في نهاية كتابه "الوعي ضدّ العنف"،الذي خصصه لرجل الدين سيباستيان كاستيليون(القرن السادس عشر) الذي آتهم بالهرطقة من قبل كالفان وأتباعه، ومات كمدا ،كتب ستيفان زفايغ يقول:”لكن بعد المدّ لا بد من الجزر.والانظمة الاستبدادية تشيخ بسرعة وتموت بسرعة أكثر.والايديولوجيات وآنتصاراتها العابرة تموت مع موت عصرها.وحدها الحرية الفكرية ،الفكرة السامية والتي ليس باستطاعة أيّ احد أن يدمرها،تطفو على السطح لأنها أبدية مثل الفكر.وإذا ما لوحقت فإنها تتخفى لزمن معين في أعماق الوعي ،في منجى من القمع.وعبثا تظن السلطة أنها انتصرت على الفكرة الحرة لأنها قيدتها بالسلاسل".
هذه الفقرة أحالتني على الواقع التونسي خلال السنوات الخمس الماضية.فحال سقوط نظام زين العابدين بن علي،برزت على سطح المشهد السياسي والاجتماعي تيّارات ايديولوجية مختلفة ومتنوعة .وكلّ نصير من انصار هذه الايديولوجيات،وكلّ منظر من منظريها،راح يسعى لاقناع التونسيين ان الايديولوجيا التي يدعو اليها،ويبشر بها،قادرة على انهاء الاستبداد والفقر والظلم.وعلى مدى الاشهر الاولى من "ثورة الياسمين"،كان يكفي للواحد ان يقوم بجولة في "باب البحر" بقلب العاصمة التونسية،لكي يجد حلقات ينتصب في وسطها شبان وكهول وحتى شيوخ .وكل واحد من هؤلاء يمجد اما" الاسلام هو الحل"،أو الاشتراكية،أو الخلافة الاسلامية،أو القومية على الطريقة البعثية او الناصرية أو الثورة الدائمة التي كان يدعو اليها تروتسكي .لكن سرعان ما تبين للتونسيين ان اصحاب تلك الايديولوجيات لا يفعلون شيئا اخر غير زرع الاوهام والاكاذيب ،وبالتالي هم ليسوا قاديرن على حل مشاكلهم وازماتهم ،ولا تعدو خطبهم الرنانة ان تكون مجرد لغو وهذر.كما عاينوا ان اصحاب هذه الايديولوجيات لا يؤمنون حقا بحرية الفكر والراي كما هم يزعمون ،بل يمارسون الاقصاء ضد كل من يعارض ايديولوجيتهم او ينتقدها او يفضح خواءها وسطحيتها.بل قد يعمد البعض منهم للركون الى العنف والترهيب لفرض ارائهم على الاخرين.وعندما حذّر المناضل التقدمي شكري بلعيد التونسيين من العنف الاصولي ،ومن مخاطره الجسيمة التي قد تنسف المسار الديمقراطي ،وتعصف بالحريات العامة والخاصة ،قام مجهولون بقتله امام بيته في الضواحي الشمالية بالعاصمة ،وذلك في السادس من فبراير (شباط) 2013.وفي الخامس والعشرين من شهر يوليو(تموز )من العام ذاته،سقط برصاص مجهولين ايضا، ناشط سياسي اخر هو محمد البراهمي.وراحت الاعمال الارهابية تستفحل وتتسع يوما بعد اخر ليسقط الضحايا بالعشرات بينهم رجل امن،وضباط،وجنود ،وسياح اجانب كما هو الحال في عمليتي متحف باردو ،وعملية الفندق السياحي بمدينة سوسة اللتين الحقتا ضررا فادحا بالسياحة ،والاقتصاد الوطني.والان ،وبسبب النكبات والمصائب المتتالية التي ابتليت بها تونس في زمن"ثورة الكرامة والحرية"،بدات نسبة عالية من التونسيين تتبين ان الايديولوجيات قد تسكن اوجاعها لفترة قصيرة ،غير انها ليست قادرة على تقديم حلول دائمة وناجعة لمشاكلهم السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.كما انها ليست ضامنة لتحقيق الحريات التي يتطلعون اليها،والتي تجعلهم قادرين على ان يعيشوا حياة تتوفر فيها الديمقراطية في معناها الحقيقي والسليم.