1
.&
منذ أن ظهر الدين على وجه البسيطة، طغت على أذهان البشر أطروحة الخالق والموجد لكل شيء، وقدرته اللامتناهية وخلقه للكون ومن فيه بإرادته وبطريقة كن فيكون، حيث كل شيء فيه منظم ومصمم على نحو دقيق أوغاية في الدقة والإحكام ولا مجال للصدفة أو الإحتمالية أو التطور الطبيعي المستقل عن الاختيار الإلهي.&
غاص مفكرون وفلاسفة وعلماء وفقهاء، على مدى قرون طويلة، صراعاً مريراً بين هاتين الرؤيتين أو الأطروحتين العلمية والدينية، الفيزيائية والميتافيزيقية، المادية والغيبية أو الماورائية.&
الصدفة، وما يرتبط بها من مفردات ومفاهيم من قبيل، الضرورة والقدر والمكتوب والحظ والمصير والحتمية والفرصة، هل هي التي تحكم حياتنا ومعتقداتنا أم لا وجود لها على أرض الواقع؟ نحن نتعاط مع هذه المفردة بمعناها الجوهري العميق وليس اليومي المبتذل، والذي نسميه المصادفة، كأن نلتقي مصادفة بشخص لم نره منذ سنوات طويلة وطرأ على الذاكرة وفجأة يحصل اللقاء " مصادفة" لذا يعتقد الكثير من المفكرين والعلماء ورجال الدين أنه لا وجود للصدفة فكل شيء مكتوب ومصمم ومدروس ومنظم سلفاً ومنذ الأزل، من قبل قوة أو قوى، نجهل ماهيتها وطبيعتها وحقيقتها تستعص على مداركنا المحدودة، ولا تدركها عقولنا، هي التي تتحكم بمصائرنا. وكان الفيلسوف الفرنسي جون غويتون Jean Guitton، قد صرح في مقابلة معه في كتاب " الله والعلم" للشقيقين التوأمين إيغور و غريشكا بوغداونف :" إن ما نسميه صدفة ليس سوى جهلنا أو عجزنا وعدم قدرتنا على فهم درجة معينة من النظام العلوي الذي لا نراه".&
كان عالم الرياضيات الفرنسي العبقري هنري بوانكاريه يعتقد، في بداية القرن العشرين، إن بوسع العلم أن يضع نهاية، يوماً ما، لما نعرفه عما نسميه الصدفة"، وكتب في مذكراته :" قد يكون هناك سبب أو علة صغيرة تفلت من مداركنا عندما تحدث ولكن سيكون لها تأثير عظيم ومهم لايمكننا إلا أن نشعر به وندركه لكننا لا نفهم سبب وقوعه فنعزيه لما نسميه الصدفة. ولكن لو عرفنا على نحو دقيق قوانين الطبيعة وحالة الكون المرئي الذي نعيش فيه، في لحظة التأسيس والنشأة الأولية l’instant initial، فسوف يكون بإمكاننا أن نتوقع أو نتكهن بدقة الوضع أو اللحظة اللاحقة زمنياً، أي المستقبل". وهو الأمر الذي كان يؤمن به إسحق نيوتن في القرن الثامن عشر ولابلاس فيما بعد في العهد النابليوني. بيد أن الواقع يحتم علينا أن نتقبل فكرة أن ما وراء جدار الصدفة يوجد شيء ما غامض ومجهول أو لغز يستعص على الحل. آينشتين نفسه قال بهذا الصدد في مقابلة أجريت معه في 26 أكتوبر سنة 1929 من قبل ج, س, فيريك G.S.Viereck :" إن كل شيء مصمم من قبل قوى لا نستطيع السيطرة عليها فكل شيء محدد ومصمم بدقة من الحشرة إلى النجم. فكلنا، نحن البشر والنباتات وأغبرة النجوم، نرقص على إيقاع لحن غريب وغامض يعزفه عازف بعيد عن مداركنا، عازف ناي غير مرئي"والحال أنه لا يمكن أن تكون الصدفة هي هذا العازف المجهول لأن الأشياء لا تنتظم بفعل الصدفة كما يعتقد البعض ويضرب آينشتين على ذلك مثله الشهير :" إن الإعتقاد بفكرة أن النظام