تقابلت لأول مرة ذات ربيع عسيري قبل سنوات مع الإعلامي جمال خاشقجي في بيت الصديق والأستاذ الدكتور محمد ال زلفة وكان معنا الشاعر المرحوم محمد الثبيتي رحمه الله والشاعر عبدالله الصيخان والصديق الدكتور سعيد القحطاني . واستمتعنا في ذلك اللقاء الجميل بتلك القيلولة الرائعة تحت شجرة العنب التي اختارها العزيز أبو خالد مكانا للحديث وتناول مشويات الغداء في بستان منزله بقرية المراغة.

&وبرغم ان حواراتنا كانت في مجملها ثقافية و سياسية تدور حول العالم الا ان الشعراء الثبيتي والصيخان يحلقون بنا بين ساعة وأخرى في أجواء الشعرالجميل فنطرب معهم على أبيات القصيد ثم نعود لنكمل الحوارات المتشعبة.
كان الأستاذ جمال خاشقجي في ذلك الوقت رئيسا لتحرير صحيفة الوطن وقد أخذنا مشكورا معه في جولة سريعة الى مقر الصحيفة التي لم يدم في رئاستها قبل ان تتم اقالته . وأذكر أنني كلما تفحصت ملامح الأستاذ جمال الهادئة بجسمه الضخم وبشرته البيضاء شعرت أنني امام تاجرقادم من الأقطار البعيدة &اكثر من ان اشعر أنني امام إعلامي سعودي وقبل ان يتحول الى كاتب سياسي أتابعه منذ فترة ناهيك عن كونه أيضا قد أصبح محللا سياسيا مشهورا على القنوات الفضائية برغم انه كان مراسلا إعلاميا حسب علمي منذ الثمانينات في افغانستان ولم نقرأ له ككاتب أو محلل سياسي الا في الفترات الأخيرة.
ما يلفت اهتمامي حول كتابات جمال وتحليلاته السياسية هو اندفاعه الشديد وراء كل ما يزيد من اشتعال حرب هنا أو هناك وكأنه تاجر سلاح &أكثر من كاتب أو محلل ، بل انني أعتقدت أن & &جمال ربما كان قائدا عسكريا لولا أنني أجده يفتقد الى أبسط معرفة للرجل العسكري الملم بفكر الحروب وظروفها وطقوسها حين يتحدث عن الحروب ويحللها وكأنه في استديو برنامج رياضي يحلل مباراة بين ناديي المريخ السوداني والأهلي اليمني. بل انني احسده على برودة أعصابه وهو يحفز على استمرار حرب أو اثارتها وكأنه رجل أعمال يشرب قهوته التركية ويشعل سيجارته الكوبية ويضع رجلا على رجل ويطل من نافذة مكتبه ليتفرج على المارة وهم يتصارعون على بضاعة تجارته التي عرف بذكاءه التجاري ان يسوقها للناس برغم ان في السوق ماهو أجود منها!
وربما أن جمال كان يعشق ان يكون جنرالا عسكريا فلم يسعفه الحظ او الظروف ان يكون كذلك ، وفي اعتقادي لو انه دخل المجال العسكري لأصبح من أهم الجنرالات في القرن الواحد والعشرين بسبب نزعته الحربية التي ندركهها في كتاباته وتحليلاته إضافة الى جسمه الضخم وصدره العريض القادر على حمل كل أوسمة ونياشين وأنواط الجنرالات العرب رغم كثرتها .
جمال خاشقجي .. لايملك موهبة الكاتب ولا المحلل ، لكنه يملك ذكاء المسوق لأراءه وليس لأفكاره... لأن صناعة الرأي أسهل من صناعة الفكرة ، وكل انسان قادر على صناعة رأي بغض النظر عن صواب الرأي او خطئه، لكن صناعة الفكرة وبالذات الخلاقة لايقدر عليها الا الموهوبون في مجالاتهم المتنوعة ، وجمال ليس موهوبا لكنه رجل عملي ومثابر في سبيل الوصول الى هدفه ولو كان لاعب كرة قدم لسجل العديد من الأهداف في مرمى الخصم ، لكن الأهداف في مرمى السياسة ليست كأهداف كرة القدم ...مثلما تحليل السياسة ايضا ليس كتحليل كرة القدم.
في كرة القدم يستطيع المحلل ان يمدح فريقه قبل المباراة واذا ما انهزم ذلك الفريق فانه قد يضع اللوم على الحكم او الحظ، اما في السياسىة فليس هناك من طريق للتملص من خطأ التحليل السياسي سوى برمي القلم في أقرب زبالة والبحث عن أية وظيفة غير وظيفة التحليل السياسي خاصة لو كان المحلل السياسي من النوع الذي يعتقد انه يحلل مباراة كرة قدم.
وما يزيد دهشتي عندما أقرأ تحليلا سياسيا للأستاذ جمال هو حماسه الزائد ان تقوم حرب هنا وتستمر حرب هناك وقدرته التسويقية لرأيه الذي لايستند على منطق سياسي او استراتيجي وكذلك استخدامه لمصطلحات سياسية كبيرة يتم اجترارها مثلا من تاريخ الحروب العالمية بكل شخوصها ورموزها ثم اسقاطها على حروب صغيرة مستخدما بهارات التخويف الكتابي فيذكرني بطفولتنا البريئة حينما كانوا اهلنا يخوفوننا بالأشباح الليلية كي ننام ويرتاحو من ازعاجنا الذي لايهدأ الا مع النوم ، &وما أحلى تلك اللحظات التي نأوي فيها الى الفراش لنغمض عيوننا كيلا نرى شبحا!
بعض المحللين السياسيين العرب في السنوات الأخيرة ولا اقصد هنا الاستاذ جمال ، جعلوا من الكتابة مهنة للمتاجرة خاصة وان الواقع العربي يفتقد الى المحللين السياسيين النابهين والملمين بأمور السياسة والحروب ، وقد يكون هناك من هم أجدر وأقدر على الكتابة والتحليل بكفاءة وأمانة ، لكن السياسي العربي في مهمته ليس أجدر ولا أقدر من المحلل السياسي مما يدفع السياسي دائما ان يبحث عن المحلل السياسي الذي يشبه ذلك المحلل الرياضي حين يشبع جوع جمهوره للتفوق فيوهمهم ان فريق الأخوياء القطري مثلا قادر على هزيمة فريق برشلونه وان اللاعب حمود ابوركبه في (طاش ما طاش) اكثر مهارة من اللاعب الارجنتيني ميسي!
لكن المحلل الكروي يستطيع ان يبرر هزيمة فريق الاخوياء بسبب تآمر الحكم البريطاني ضد الفريق العربي لصالح برشلونه، وكعادة اللاوعي العربي فهو دائما متخم بقصص المؤامرات ضد العرب &، ويستطيع المحلل الكروي أن يقنعنا بأن ماحدث لللاعب حمود ابوركبة في المباراة عندما لعب أسوأ مباراته ليس الا مجرد سحر وشعوذة من عمل البرشلونيين لتعطيل ابداعات اللاعب العربي عن التسجيل في مرمى الخصم وأنه لو تم الذهاب باللاعب ابوركبة الى &أقرب مشعوذ كي يقرأ عليه ويتفل &في وجهه عدة تفلات مع عشر لكمات وركلتين وعظة واحدة في أحد صدغيه ،فانه سيعود لممارسة كرة اليد بكل جدارة امام فريق خريبكة المغربي لكرة السلة!
اما المحلل السياسي فانه لو تورط &في تحليله السياسي الذي قد يقود الى نتائج كارثية ، فإنه لن يجد التبرير المقنع ولن يكون أمامه سوى الإختفاء عن عيون الناس التي لن ترحمه.
وبعض المحللين السياسيين العرب الذين وجدو في مهنة التحليل (الخنفشاري) مهنة تجارية يذكرني بقصة صديق عزيز قال لنا انه يوم كان صغيرا ضرب ابن جارهم بحجر حتى أسال دمه وهرب .. وظل بعض مثيري الفتن في الحارة يبلغونه تهديد ابن الجيران وانه سوف ينتقم منه .
يقول صديقي : مرت أشهر وانا أعاني من الخوف واتمنى لو ان ابن الجيران يقابلني فجأة ويضربني كي أتحرر من خوف انتقامه .. وفجأة حدث له ما أراد وقابله ابن الجيران ورماه بالحجر حتى أسال دمه .. فاذا بصديقي يركض الى أهله والدماء تسيل &ويزغرد فرحا .. وحينما سألوه عن السبب وراء فرحته والدم يسيل من رأسه قال لهم : ابشركم ان ابن الجيران قد انتقم مني وضربني!
وما اقصده من القصة ان بعض المحللين العرب يمارسون نفس الدور في اثارة مخاوف الدول كي يستمر الصراع ... والغريب في الأمر ان بعض وسائل الإعلام الغربية تستضيف الكثير من المحللين السياسيين العرب الخنفشاريين وتضفي عليهم مسميات ذات أصداء إعلامية رنانة لتحقق بتحليلاتهم السطحية اهدافا لايدركها المحلل السياسي ولا السياسي ذاته.. للأسف!
وبرغم انني أربأ أن يكون الأستاذ جمال خاشقجي من أولئك المحللين السياسيين الذين يتاجرون بأقلامهم وقد أبتليت بهم أمتنا وكأنهم وجدوا ظالتهم في الصراعات كي يشعلوها ويقبضوا ثمن اشعالها واثارتها ، تارة لمطامع وطموحات شخصية مادية ، وتارة لأهداف سياسية خفية تخدم أجندة ذات مصالح واستراتيجيات أبعد ، وبرغم إيماني أن جمال يكتب بإخلاص وبدون دوافع غير وطنية ، إلا أنني أتمنى له أن يبتعد قليلا عن التحليل السياسي ويواصل عمله كإعلامي ناجح سواء في محطته الفضائية الجديدة التي نتمنى لها النجاح أو في أي عمل آخر ، وهو من وجهة نظر متواضعة جدير بالنجاح في عمل ذي صبغة تجارية ... إلا السياسة!
&