الصبايا والشباب في بلدته، تسمع به مدافعاً عن حقوق المثليين في فضائه الجديد، وذلك خلال فترة أقل من فترة إيداع الذيل وإخراجه من القالب، علماً أن النفرَ نفسه عندما كان ببلده كان من السهل جداً أن يقدرَ المرءُ تقليم أظافر جبلٍ ولا يقدر على إزالة شائبٍ بسيطٍ فيه، باعتبار أن تحجُّره كان أزود من طبع الجبل قليلا، هذا فيما يتعلق بمجمل أفكاره ومعتقداته وآرائه، بينما في الموقع الجديد، فصار يطل على الناس ككائن سلس، لزج، سهل الانقياد كالخرفان، وقابلاً للتحريك بجميع الاتجاهات التي ترسمها له قوانين البلاد التي صار ضيفاً على مرابعها.
والسؤالُ الباحثُ عن الجواب على نار الحقيقة، فهل يا ترى هم فعلاً ممن رموا كل عاداتهم القبيحة على تخوم الدول، وبالتالي غيَّروا جواهرهم وتخلَّصوا من مكامنهم المناهضة للقيم الإنسانية المعاصرة؟ أم أن سُبل الاعتياش فقط هي التي أخضعت بعضهم للمثول لأعراف وقوانين المكان الجديد؟ وأنه لمجرد أن ينقطع باب الحاجات التي تدر عليهم من غير مجهود، قد &يعودوا إلى ما كانوا عليه بنفس سرعة تقليبهم الأول، أي إلى سابق عهدهم في مزاولة عاداتهم القميئة، والمبنية أصلاً من مداميك الصلافة والتشدُّدِ والتخلف. &&
&
حلب بأقصى شمال سوريا
&