والتنظيم الدقيق للكون المرئي في كل جوانبه وحالاته التي لا تعد ولا تحصى، هو نتيجة صدفة عمياء، ليس لها أية مصداقية إلا إذا تقبلنا الفكرة العبثية التي تقول أنه بعد إنفجار مطبعة فإن كل الحروف سوف تسقط على الأرض وفق نظام وتسلسل القاموس" كما ورد في كتاب العلم والأخلاق والدين حسب آينشتين. أو إن القول بظهور الكون هكذا فجأة بالصدفة هو كما لو اعتقدنا أن طائرة بوينغ 747 سوف تتجمع وتتشكل لوحدها بعد مليارات السنين صدفة من الأغبرة الكونية الموجودة في حزام الكويكبات، كما صرح جيمس غاردنر James Gardner أحد أشهر منظري فكرة التعقيد". أو كما قال عالم الفيزياء والأستاذ في الكوليج دي فرانس كريستيان مانيان Christian Magnan في كتابه هل إن كوننا منظم على نحو لا يصدق من الدقة Notre Univers a-t-il été réglé de façon incroyablement précise ?، بخصوص التنظيم الهائل لخصائص ومعطيات الكون في لحظة الإنفجار العظيم:" إنه ترتيب أو تنظيم شيطاني من الصعب أن يعزى للصدفة وحدها". فإحدى هذه القوانين الجوهرية الأربعة للكون هي الجاذبية أو الثقالة Gravitation، التي بفضلها نبقى ملتصقين بالأرض وبالكرسي الذي نجلس عليه ولا نطير في الهواء، والتي عند حسابها وجدنا أنها أضعف بنسبة 1040 مرة من القوة الكهرومغناطيسية وهي القوة الثانية من القوى الكونية الجوهرية الأربعة التي تسير الكون المرئي، فماذا يعني ذلك؟ ببساطة أنه في لحظة حدوث الإنفجار العظيم لم يكن لدى الكون الناشيء فرصة واحدة من 10000 مليار المليار المليار المليار أن يقع على القيمة التي حسبناها للثقالة أو الجاذبية لو استند على الصدفة. أو لو تخيلنا الأرض برمتها وقد تحولت إلى رمال بسمك عشرة أمتار وإن حبات الرمال كلها من لون واحد عدا حبة واحدة حمراء فإن فرصة العثور على هذه الحبة من هذا الكم المهول من حبات الرمل بحجم الكرة الأرضية من أول نظرة واحدة هي نفس فرصة وقوع الكون بعد الانفجار العظيم على القيمة الحقيقة اللازمة والثابتة للجاذبية أو الثقالة التي وجدناها بالحسابات الرياضية. وهناك عدد كبير من الثوابت والقيم الجوهرية التي تحكم وتسير الكون منذ 13 مليار و 820 مليون سنة فمن أين جاء هذا التنظيم الدقيق والحسابات الدقيقة اللازمة لصيرورة الكون؟ ولقد زودتنا تجارب مسرعات ومصادمات الجسيمات الدقيقة الأولية كـــ LHC وأمثاله والتلسكوبات المتطورة كتلسكوب بلانك الفضائي، بمعلومات مذهلة تنهي مرة وإلى الأبد عامل الصدفة في نشوء الكون. من هناء جاء تصريح آينشتين الشهير في 29 أكتوبر 1927 إبان مؤتمر علماء الفلك والفيزياء والكونيات في بروكسل :" إن الله لا يلعب بالنرد " ورد عليه آنذاك زعيم الفيزياء الكمومية أو الكوانتية نيلز بور :" توقف عن أن تملي على الله ما يجب عليه أن يفعل". وهذا العالمان هما القائدان لفيزياء اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر، وعنهما وبسببهما عاش البشر سجالات عقيمة عن أصل الكون المرئي ومصيره وهل هو مخلوق من قبل خالق أم أزلي وأبدي موجود كما هو بلا بداية ولا نهاية، على مدى قرن من الزمن ونيف؟.&
