&لفتت أنظار العالم الإنتخابات التمهيدية الأمريكية، لإختيار مرشحيي الحزب الجمهوري والديمقراطي، التي بدأت في ولاية أياوا، في اليوم الأول من فبراير الجاري، حيث برزت حقائق غير متوقعة، تعتبر مضادة للمؤسسة الأمريكية الضخمة، وهو "بروز" تيد كروز على حساب المياردير رونالد ترمب، وبرني ساندرز على &حساب السيدة هيلري كلنتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، والسيدة الأولى في فترة رئاسة الرئيس بيل كلنتون، والمدعومة من الشركات والمؤسسات الأمريكية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما الذي يجري في الإنتخابات الأمريكية لعام 2016؟ وأين قوة المؤسسات المالية الضخمة؟ فهل هناك ثورة إجتماعية أمريكية جديدة؟ وهل أمتد "الربيع العربي" للولايات المتحدة؟ وهل ستتحول الولايات المتحدة من رأسمالية تباين ثراء منفلتة، إلى ديمقراطية أوروبية إجتماعية منضبطة؟ &

&
&بعد ثورة عام 1917 بروسيا، بدأ يبرز تنافس بين نظاميين إقتصاديين، إشتراكية كارل ماركس، ورأسمالية آدم سميث. وقد حاول النظام السوفيتي، والنظام الصيني، تطبيق إشتراكية كارل ماركس من خلال الحركة الشيوعية العالمية، كما حاولت كثير من دول العالم الثالث والدول العربية تطبيق النظام الإشتراكي بمفهومه الإجتماعي، ومع الأسف الشديد أثبتت جميع هذه التجارب فشلها. وفي نفس الوقت حاولت دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة تطبيق النظام الرأسمالي، وقد نجحت في تطوير مجتمعاتها إجتماعيا وإقتصاديا وتكنولوجيا، كما إستطاعت أن تخلق طبقة متوسطة متعلمة ومدربة وثرية، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وتطورت معها مفاهيم حقوق الإنسان العالمية.
&&
ويرجع النظام الإقتصادي الرأسمالي المعاصر لعدد من علماء رجال الإقتصاد وعلى رأسهم، الإقتصادي الإسكوتلندي آدم سميث، وقد جمع نظرياته الإقتصادية، مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا، في عام 1776، في كتاب ثروة الأمم، والذي بحث فيه عن طبيعة وأسباب ثروة الأمم. وقد آمن سميث بالرأسمالية، فرفض تدخل الحكومة في الإقتصاد، ونادى بوجوب تركه لقوى السوق في العرض والطلب، والتي تستطيع "بيدها الخفية" أن تخلق التوازن المنشود. وقد حاولت الدول الغربية تطبيق رأسمالية السوق الحرة، ولكن في نفس الوقت منعت الإحتكار، وخلقت شبكة من الضمانه الإجتماعية في التعليم، والرعاية الصحية، وتأمين التعطل والتقاعد، لكي تحمي المواطنين من وحشية السوق.&
&
ومع بدايات سبيعينيات القرن الماضي، بدأت تقوى نظريات قوى السوق الحرة المنفلتة من الانظمة والقوانين، مع التخلص من القطاع العام، بخصخصته. وقد لعب الرئيس الأمريكي رونالد ريجن، ورئيسة وزراء بريطانيا، مارجريت تشر، دورا مهما في تخليص السوق الحرة من القوانين والأنظمة، كما أنهيا الدور الأساسي للقطاع العام، بل بيعت معظم الأصول الحكومية للقطاع الخاص. وفي نفس هذه المرحلة من التطور البشري، بدأت تتطور تكنولوجية الإتصالات والمواصلات، مع عولمة السوق الحرة، لتبدأ مرحلة جديدة من التطور للشركات الغربية العملاقة، ولتبدأ العمل على مستوى العالم بأكمله، ولتفتح لها مشاريع ومصانع وخدمات في كل رقعة على كوكبنا الأرضي. وبذلك فقدت دول الغرب السيطرة على شركاتها العملاقة، كما تهربت هذه الشركات من الضرائب، لتزداد أرباحها بشكل غير مسبوق، وليزداد ثراء المساهمين، ولتبدأ فرص للثراء المبالغ فيه، فمثلا 10% من مواطني الأمريكيين يملكون 80% من الثراء الأمريكي، بينما 68% يملكون 3% من هذا الثراء. ولتبدأ مرحلة جديدة من تباين الثراء العالمي، حيث أن 63 ملياردير في العالم يملكون ما يملكه 3.5 مليار شخص من سكانه.
