&
كنا في سجن بعقوبة المركزي عندما سمعنا من سماعة الراديو خبر سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية.. حاول مدير السجن كبت فرحتنا بقوله المتكرر.. لاتفرحوا..، فسيعود كل شيء لنصابه بفضل نوري السعيد. وانفتحت أبواب السجن ، وتتالت زيارات الأهل والرفاق لنا، ثم خرجنا على دفعات. وفي خارج السجن وبعد أيام سمعنا نبأ اعتقال وقتل نوري السعيد بطريقة مقززة ووحشية، بعد مذبحة العائلة المالكة التي تمثل لطخة في جبين الثورة. وتسممت أجواء الفرح والانطلاق بممارسات السحل في الشوارع وتصفية الحسابات حتى الشخصية. وكتب شيوعي طيب في الصحف: السحل ابتكار ثوري ، جدير بالاقتداء. وسرعان ما تصدعت العلاقات الوطنية بفعل خروج البعثيين والناصريين عن ميثاق جبهة الاتحاد الوطني، بدعوتهم الى الوحدة الاندماجية الفورية مع العربية المتحدة. وتحولت الخلافات الى صدامات قومانية-شيوعية، واندلعت أحداث الموصل وكركوك المأساوية برغم كل تلك الأجواء العاصفة، استطاعت الثورة بزعامة عبد الكريم قاسم تحقيق انجازات كبرى، وبرغم قلة الموارد النفطية. لقد تم بناء مدينة الثورة للكادحين وتوسعت بغداد ووتيرة العمران على نطاق العراق. واستردت الثورة حقوقا نفطية وخرجت من حلف بغداد وقام الزعيم قاسم بتوزير وزيرة شيوعية. وكان توزير امرأة هو الأول من نوعه في الدول العربية. وسن الزعيم القانون المدني للأحوال الشخصية، الذي ضمن مساواة الجنسين، والذي سارعت المرجعية الدينية الشيعية الى شجبه، ومعاداة قاسم واليسار الذي كان يؤيده.. كما ان حزب الدعوة الذي نشأ سرا كان يتعاون ضد الثورة مع الحزب الإسلامي الاخواني.
في فترة 59-60 تمت منجزات كبرى بفضل شخصية عبد الكريم قاسم، وحبه العارم للعراق وللشعب العراقي، ولا سيما للطبقات المسحوقة. ولكن الرياح لم تجر بما تشتهيه السفن. فبعد أحداث كركوك توترت العلاقات مع اليسار الشيوعي، وخرجت الوزيرة، المرحومة نزيهة الدليمي من الوزارة وتتالت عمليات اغتيال الشيوعيين في بغداد والموصل. وتعرض قاسم لمحاولة اغتيال بعثي، وانزلقت الحركة الكردية الى صدام مسلح مع النظام الجديد، في خطأ تاريخي ، اعترف به قادة أكراد فيما بعد. وخلال ذلك تفاقمت دسائس ومؤامرات البعث وعبد الناصر وايران الشاه وشركات النفط والولايات المتحدة، وبعض دول الجوار، بينما كان قاسم يمارس سياسة التساهل مع متآمرين معروفين ومكشوفين. وفي 8 شباط تم تنفيذ الانقلاب الدموي، البعثي – الناصري، وكان الضحية الأولى الطيار الشهيد جلال الاوقاتي، الذي كان جارنا.. وتم اعتقال المئات وقتلهم تحت التعذيب الوحشي، وكانوا من خيرة أحرار العراق والمناضلين من اجل الحرية والديمقراطية. وكان اغتيال الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم أمام عدسات التلفزة ، المثال الأبرز لمدى خسة وجبن ووحشية الانقلابين، الذين لم يرف لهم جفن وهم يقتلون بنذالة زعيما كان العراق كل ما يفكر به، وكان مثالاً للنزاهة ونكران الذات. بالعكس ممن جاؤا بعده ولا سيما في المرحلة الحالية.
لقد اغتيلت الآمال مع اغتيال الثورة وزعيمها. ولو نظرنا الى الوراء، لكان بالإمكان في نظري، استخلاص التالي:
1- كان مستوى القيادات السياسية على اختلافها دون ما كان مطلوبا منها.
2- لعب الصدام الشيوعي- البعثي دوراً تدميريا كبيراً.
3- اليسار من جانبه لم يراع الظروف والملابسات الداخلية والإقليمية والدولية، ولا سيما حينما طالب في الشوارع بتمثيل الحزب الشيوعي في الحكم تحت هتاف: حزب شيوعي في الحكم مطلب عظيم. وكان ذلك قبل توزير الدليمي، كان اليسار مستعجلاً . وقد انتقد الحزب الشيوعي نفسه في فترة ما على تشدده في المطالب، وتصرفاته وكأنه الوصي الأوحد على الثورة.
4- كان العامل الأكبر لانحدار الثورة ، تكالب الأعداء الخارجيين والداخليين، وأيضا تساهل الزعيم أحيانا عندما كان الوضع يتطلب الحزم.
مهما يكن، فان ثورة 14 تموز صفحة ناصعة في حياة وتاريخ العراق، فمجدا لها ولزعيمها ، وتحية لذكرى شهدائها الأبرار.
&