الجولة الثانية التي خاضتها البشرية كانت في مجال البيولوجيا أو علم الأحياء وأصل الإنسان. فكل الكائنات الحية تتسم بصفات مشتركة مما دفع عالماً مثل تشارلز داروين Charles Darwin للتفكير بأنه قد يكون لجميع الكائنات المنظمة التي عاشت على الأرض أصل واحد أولي نفخت فيه الحياة نتيجة لتفاعلات معقدة، وإنه لو تأكدت صحة فكرته عن أصل الأنواع، فسوف يفتح ذلك طرقاً للبحث في أصل الإنسان. ولقد دون في مذكراته سنة 1837 إن الكائنات الحية تعرضت لتعديلات وتطورات وطفرات تطورية وليس هناك ما يمنع أن يكون الإنسان نفسه قد تعرض إلى نفس هذا القانون الطبيعي." أثيرت نقاشات صاخبة بعد صدور كتاب داروين الموسوم " أصل الأنواع L’Origine des espèces وأشهر تلك النقاشات المدوية كان في جامعة أوكسفورد إبان الاجتماع السنوي للجمعية البريطانية لتقدم العلوم سنة 1860 الذي كان داروين غائباً عنه بسبب حالته الصحية وكان المدافع عنه وعن نظريته عالم الأحياء توماس هنري هكسلي Thomas Henry Huxley ضد اتهامات وتهكم الكنيسة ممثلة بشخص أسقف أوكسفورد صاموئيل ويلبيرفورس Samuel Wilberforce الذي هاجم نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي وأصل الأنواع وتوجه لهكسلي بالسؤال الاستفزازي التالي :" هل تنحدر يا سيد هكسلي من القرد عن جدك لأبيك أم جدك لأمك؟" فرد عليه هكسلي متهكماً وبغضب :" لايوجد عار في أن أنحدر من أصل قرد لكن العار هو من أمثالك من الجهلة الذي يقحمون أنفسهم في مسائل العلم البعيدة كل البعد عن عقولكم الغارقة في الظلام والمسلمات الدينية الغبية".&
في سنة 1871، بعد مرور إثني عشر عاماً على صدور كتاب أصل الأنواع، أصدر تشارلز داروين كتابه "ذرية الإنسان والانتخاب المرتبط بالجنس La Descendance de L’homme et la Sélection liée au sexe"، والذي طور فيه موضوع التكاثر عن طريق الجنس عن البشر وأمثاله من الحيوانات ودور الانتخاب الجنسي في تطور البشر وقدم من خلاله رؤيته وبوضح وعرض مفهومه عن الأصل الوحيد للحياة مستبعداً حدوث فعل منفصل للخلق بالنسبة للإنسان، أي قام بنسف لأسطورة خلق آدم وحواء كأصل للبشر. فالبشر ليسوا ثمرة لخلق خاص فهم ينحدرون من أصل حيواني. لكنه عقب في خاتمة كتابه بالقول :" علينا أن نعترف أن ما يتمتع به هذا الإنسان من ذكاء متسامي أتاح له إمكانية اختراق سر حركة وتشكل النظام الشمسي، بيد أنه يحمل في طياته البصمة التي يتعذر محوها عن الأصل الذي انحدر منه" وما حدث ليس سوى تطور علمي محتوم على غرار التطور الكوني. فكما فعل كوبرنيكوس عندما أنزل الأرض من عليائها وجعلها كوكباً تافهاً عادياً كغيره من مليارات الكواكب، تدور حول شمسها مع بقية كواكب المنظومة الشمسية، واضعاً الإنسان في موقعه الحقيقي بعد أن كان يعتقد أنه يشغل مركز العالم وإهتمام خالقه، استمر داروين في نفس الطريق سارداً قصة الإنسان في سياق سلسلة طويلة من التطورات والقفزات أو الطفرات التطورية التي شهدتها كل الكائنات المنظمة، والحال أن داروين كان قد اتخذ مسافة مبتعداً عن الدين حتى قبل نشره لكتابه أصل الأنواع.&