&
وقد بدأ تباين الثراء يقلق دول العالم، ليصل لدافوس هذا العام، كما برز هذا الموضوع في صراعات إنتخابات الرئاسة الأمريكية، بل خصصت المجلة الأمريكية للشؤون الخارجية، فورنز أفيرز، عددها لهذا الشهر لمناقشته. &وقد نادى أبرز المنافسين في الحزب الديمقراطي، برني سندريز، بضرورة وقف زيادة الثراء والسلطة من يد القلة في القمة، في الوقت الذي كان يدافع الجمهوريين عن تباين الثراء بأنه ظاهرة طبيعية في النظام الرأسمالي، للمحافظة على المنافسة والإبداع، وإبتكار الإخترعات التكنولوجية الجديدة.&
&
وقد درس هذه الظاهرة بعمق البروفيسور روبرت ريش، وزير العمل السابق في أدراة الرئيس كلنتون، في كتابه الجديد، إنقاذ الرأسمالية، والذي يطرح فيه بأنه ليس هناك ما سمي بالسوق الحرة في النظام الرأسمالي، بل القانون هو أساس هذه الرأسمالية، وخاصة أنظمة الملكية، والاحتكار، والعقود، والأفلاس، والتي تم التلاعب بها من قبل لوبيات الشركات العملاقة، لتكون السبب في بروز تباين الثراء. ويؤكد رايش بأن القضية ليست تنافس بين الرأسمالية ونظرية اقتصادية أخرى، بل السؤال الرئيسي: هل الرأسمالية نظام إقتصادي لخدمة المجتمع ككل، أم لخدمة مجموعة صغيرة في القمة؟
&
ويجيب البروفيسور ربش على ذلك السؤال بقوله: "نحن في الولايات المتحدة وقعنا في شباك فكرة أن علينا الإختيار بين السوق الحرة أو الحكومة، ولكن في الحقيقة لن تكون هناك سوق حرة إن لم تكن هناك حكومة تنفذ القوانين، وبرلمان يشرعها. كما ان عبارة السوق الحرة، هي عبارة إلهاء كاذبة ومضرة، والتي تدفع بنا لإختيار ليس أساسي. فنظامنا الرأسمالي به سوق مرتبطة بأنظمة، وضعت من الإداريين والمشرعيين والوكالات والقضاة، ويتطور هذا النظام يوميا بالممارسة، وبآلاف مؤلفة من الطرق. والموضوع الحقيقي الذي يجب أن نتدارسه هو مراقبة من يستفيذ من هذه الإنظمة والقوانين، ومن هم أٌقوى المؤثريين في تشريع هذه القوانين؟ فيجب علينا اليوم بناء قوانين متطورة للرأسمالية، تتناسب مع تحديات العولمة، مع التركيز على أنظمة العقود والإفلاس، وقوانين الملكية، والتي تغيرت الكثير من أنظمتها خلال الثلاثة العقود الماضية، بسبب قوة اللوبيات التي تعمل لخدمة رؤس الأموال الكبيرة، والتي نجحت في تحسين أرباح الشركات العلاقة، بينما تؤدي في نفس الوقت لتردي الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية لباقي المواطنين."
