منذ أول يوم لتأسيس الدولة العراقية الحديثة كان للكرد دول كبير في تأسيس وتدشين الحياة السياسية والإدارية في الحكومات العراقية المتعاقبة فكانوا عامل اعادة التوازن الى المعادلة السياسية العراقية الصعبة والتي لا تقبل اي تخلخل وخلل فيها وكلما حدث أقل خلل في المعادلة سارع جميع الأطراف الى الكرد لكسب ودهم واعادتهم الى الواجهة مجددا مخافة ان ينفرد عنصر معين بإدارة الدفة لوحده وبالنتيجة حدوث المآسي التي تطال الجميع دون استثناء ولهذا كان رئيس الوزراء العراقي الأشهر في تاريخ العراق عامة وفي العهد الملكي خاصة المرحوم نوري سعيد باشا لا تخلو اية تشكيلة وزارية من وزارته الكثيرة المتعددة من وزراء كرد ولم يكن يقطع شعرة معاوية حتى مع الكرد الذين كانوا في بدايات عهدهم في التمرد والثورة على الحكومة الملكية العراقية آنذاك بل كان يتواصل معهم لإدراكه لأهمية وجود العامل الكردي في المعادلة التي يجهل الكثيرون جزيئياتها الصعبة والمؤثرة في اعادة التوازن في حال تواجده وفي خلخلته في حالة الغياب وكان حدس نوري سعيد في محله خاصة بعد الذي حدث في تموز من عام 1958 من ثورة في هيئة وصورة ثورة مسحت النظام الملكي من الوجود مع الإشارة مجددا الى ان علاقة آخر حكومة عراقية مع الكرد او مع الثوار الكرد كانت في قطيعة رغم ان آخر رئيس للوزارة في تلك الحكومة كان كرديا , اذ كان كردي الهوية دون الإنتماء الى عنوان يمثل الكرد الموجودين في كردستان آنذاك , فحدثت الثورة تلك وجاء الزعيم عبدالكريم قاسم ليعلنها جمهورية مع عدم تنصيب نفسه رئيسا للجمهورية! اذ زاول عمله الجديد كرئيس للوزراء مع بقاء منصب رئيس الجمهورية شاغرا وطيلة ما يقارب الأربعة سنوات ونصف.

ولكنه ومنذ أول يوم لإعلانه الثورة تلك سارع الى التقرب من الزعيم الكردي الأوحد آنذاك المرحوم (ملا مصطفى البارزاني) الذي كان يقضي ايامه في منافي الاتحاد السوفيتي الإجبارية بعد ان لجأ اليها مضطرا بعد انهيار جمهورية مهاباد الكردية بقيادة القاضي محمد وكان هو وزير دفاع فيها , مثلما قادت الأقدار الى ان يلتقي قاسم مع الوفد الكردي الذي زاره في قصره الرئاسي صبي صغير في الثانية عشر من العمر كان بصحبة والده واعمامه في ذلك اليوم من دون صفة رسمية ليلعب ذلك الصغير بعدها اكبر الأدوار في تاريخ الكرد والعراق حتى يومنا هذا وليكون شاهدا على مجيء الحكومات العراقية واحدة بعد أخرى ولتلتقيه لمرات ببساط أحمر وتطارده مرات أخرى بقصد قتله.

ولتمضي تلك الحكومات وتنتهي نهايات تراجيدية وليبقى هو مراقبا للأحداث من بعيد في وكره في كردستان حتى بلغت به الخبرة في مسايرة الحكومات العراقية المتعاقبة مبلغا وحدا صار فيه هو ملتزما جانب الصمت ازاء اية دعوة للحرب ضده او ضد شعبه ولكأنه يقول (ارى نهاياتكم قريبة فلا تستعجلوا).

فما هو السر في عدم التزام تلك الحكومات والى يومنا هذا لمنطق العقل والحكمة والإبتعاد عن التصريحات العنترية التي تصبح في خبر كان ولو بعد حين؟!

ان السر وراء ذلك كامن في الأعتقاد الخاطيء لدى المكون الذي يسيطر على الحكم في بغداد بأن سيطرته تلك ستدوم وتستمر الى ما لا نهاية واعتقاده الخاطيء في استحالة ازالته وازاحته ,وهذا ما حدث بعد نهاية حكم قاسم التي لم تكن بأفضل من نهاية الحكم الملكي ففي عهد الرعيل الأول من حزب البعث الذين تولوا الحكم في مطلع الستينات الذي استمر لغاية سنة 1968 حاول زعماء بغداد زرع الإنشقاق بين الكرد واستطاعوا شق الصف الكردي الى شقين ليأتي الرعيل الثاني من البعث في حكم أمتد لثلاثة عقود وتعلن ضرب كل مواثيقها وعهودها مع الكرد عرض الحائط خاصة بعد اتفاقية جزائر السيئة الصيت عند الأكراد ولكن المفاجئة كانت في ان كلا الشقين من الكرد اللذان كانا يختلفان في الكثير من المسائل اعلنا الحرب والثورة على الحكومة العراقية آنذاك ليستمر نزيف الدم بين الجميع لعقد ونصف حتى بلغت قسوة حكومة بغداد اقصى حد لها في نهايات اعوام الثمانينات بأستخدام اسلحة محرمة دوليا في (هلبجة) واعقبتها جرائم ال(أنفال) التي ادت الى مسح حوالي خمسة الاف قرية كردية مع سكانها من الوجود معتقدة بأنها بتجفيفها لمنابع ومصادر الغذاء والمأوى للثوار سوف تقضي على ثورة الكرد ضدها وليزيدها صمت العالم ازاء تلك الجرائم عنجهية وغرورا ولتسقط بعد اشهر قلائل فقط في فخ كارثة الكويت التي أدت في النهاية وبعد اشهر الى عودة الكرد بقوة الى مدنهم والسيطرة عليها مجددا ومع تحول كردستان الى تجذب المعارضين لتلك الحكومة من عام 1991 ولغاية السقوط التام على ايدي الأمريكان في مطلع 2003 وليصبح المعارضون الذين كانوا يتوسلون بالكرد كي يمنحوهم الإذن بالإقامة الى وزراء ورؤوساء حكومات ووزارات في بغداد ولتعود ريمة الى عادتها القديمة من دون اي اتعاض بالدروس القديمة الجديدة وهي كثيرة وكأن الزهايمر السياسية هو مرض يصيب كل من تسلم الحكم في بغداد.

في وقت تتحتم الحكمة ويحتم المنطق على الجميع إدراك اهمية الكرد في العراق فالمؤكد ان الكرد في معادلة المكونات الثلاث الرئيسية في العراق لايشكلون بيضة القبان وإنما هم القبان نفسه وكلما تخلخل الميزان ومالت كفته لطرف على حساب طرف آخر كان تدخل الكرد كافيا لتغيير المعادلة وهذه الحقيقة يجب ان يدركها ساسة بغداد الجدد الذين باتوا يلوحون بالقوة للكورد بين فترة وأخرى , فالصمت الكردي ليس دائما عن ضعف وإنما هو في الغالب عن خبرة متراكمة عمرها مائة عام من العيش داخل هذه المعادلة الصعبة.