نشبت معارك فكرية طاحنة اتسمت في بعض مراحلها بالعنف والوحشية، بين رؤية الأديان الميثولوجية عن قصة الخلق والرؤية العلمية الفيزيائية والبيولوجية عن نشوء الكون والبشر. وما تزال تدور رحاها إلى يوم الناس هذا لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية التي ينشط فيها تيار أتباع الخلق المباشر Les créationnistes الذين يريدون محاربة نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لداورين وفرض الرؤية الدينية عن الخلق في المدارس والمناهج التربوية. يعتمد أنصار الخلق الرباني créationnisme على النص الحرفي الوارد في الكتاب المقدس بشقيه التوارة اليهودية والأناجيل المسيحية وكذلك أتباع الديانة الإسلامية، ويستبعدون أية فكرة عن التطور البيولوجي للكائنات الحية ولا يقبلون بأي نقاش مع من يدعون أن الاعتقاد بوجود الخالق يمنع أي إمكانية للتفكير والتأمل في العالم، مثلما حرموا العالم غاليله غاليلو قبل أربعة قرون بأن يفكر بحرية عندما رد عليهم أن نية الروح القدس هي أن تعلمنا كيف نذهب للسماء وليس كيف هي حال السماء، فهذه مهمة العلم".&
هناك تيار آخر يحارب نظرية التطور والإنتخاب الطبيعية الداروينية وهو تيار التصميم الذكي intelligent design وبالفرنسية dessein intelligent وهي حركة منظمة وتتمتع بإمكانيات كبيرة ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في سنوات التسعينات من القرن العشرين وفتنت بعض الأوساط الإسلامية بها لا سيما في تركيا. وهذه الحركة لا ترفض على نحو قاطع مبدأ التطور الطبيعي و لا تجعل من عمر الكون مسألة مركزية مقدسة لكون تحددت ولادته في النصوص المقدسة بستة أيام لكنها ترفض الاعتراف بالحدث الطاريء والصدفة في آلية التحولات التي تحدث للكائنات الحية، وتضم الحركة عدد لا بأس به من العلماء والبيولوجيين والكيميائيين والأطباء والصيادلة وعلماء الرياضيات والفيزياء والفلاسفة والمفكرين الذي يرفضون فكرة الانتخاب الطبيعي غير الموجه وبدون التصفيات والتوجهات النهائية وإن كل تاريخ الحياة والكينونات الحية يخضع لهدف ومشروع ونية عاقلة، ويختلفون عن أتباع الخلق المباشر des créationnistes، الذين ينطلقون من النصوص الدينية لتفسير العالم والحياة، حيث لا يعنيهم ما ورد في الميثولوجيات الدينية ويأخذون بعين الاعتبار الفرضيات والنظريات العلمية والنتائج العلمية للتجارب البيولوجية الحديثة لكنهم يؤولوها باتجاه الهدف النهائي. ويعتقدون أن الكائنات الحية من التعقيد بمكان لا يجعلها مجرد ثمرة من ثمرات الصدفة فالمشروع الأسمى والتصميم الذكي هو وحده القادر على تفسير صفات ومزايا وخصائص الكون ومحتوياته الحية والعاقلة والذكية والمفكرة التي تمتلك وعياً. أي أنهم يستندون إلى العلة الذكية ويرفضون دور الصدفة العمياء في السيرورات أو العمليات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية التي تقود إلى عملية الانتخاب الطبيعي في تعقيد البنى البيولوجية التي يتعذر رفضها خاصة المعلومات الدفينة المعقدة والخاصة التي تحتويها الشيفرة الوراثيةADN.&
&
يتبع&
&