&
ويعرض البروفيسور ريش أمثلة لنظرياته، فيقول: "فمثلا لو راجعنا لقوانين الإفلاس لنجد بأن شخص، كالميلياردير دونالد ترمب، إستطاع ان يعلن إفلاسه أربع مرات، ويعزل استثمارته الأخرى من الخطر، بينما لا يستطيع المواطن العادي أن ينقذ سكنه، حينما يفقد ثمنه في السوق، لأنه لا يستطيع الإستفادة من قوانين الافلاس، لتنظيم دفع ديونه المتراكمة. بل قد يبلغ المواطن السبعين من العمر وتبقى عليه ديون الدراسة الجامعية، لتستولي البنوك على معاشه التقاعدي لدفعها. &فقد غير المشرعون، بقوة اللوبيات البرلمانية، قانون الافلاس على مر السنين، لكي يفيد الدائنين الكبار والبنوك وشركات البطاقات الإتمانية والشركات العملاقة الأخرى، وعلى حساب مضرة المواطن العادي. كما أصبح موضوع الاحتكار من أخبار الماضي، بعد أن تركزت الخدمات في يد شركات قليلة، فمثلا احتكر الطيران ألأمريكي اليوم بيد اربع شركات عملاقة. كما كانت قبل ازمة عام 2008، خمسة أكبر بنوك في الوول ستريت تملك 25% من الأصول البنكية الأمريكية، بينما تملك اليوم 44% من هذه الأصول. بالإضافة بأن التأمين الصحي، تركز في أيدي مؤسسات عملاقة قليلة، لذلك أرتفعت أسعار التأمين الصحي بشكل فاضح، بعد أن قلت الأحتمالات المتوفرة. بل وتتكرر هذه الأمثلة في قطاع الأغدية، والطاقة، والتكنولوجية."
&
ويستمر البروفيسور في إستيائه ليقول: "وحتى راتبك الشهري يتوزع على هذه الشركات العملاقة لتقطع جزء كبير منه. ولو راجعنا عقود الوظائف لوجدنا بأن هناك قوانين تفرض على الشركات إختيار تحكيم إجباري، من قبل شركات قانونية تدافع عن الشركة، ضد موظفيها، والذي يؤدي لضعف قدرة التفاوض بين الموظف وشركته، مما يؤدي لانخفاض الراتب، وزيادة أرباح هذه الشركات. بالإضافة للقوانين التي تمنع الموظف المشاركة في عضوية النقابات، مما يضعف من قوة إتحاد العمال في الدفاع عن حقوقهم، وبذلك تنخفض الرواتب والعلاوات الاجتماعية، لتزداد أرباح الشركات العملاقة . فبهذه القوانين تقوى الشركات العملاقة، وتفتقر القوى العامله، لتنخفض رواتبها، بل ولا تستطيع تسويق عمالتها البشرية، في حين &تسوق هذه الشركات بضائعها، بأسعار هائلة، في الوقت الذي تدفع رواتب منخفضة لموظيفها، والذين يعمل الكثير منهم بالنظام الجزئي."&
&
وقد بدأت اليوم جميع الدول تركز على موضوع تباين الثراء، وذلك لكونه أصبح متطرفا في الإرتفاع، بل وحتى اليمين الأمريكي بدأ يشكو منه. ويبقى السؤال: ما الذي يمكن القيام به لوقف هذه الظاهرة الخطيرة وإصلاحها؟ ويقترح برني ساندرز، بضرورة رفع الضرائب على الشركات العملاقة، وزيادة الاستثمارت الحكومية، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتطوير أنظمة أخرى تحمي القوى العاملة، وخلق شبكة إجتماعية في الصحة والتعليم وتأمين البطالة والتقاعد. كما يناقش موضوع السوق الحرة نفسها، حيث يعتقد بأنه لم نستطع حتى الآن التعرف على العلاقة الحقيقة بين السلطة السياسية وبنية السوق، والتي ساعدت الأثرياء ضد الطبقة العاملة، كما يؤكد بأن هناك حاجة لسلطة تعويضية كالتي انشئت في العقود الثلاث بعد الحرب العالمية الثانية.&
