المقدمة الأولى

تاريخ الفقـه

إرتبط الفقه على مر العصور بالشخصية الأكثر تأثيراً في المجتمع، وهذا الإرتباط نشأ من كون النبي (ص) هو المشرّع الأول والمصدر الوحيد للبتّ في المسائل حينها، وقد استورثت هذه الصفة مع رحيل النبي (ص)، وحين تشكلت معالم الدولة الإسلامية الأولى وتفرعت إختصاصاتها، صار الفقه بيد الحاكم، الذي تقمص شخص النبي (ص) باعتباره الحاكم المطلق بأمر الله.

لم يستطع الفقيه الخروج من سطوة الحاكم وتأثيره، سواءاً كان من رواد البلاط أو من المعارضين له، فكلاهما كتب تحت تأثير ودون تجرد، محاكياً الوسط الذي يعيشه. وكُتبت أحكامٌ للعالم الظاهري وأخرى للعالم المخفي، وكلا الفقيهين أسّسا لمدرسة خاصة، تحاكي الظرف الذي عايشه المريدون.

المدونات الفقهية الأولى كتبت بعد أكثر من 100 عام على ظهور الإسلام، وكتبت بأمر الحاكم. كانت عبارة عن حديث ومسانيد وجوامع وسنن، اعتمد كتّابها طريقة السماع وتتبع وقراءة ما موجود من مخطوطات بسيطة موزعة في بلدان المسلمين.

حين اعتمدت تلك المدونات بأمر الحاكم، ومضى وقت طويل على تداولها (عدة قرون)، تحولت إلى ثوابت مقدسة، ولأن التفقه وطلب الدراسة كان محدوداً، فلم يتجرأ بعدها أحدٌ المساس بنصوص تلك المدونات، لكن استحدث علم جديد يهتم بمن نقل تلك الأحاديث والمرويات، سمّي بعلم الرجال، أي نقلة الحديث، وهذا العلم جلب علماً آخر، وهو علم فحص رجال الحديث، أو ما يسمى بالجرح والتعديل في مسانيد الأحاديث، وهذا بدوره كبّر دائرة (الفوضى)، وتُركت النصوص على ما هي عليه وتوجهت الأنظار إلى عناصر أخرى.

وحين تشعبت الدولة الإسلامية وانشطرت إلى دويلات، بعضها متصالحة وأخرى متحاربة، تحول الفقه بموجب ذلك إلى فقه متصالح وآخر متحارب، يوازي مزاج الحاكم والطبقة المستفيدة التي توفر الحياة الرغيدة للفقيه وتتكفل بحمايته. ولا أثر لمن خرق تلك القاعدة من الفقهاء أو المتحررين من سطوة الزمن ( حاكم وظروف )، فالقاعدة تقول: المنتصر هو من يرسم حدود الحياة!

في ظل تلك الظروف، تشكلت في المجتمعات الإسلامية طبقتين، غنية سائدة وأخرى فقيرة مسحوقة، ولم يكن الفقيه بقوة تسمح له الركون إلى طبقة الفقراء والمسحوقين، وعليه، تشكلت معالم فقه، لطبقة الأغنياء والمنتصرين في الحروب، تنظم تفاصيل حياتهم من أحكام القتل والسبي ومُلك الجواري والعبيد وما أحلّ لهم من مغانم الحياة، وأهملت حياة عامة الناس ممن لا يستطيعون أو يرفضون حمل السيف في الحرب، من الذين عاشوا وماتوا في سحقٍ وانكسار وقلّة حيلة، أولئك الذين كانوا يبحثون عن حياةٍ تُحترم فيها إنسانيتهم.

توراثت الأجيال تلكم الأحكام حتى وصلتنا، نحن الباحثين عن الحقيقة، ولكن كيف وصلتنا؟

تفاصيل الفقه وجذورها هي من كتابة أشخاص عاشوا قبل قرون، حاكوا زمناً مجرداً من تفاصيل ما نعيشه اليوم، جاملوا حكاماً توعدوا بالسيف كل من يخالفهم، في مدوناتهم نرى العجب العجاب، فحديث يُحلّ أمراً ما وآخر يحرمه! وحادثة مروية بسند معتبر تنقل حدثاً ما، وبسند معتبر آخر تنقل نفس الحدث بطريقة مغايرة تماماً!

كانت جرأة الفقهاء في آخر مئة عام فقط في تغطية القليل من تلكم التناقضات والأحكام الغريبة، لكنها بقت كأصل في التشريع وإصدار الفتوى والإجابة، وصار النفور من الفقه واقع حال، قبالة التطرف في تطبيق الموروث القديم.

عليه، وجب علينا إدارك هذا المأزق التاريخي الذي مررنا به، وخلق ممكنات تعيد التوازن إلى هذا (العلم)، ليُستنقذ من سطوة التاريخ الذي سار فيه. لم يعد الوقت كافياً لنقد التاريخ أو محاولة فهمه بطريقة أو بأخرى، بل علينا تصحيح ما نراه يعرقل حركة الحياة التي نحلم بها.

..

يتبع

&

[email protected]