&

تتراكم الاوجاع ويبدو انه لا شفاء منها!
كل يوم ، اقف في الحديقة الصغيرة لارى الشمس تطلع من جبهة البحر املا ان يكون يومي بلا نكد ولا تنغيص وبلا اخبار سيئة .غير ان املي سرعان ما يتبخر فيتعتم نهاري،وينعدم احساسي بجمال الطبيعة والحياة!
حدث لي هذا صباح السبت الموافق للسادس من شهر فيراير (شباط) الجاري . فقد كان رحيل الصديق والفنان المغربي الكبير الطيب الصديقي اول خبر صدمني على الفيسبوك.وها انا اترك مكتبي لاعود الى الفراش محاولا تضميد جرح اخر انتفح في القلب والروح.
لم يكن الطيب الصديقي ابن المغرب وحده،بل ابن تونس ايضا.فمنذ نهاية عقد &الستينات من القرن الماضي ،دأب هذا الفنان الاصيل الذي له قامة ووجاهة فناني القرون الوسطى في اوروبا، على التردد على بلادنا،مشاركا في مهرجاناتها،مقدما رؤى وافكارا للمشرفين عليها للارتقاء بها الى المستوى العالمي ، ومبرهنا على قدرة فائقة على التواصل مع كل من يلمس فيه حماسا للفن،والابداع،ورغبة في فتح افاق واسعة امام الثقافة والفنون بجميع الوانها .وكانت له علاقات وثيقة بكتاب وفنانين تونسيين من امثال الكاتب عز الدين المدني،والمسرحي رجاء فرحات،والفنان التشكيلي زبير التركي ،واخرين كثيرين.ومع هؤلاء عمل،مقدما اعمالا كان الهدف منها جعل الثقافة جسرامتينا بين المغرب وتونس .وخلال زياراته الى بلادنا، خصوصا في فصل الصيف، كان الطيب الصديقي يشاهد في سهرات قرطاج،أو الحمامات،أو سيدي بوسعيد،أو متجولا في "باب البحر" بلباسه المغربي الأنيق &الذي يزيده وجاهة وهيبة .وكان اصدقاؤه ومرافقوه يحرصون على التقاط كل كلمة ينطق بها.فقد كان فصيح اللسان،واسع المعرفة، متقنا للغة موليير،عارفا بالتاريخ ، وبالاداب والفنون ، محبا للشعر ، ومنه يغرف في اوقات الانس ما يزيده تالقا وحضورا في المجالس الكبيرة.وكانت له ظرافة تبيح له اختراق القلوب فلا توصد الابواب امامه ابدا!
وكان اول لقاء لي بالراحل العزيز في صيف عام 1981.وفي ذلك الوقت،كنت في بداية مسيرتي الصحفية.وكنت قد حصلت للتو على جواز سفري بعد انتظار طويل دام سبعة اعوام.وبعد ان زرت باريس ومدريد،انطلقت الى الدار البيضاء وبي رغبة في التعرف على اجواء المغرب الثقافية والفنية.وانا اطوف في الشوارع،عاينت من خلال الملصقات ان مراكش تعيش في تلك الايام على وقع مهرجان الفنون الشعبية تحت اشراف الطيب الصديقي.
وصبيحة اليوم التالي،نهضت باكرا لاركب الحافلة الى مراكش الحمراء وليس في جيبي الا مايكفي بالكاد ليوم واحد.حال وصولي الى هناك،انطلقت تحت الشمس الحارقة للبحث عن الفندق الذي يقيم فيه الصديقي.ولم اعثر عليه الا بعد عناء شديد.وفقت في البهو وانا على اسوء حال بسبب التعب والعرق.وكان من الطبيعي ان يرتاب موظفو الفندق وعماله في امري،وأن ينظروا الي كما لو انني مشرد ضل طريقه في حر الصيف.لكن لما علموا انني ارغب في مقابلة الطيب الصديقي،طلبوا من احدهم ان يرافقني الى المسبح لاجده محاطا بنساء جميلات ،وكانت له هيئة امير في اعلى درجات عزه ومجده.قدمت له نفسي واعلمتته اني ارغب في الكتابة عن المهرجان، فسارع بمنحي غرفة في الفندق الفخم لثلاثة ايام،وطلب من السائق ان يأخذني الى اي مكان ارغب في زيارته.فكانت تلك الايام الثلاثة بمثابة الحلم البديع .وبعدها توطدت علاقتي بالطيب الصديقي.وكنت اجد دائما متعة في الجلوس اليه،والتعلم منه سواء في تونس،أو في اصيلة، أو في الدار البيضاء.وكان دائما فصيح اللسان، بلاتكلف ولا تصنع ،وله تلقائية واندفاع الفنان الاصيل الواثق من نفسه ومن قدراته العالية،والمدرك ان الحياة لا يكون لها معنى ومذاق الا عندما يعيشها الانسان متحديا ازماتها ومصاعبها!
وداعا سي الطيب ...أيها الفنان الكبير والانسان الجميل!