&
ويبدو بأنه لن يكون هناك هذه المرة إنقسام في الإنتخابات الأمريكية بين اليمين واليسار، أو الديمقراطيين والجمهوريين، بل سيكون هذا الإنقسام بين المجموعة المدافعة عن المؤسساتية الأمريكية بصورتها الجديدة، والمجموعة المضادة لها. كما ان الجمهوريين المضاديين للمؤسسة الأمريكية في وضع انتخابي متقدم، فدونالد ترامب مع انه ملياردير، ومن جناح اليمين، ولكنه من أتباع النظرية الشعبية، المضادة للمؤسساتية الأمريكية، بينما يبقى بيرني ساندرز ممثل لدور المصلح شعبي، فيريد إنهاء تباين الثراء الفاحش، وخلق شبكة أجتماعية تحمي الطبقات الوسطى والفقيرة. وليس هناك أختلاف عن أن أتباع النظرية الشعبية مستمرون في الصعود في الإنتخابات الأمريكية القادمة، ولكن لا يعني ذلك بأنهم سيربحون في إنتخابات عام 2016.
&
وتبقى هذه الحركة، حركة "الربيع العربي" االشعبية، أكثر انتشارا اليوم، مع إنتشار السخط الشعبي من النظام السياسي الإقتصادي، الذي يثري الأثرياء، ويزيد الطبقة المتوسطة فقرا. &ويبدو بأن هناك نوعين من الحركات الشعبية الخارجة ضد النظام، فتجد البعض، مثل برني ساندرز، الذي يتمتع بنظرة ديمقراطية اجتماعية، ويعتقد بضرورة رفع الضرائب، وزيادة خدمات الشبكة الإجتماعية، وهناك اليمين الشعبي، الذي يفضل خفض الضرائب عن الطبقة الوسطى، بالرغم بأن ذلك سيؤدي لخفض كبير للضرائب على الأثرياء. كما أن هناك تداخل بين هاتين المجموعتين، فتريد المجموعتان حل لبنوك الوول ستريت العملاقة، كما يكرهون إتفاقية التجارة عبر المحيط الباسيفيكي، &ويعترضون على الرعاية الاجتماعية للشركات، كما أنهم ضد الصداقات الحميمة مع الشركات العملاقة، ويتحدثون دائما عن رأسمالية المحسوبية، لذلك هناك تشابه بين بلاغة الطرفين، اليمين واليسار، ولكن هناك خلافات أيضا، وكبش فداء اليمين هم المهاجريين والمسلمين والفقراء.&
&
ويكمل البروفيسر رتش نقاشه فيقول: "كما سيكون للثورة الصناعية الرابعة تأثيرات مهمة، فقد تنبأت في التسعنيات بأن تباين الثراء هو نتيجة للعولمة والتغيرات التكنولوجية، وتصورت بأن التعليم هو الجزء ألأكبر من الحل، ولكن أعتقد اليوم بأنه كانت أفكاري جزئيا صحيحة، وجزئيا خاطئة، فهناك عامل أكبر وهي السياسة، فالسوق بأكملها كانت متجه للأعلى نحو الثراء الفاحش، ولم يعد التعليم وحده كافي بوضوح، فدخل خرجي الكليات اليوم في إنخفاض، فحوالي 48% من الخريجين يقومون بأعمال لا تحتاج لشهادة جامعية أصلا. ولا يعني ذلك بأننا لن نستطيع عمل شيء، فالسوق من صنع الإنسان، ونستطيع بإصرارنا وجهودنا أن نخلق إنضباط في تعاملاتها، بفرض قوانين تنظمها." ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان