&

وجدت الأديان لكي تهذب خلق البشر، وتشجعهم على طلب العلم ولو في بلاد الصين، أو في كوكب المريخ، وأن يكتشفوا جمال الطبيعة وقوانينها، ليتمكنوا من تطوير حياتهم إجتماعيا وإقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا، ويسمو بها أخلاقا وسلوكا. ولذلك تطورت علوم الأديان والعلوم الإجتماعية والطبيعية والتكنولوجية مع تطورات المجتمعات البشرية، وتطورت معها آلاف الاختصاصات الدقيقة، وبرزوا علماء مختصيين في مختلف هذه الإختصاصات العلمية والاجتماعية والثيولوجية. ومثل كل شيئ في الحياة هناك الوسط، واليمين، واليسار، أو هناك سيكولوجية الإعتدال، أو التطرف، أو الحكمة. وقد استطاعت الأبحاث الإحصائية رسم هذه الاختلافات البشرية في ما سمي بمنحنى الجرس المقلوب، بحيث تحدد توزيع الاحتمالات في نطاق معين من القيمة، بين 95% في &الوسط و 2.5% في الطرفين الأسفل والأعلى. فمثلا يبين هذا المنحنى بأن 95% من الجنس البشري لهم طبائع متقاربة معتدلة، بينما هناك مجموعة في الجزء الأيسر أكثر حساسية وانفعالية ومزاجية وتطرفا، ومجموعة في الجزء الأيمن أكثر هدوءا ورصانة وتوازنا وحكمة. وينطبق هذا المنحنى على مختلف الشعوب، بل وعلى السياسيين والمفكرين، ومتخصصي المجالات العلمية والإجتماعية والطبيعية والرياضية. ولو رجعنا إلى رجال العلم وإلى رجال الدين لوجدنا بأن هذا المنحنى ينطبق عليهم أيضا، فحوالي 95% منهم لديهم فكر توسطي تناغمي معتدل، بينما هناك مجموعة في الطرف الأيمن، بنسبة 2.5%، أكثر أعتدالا وتناغما وتوازنا وحكمة، بينما هناك مجموعة في الطرف الأيسر من المنحنى أكثر إثارة وإنفعالا وتعصبا وتطرفا. وهنا هو بيت القصيد، فهذه المجموعة التي هي في الطرف الأيسر من المنحنى، لديها إعتقاد بأن هي دائما صحيحة في أفكارها وأفعالها، وبأن جميع العالم خطأ، وليس من واجبها أن تتآلف وتتناغم مع أفكار وتصورات العالم، بل على العالم أن ينصع ويركع لأفكارها وقرارتها. وهنا تكمن أساس المشكلة حينما يبدأ الحوار بين هاتين المجموعتين في الطرف الأيسر من المنحنى بين رجال العلم ورجال الدين، لينتهي النقاش بتكفير أو تحقير كل طرف لأفكار الطرف الآخر. ولكي أوضح هذه المعضلة ليسمح لي عزيزي القارئ أن نناقش نظرية النشوء والإرتقاء، والتي يفرضها علماء القسم الأيسر من المنحنى، كحقيقة رياضية مطلقة، بينما يعتبرها رجال دين القسم الأيسر من المنحنى، زيف وكذب وكفر وإلحاد.&
&
ليسمح لي عزيزي القارئ قبل الدخول في بعض التفاصيل أن نتفهم، بطريقة مبسطة، بأن جميع العناصر أو المواد الموجودة في الطبيعة، التي خلقها الخالق جلت عظمته، مكونة من وحدات صغيرة جدا تسمى بالذرة، كما أن جميع الكائنات الحية الموجودة مكونة من وحدات صغيرة جدا تسمى بالخلايا. ويبدأ تكون الإنسان من نصف خلية ذكرية أي الحيوان المنوي من الأب، ونصف خلية أنثوية، أي البويضة من الأم، وحينما يدخل الحيوان المنوي في البويضة، تتشكل خلية كاملة، وتبدأ بالإنقسام والتكاثر السريع جدا لتشكل أولا المضغة، ثم الجنين، ومن ثم المولود الجديد. ويتكون جسم المولود الجديد من أعضاء كثيرة كالجلد والعظم والعضلات والقلب والكلية والمخ، وجميع هذه الأعضاء تتكون من الخلايا. والخلية هي وحدة ميكروسكوبية صغيرة، وبها عدة مصانع بيولوجية متكاملة، منها مصانع تنتج الطاقة، ومصانع تنتج السكريات والدهون والبروتينات، ومصانع تنتج مواد كيمياوية معقدة، كالهرمونات التي تنظم العمليات الصناعية في الخلايا، وتنسق العمل بينها. كما توجد في مركز الخلية نواة كروية، تحتوي على المورثات، وتتكون هذه المورثات من "الجينات"، والتي تتكون من مادة كيماوية تسمى بال "دي. إن. ايه."، وهذه المادة بها شفرات، كشفرات برامج الكومبيوتر، ومهمتها أن تصدر الأوامر لمصانع الخلية، وتنظم وتنسق عملها. وهنا ننبه بأن الورم السرطاني يتكون أيضا من الخلايا، ولكن تتميز الخلايا السرطانية بجينات سرطانية، بها شفرات تأمر الخلاية لتتكاثر تكاثر مستمر فوضوي، غير منضبط وغير منتظم. كما تفقد الخلايا السرطانية ميزة إلتصاقها مع الخلايا المجاورة، لذلك يمكناها الإنتشار في جميع أعضاء الجسم، وإتلافه. فمشكلة الخلية السرطانية بأنها لا تعمل بتناسق، ولا بتناغم، مع خلايا الجسم الأخرى، وكأنها خلايا في الطرف ألأيسر من المنحنى، متطرفة، ومتعصبة، "وطائفية"، فلا تحترم ولا تعطي إعتبار لأحد، ولا تعمل مع الخلايا الأخرى، ولا تتعاون معها، بل تتصرف كما تشاء.&
&
وهنا، ليسمح لي عزيزي القارئ أن أناقش دراسة نشرت بالمجلة العلمية، أي لايف، كتبت عنها الأستاذه ميسون أبو الحب، تحت عنوان، صدفة أوجدت الإنسان قبل 600 مليون سنة، بصحيفة إيلاف الإلكترونية. وقد بينت هذه الدارسة بأنه قبل &ملايين السنين وقعت طفرة جينية "بالصدفة"، يعتقد العلماء أنها كانت وراء ظهور كل أشكال الحياة التي نعرفها اليوم على سطح الكرة الأرضية، حيث تحولت كائنات حية وحيدة الخلية، مثل البكتيريا، إلى كائنات متعددة الخلايا، اتخذت أشكالًا مختلفة، لا تعد ولا تحصى، وأحدها هو الإنسان. فقد حدث &تحويرًا داخل كائنات وحيدة الخلية قبل 600 مليون سنة، بتشكل جينات تأمر الخلية لصنع "بروتين إلتصاق"، ليدفع ذلك لاندماج الخلايا مع بعضها، وتكوين تجمعات من الخلايا، وهو ما أفضى في النهاية إلى ظهور أشكال كائنات حية جديدة متعددة الخلايا. كما تقدم هذه الدراسة أدلة تربك العقل عن انحراف "جيني" يحدث داخل الخلايا السرطانية، يعطل بروتين الالتصاق، ويجعل الخلية التوقف عن النشاط في إطار مجموعة تشكل هي جزءًا منها، وتبدأ بالتصرف مثل كائنات وحيدة الخلية. ويحاول العلماء معرفة تفاصيل بيولوجية أكثر عن بروتين الإلتصاق، فقد يستفاد منه في معالجة الخلايا السرطانية، التي تنفرد في نشاطها، ولا تلتصق بالخلايا المجاورة لها، لتنتشر في أجزاء الجسم الأخرى، وتتلفها.
&
ولو رجعنا لنظرية النشوء والإرتقاء، وإعتبرناها فرضية قابلة للخطاْ والصواب، وليست حقيقة مطلقة، لتفهم التطورات البيولوجية في الطبيعة، لربط آلية تكون الكائنات الحية ببعضها البعض، والتي خلقها الخالق جلت عظمته، يكون علينا من السهل تقبلها، بتناغم جميل مع عقائدنا الدينية. فالدين هو مفهوم مطلق بينما جميع العلوم الاجتماعية والطبيعية هو مفاهيم نظريات نسبية، معرضة للصح والخطأ، وتتغير حقائقها دائما مع تغير التكنولوجيات التي نستخدمها في دراسة وتقيم أبحاثنا العلمية. ولكن هذه المفاهيم والنظريات العلمية في نفس الوقت تساعدنا على فهم خلق الخالق، جلت عظمته، بطريقة شمولية، ومن خلال مفهوم الذرة في العناصر الجامده، ومن خلال مفهوم الخلية في الكائنات الحية. وقد يكون من أهم الأمور في نظرية النشوء والإرتقاء هو فهمنا للعقل البشري، حينما نجد شخصيات بعقول كمهاتما غاندي ونلسون مندلا، اللذان إستطاعا أن وقاية بلديهما من النزعات الدينية والعرقية المدمرة، بالوحدة، تحت راية الدولة والمواطنة والدستور. بينما نجد شخصيات بعقول الطبيب الدكتور الظواهري، الذي خلق البيئة المناسبة لظهور الاسلام السياسي المتطرف، كالقاعدة، والتي هيئة بيئة التطرف والعنف المناسبة، لظهور البغدادي ودولة الخلافة المتوحشة.&
&
وتبين نظرية النشوء والارتقاء بأن العقل البشري مكون من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول مرتبط بغرائز البقاء كالتنفس والجوع والعطشن والنوم وسكينة المؤى وغريزة الجنس. وقد بدأ تطور هذا الجزء قبل حوالي الستة مائة مليون سنة، في عقل ما سمي بالزواحف. وأما الجزء الثاني من العقل البشري هو الجزء المرتبط بالعواطف البشرية، كحب الأم لأطفالها، وقد تطور هذا الجزء من العقل البشري قبل حوالي 150 مليون سنة في الثدييات، بينما تطور الجزء الثالث من العقل البشري، المرتبط بالتفكير قبل حوالي 200 ألف سنة، مع بدء ظهور الجنس البشري المعاصر، في الجزء الشرقي من قارة أفريقيا، ليتعرف على الطبيعة وأسرارها، ويبدأ الصيد للمحافظة على توفر غذائه لبقاءه، ثم يتفهم كيف خلق الخالق جلت عظمته ماء المطر لكي يروي النباتات، لتنمو وتنتج ثمارا، مما أدى لإدراك عقل الإنسان بأهمية تطوير فنون الري والزراعة. وبذلك بدأ يزرع الجنس البشري، ويكون لديه محصول إضافي يزيد عن حاجته، ليبدأ في فهم فنون المعاملات والتجارة، ولتبدء تزدهر حضارات على ضفاف الأنهار الكبيرة، كحضارة ما بين النهرين وحضارة النيل. وليستمر العقل البشري في التطور والإبداع ليصل لعصر التكنولوجيا المتطورة، والإنسان الآلي، وتكنولوجية الاتصالات والمواصلات اليوم. &وفي نفس الوقت الذي يسمو العقل البشري بالتفكير، يمكن أن يرتد على نفسه في التطور، وينخفض مستوى هذا العقل لعقل الزواحف، فيتوحش فيقتل ويذبح ويحرق البشر، ويدمر البلدان. وقد أثبتت الأبحاث العلمية اليابانية للبروفيسور ياماناكا بأن الخلايا المتخصصة يمكن أن ترجع لأصلها البدائي الجنيني، بحسب الظروف المحيطة بها. وقد يعني ذلك بأن الخلايا المتخصصة في التفكير، يمكن تحت ظروف إجتماعية صعبة، أو ضمن بيئة كمياوية معينة، أن تتحول إلى خلايا بدائية تكون مستوها كمستوى وحشية &عقول التماسيح، لذلك يستطيع &هذا العقل البشري المتوحش أن يقتل ويذبح ويحرق براحة تامة، وبدون أي شعور عاطفي بشري أو ضمير إنساني.&
&
وقد تنزعج بعض العقول من هذه النظريات المتعلقة بالتطور لأنها تعتقد بأنها قد تخالف نظرية خلق آدم من الطين. ومع أن العلم علم نسبي، ومقبول فيه الحوار والنقاش، ومعرض للخطأ والصواب، بينما الدين عقيدة مطلقة، ليست للمسائلة وللنقاش والحوار، فلا يجب الخلط بين المطلق والنسبي. ولكن لو درسنا الأمور بهدوء، وحاولنا وصل مختلف الآراء والعقائد والنظريات ببعضها البعض بشكل تناغمي تآلفي جميل، ولو تأملنا في خلق الخالق، جلت عظمته، ونظرنا لكل الأمور بدقة متناهية، فلنجد بأن هناك نقطتين مهمتين: النقطة الأولى تتعلق بتفاصيل تحول الطين والتراب إلى الخلية ومن ثم إلى العنصر البشري، فهذا التطور أحتاج لحوالي 11.4 مليار سنة، في تصور نظرية النشوء والإرتقاء، أي منذ نظرية عملية الإنفجار الكبير، حيث إنفجرت البيضة الكونية وتناثرت أجزاءها في فناء الأكوان العظيمة، ولتبرد جزيئاتها المتناهية في الصغر، ولتتشكل أولا جزيئات الالكترونات كالبوزون، وجزيئات البروتون كالكواك، ولتجتمع بعدها البروتونات والالكترونات في مجال جاذبية مغناطسية ذرية عجيبة، ولتتشكل أول عنصر في جدول العناصر وهي ذرة الهيدروجين، وبعدها تندمج هذه الذرات مع بعضها ليبدأ تطور ذرات العناصر الأخرى التي تتجاوز المائة. ومع الوقت تبرد بعض هذه الكتل المتناثرة في الكون، لتشكل الأجرام السماوية بنجومها وكواكبها، ولتتشكل معها كوكبة الأرض، بطينها وترابها وصخورها. ومع الوقت تمر مراحل تطور تدريجية على سطح الأرض، من العصر الجليدي إلى العصر الحجري، ومنه إلى عصور تطور الماء والنباتات والأنهار والمحيطات والبحار. ولتبدأ مرحلة نمو المخلوقات حينما توفرت كمية وافية من الهواء والماء على سطح كوكب الأرض، ولتبدأ تكون الكائنات الوحيدة الخلية، ومنها تطورت مختلف كائنات البحر والبر، ولتنتهي بتطور الإنسان المعاصر بشكله اليوم.&
&
ولو تلاحظ عزيزي القارئ بان هذه النظريات تفسر بشكل غير مباشر فعلا تطور طين وتراب الكواكب، من الذرة، إلى الخلية، إلى الإنسان. ومع ذلك فهذه النظريات العلمية ليست حقائق حساب رياضية، فما هي إلا إفتراضات نظرية، لا تحتاج لأن يصدقها أو يكذبها أحد، ولا تتنافي أبدا ما ذكرت في الكتب السماوية، وليست هي إصلا حقائق مطلقة ليستبدل بها ما كتب في الكتب السماوية، بل ما هي إلا نظريات قد تكون خاطئة، ولكنها مهمة لاستطاعة فهم الإنسان لشمولية وتناغم طبيعة الكون الذي يحيط بنا، ومن خلال ذلك، يمكننا أن نتعرف على مختلف مظاهر الطبيعة وقوانينها، بل يمكننا أن نبحث في هذه القوانين ونجربها، وبذلك نطور بها علوم الفيزياء والكيمياء الرياضيات. بل ونستفيذ منها في التعامل مع المظاهر الطبيعية، وترسيخها لخدمة البشرية، بتطوير العلوم التكنولوجية، ومن ثم الاختراعات المتقدمة، ومنها نصنع تكنولوجيات متطورة لخدمة البشرية.
&
وبإختصار شديد، هناك دين وهناك علم، ولا أتصور بأن هناك أي صراع بين الدين والعلم. ولكن هناك رجال دين ورجال علم، وهنا تكمن المعضلة. فهناك ثلاثة أنواع من رجال الدين، &النوع المعتدل، ويمثل 95% من رجال الدين، الذين يركزون على مسئولياتهم الدينية، في شرح العبادات، والدفع لسمو الإنسان، من خلال خلق روحانية أخلاقية متناغمة، بينما هناك النوع الثاني في الطرف الأيمن من هذا المنحنى، ويمثلون 2.5%، وهي المجموعة الرصينة الحكيمة والتي تحاول أن تخلق نوع من التآلف والتناغم بين الدين والعلوم الطبيعية، بينما هناك في الطرف الأيسر من المنحنى، مجموعة تقدر بحوالي 2.5%، متطرفة في الطرح، ومنفعلة في الرد، ومتعصبة، فمصرة بأنه لا يمكن أبدا خلق تآلف وتناغم بين الدين والعلم، فكل ما يقال في العلم ما هو إلا كفر وزندقة وإلحاد، بل وحتى ما يقال عن الكرة الأرضية بأنها تدور حول الشمس، فهي بدعة كفر وبهتان، وحتى القول بأن الإنسان نزل على سطح القمر،هي خرافة كاذبة. وفي نفس الوقت هناك نسبة من العلماء في الطرف الأيسر من المنحنى، وهم أيضا متطرفين، لا يجدون أية مجال للتآلف والتناغم بين العلم والدين، بل ينكرون وجود الخالق جلت عظمته، بل ويعتبرون الأديان ما هي إلا أفيون للعقول، وخرافات جهل الأوليين. ولتنتج من هذه الخلافات صراعات فكرية حادة بين هاتين المجموعتين المتشددتين، وليؤدي للكثير من التطرف في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، والتي إنتهت بصراعات دموية، حرقت الأخضر واليابس، فقتلت ودبحت وحرقت وهجرت الملاينن من مساكنها وبلدانها. ولنتذكر بأن المجتمعات الغربية عانت من هذه المآسي قبل حوالي خمسة قرون، وأستمرت حروبها المدمرة بين رجال الدين ورجال العلم ورجال السياسة لحوالي مائة وخمسين عاما، حتى استوعبت أهمية الفكر التناغمي والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة في مجتمع المواطنة والدولة والدستور. &ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان