&
كتب المبدع والفنان الفرنسي المتميز بجنونه وجرأته ومخيلته الخصبة، وصاحب تيار مسرح القسوة، ومؤلف كتاب المسرح وقرينه، أنطونان آرتو، في كتابه الملحمي "صرة النسيان" : "لم يكن المركز سوى فسيفساء من الشذرات، نوعاً من المطرقة الكونية الشاقة، ذات الثقل المشوه، تتهاوى بلا انقطاع كجبهة فوق الفضاء، ولكن بضوضاء مقطرة. وحيث الالتفاف والإحاطة الصوفية للضجيج احتوتا اللحظة البليدة وتوغل النظرة الحية". وكأنه يتحدث هنا عن كونه السوريالي المتخيل، ولكن علينا أن نتحدث عن كوننا الواقعي فما هو؟
قد يكون الكون الذي نعرفه برمته، هو كل ما يحيط بنا، ما كان وما سيكون، من أصغر الجسيمات إلى أكبر المحتويات، الموجات والكلمات، الطاقات والأشياء، ونحن منها بطبيعة الحال، هذا الكل الهائل، ليس سوى تفصيل تافه وجسيم أصغر من اللا متناهي في الصغر، نسبة للمطلق الوحيد الذي يسبح في فضائه عدد لا متناه من الأكوان، وهو حتماً سيكون في ذروة التطور الكوني الأشمل. ثم علينا أن نتساءل هل تلك الذرات أو الجسيمات ـــ الأكوان متداخلة أو متجاورة في نفس الفضاء، أم في خلاءات متعددة لا تعد ولا تحصى، متشابكة أو متوازية، تقودنا لنتخيل نوعاً من البنية الدولابية لعوالم مهولة أحدها في بطن الآخر؟ إنها صورة تخمينية افتراضية متخيلة تضاربية في ناحية، أو عقلانية قابلة للتصور في ناحية أخرى، وفق ما تقترحه علينا الفيزياء المعاصرة وعلم الكونيات في أحدث طروحاته. إنها على الأقل إحتمالية تتوافق مع كل ماهو معروف ومفهوم ومتقبل.
&قد لاتكون الفيزياء التي تتعاط مع هذا الموضوع فريدة أو موحدة بذاتها بقدر تفرد وتوحد العوالم التي تصفها. والحال إن التفكير العقلاني يواجه اليوم تنوعاً لا سابقة له في هذا المضمار. هل سيتفكك لوحده أم يعيد تطوير نفسه إلى درجة تستدعي إعادة تطوير الأسس القائم عليها التعاطي الجديد مع الكون؟
إن تاريخ العلوم، في جزء كبير منه، هو قصة التدرب والتعلم والتجريب والتواضع. أطلق عليه سيغموند فرويد مصطلح" الجراح النرجسية" فسقوط عرش المركزية الأرضية لم يكن بالأمر الهين أو السهل. فكانت عملية فهم وتقبل أن الأرض لم تعد هي المركز للكون وقطب الاهتمام، كما كانت تقول الأطروحات الثيولوجية ــ الدينية في سفر التكوين في التوارة وفي القرآن " خلق الله الأرض في ستة أيام"، وتصورتها الكنيسة المسيحية على غرار تصورات بطليموس، مسطحة كالقرص، وعلى سطحها تعيش الكائنات والجبال والأنهار والبحار والنباتات والبشر والحيوانات وفوقها قبة السماء، تزينها مرصعة بالنجوم لإضاءتها والشمس في خدمتها لتدفئتها، وهي التي تدور حولها مع باقي الكواكب والنجوم ـــ وكان ذلك بمثابة تطور ومخاض مؤلم لا بد منه. ومن ثم بات على العقول أن تتقبل أمراً آخر أكثر مشقة وهو إنزال الإنسان من عليائه واعتباره حيواناً من بين حيوانات أخرى، ولم يكن حتى من أبناء عمومة القرود أو منحدراً من سلالة أحد القرود العليا، بل هو أحد القرود المتطورة وهو ما لم يهضمه الناس بسهولة في القرون المنصرمة. لقد أغلقت دائرة السجال حول هذا الموضوع منذ زمن طويل بعد أن فرضت نظرية التطور والانتخاب الطبيعي لتشارلز دارون نفسها ورسخت جذورها في الساحة العلمية ولم يعد هناك شك في الأوساط العلمية الجادة بصحتها، والحال إن التفكير بالإنسان داخل الطبيعة وليس متعارضاً معها بات اليوم ضرورة أخلاقية بقدر ما هو بديهية بيولوجية، ومع ذلك ما تزال بعض الشكوك تحوم بين الفينة والأخرى إلى يوم الناس هذا. وهي إشارات تفوح منها روائح عفنة ناجمة عن دوغمائيات المركزية البشرية أو بقاياها على الأقل، والمعتقدات المتمركزة والمهيمنة على العقول، والمستقرة في غطرستها المتعجرفة. لذا ليس من المثير للدهشة القول إن فكرة حرمان الكون المرئي نفسه من قاعدة التمثال التي يستند عليها ألا وهي فرادته، يثير نوعاً من الامتعاض لدى التقليديين من العلماء إن لم نقل المعارضة الجلدية كالطفح الجلدي على شكل بثور يبثها الجلد على سطحه دلالة على الرفض.&
هناك معنى جلي وواضح جداً لتطور تصوراتنا وتمثلاتنا للكون وتجلياته في عقولنا. في البدء كانت الرؤية ذات مركزية قطبية او استقطابية، مانحة الأرض موضعاً متميزاً جداً ومفضلاً على كل ما سواها. ثم غدت تمحورية إهليجية أو هليو ـ محورية، معطية للشمس دوراً غالباً ومسيطراً. ومن بعد أصبحت مجرية ــ مركزية مانحة أهمية قصوى لعناقيد وحشود النجوم التي تشكل المجرات ومنها مجرتنا درب التبانة أو الطريق اللبني، حيث اعتقدنا أن الكون لا يتعدى حدود مجرتنا، ولاحقاً باتت الصورة كونية مركزية معتبرة كوننا المرئي هو الكل ولا شيء غيره و لا يوجد ما وراء أفقه شي. واليوم تهتز هذه الصورة وتتشوش ويعاد طرح مسألة إمكانية حدوث تطور كوني جديد بفضل التقدم العلمي والتكنولوجيا المتقدمة والنظريات العلمية، وها نحن نخطو خطورة أخرى ــ قد لا تكون الأخيرة قطعاً ــ نحو لا مركزية راديكالية لكوننا المرئي ونزوع نحو الوسطية، وربما إلى الانتشار القاطع والحدي للأكوان، بمفهوم مشترك، علمي وفلسفي، يتوزع بين النسبي والمطلق. فكل شيء نسبي و لا يوجد سوى مطلق واحد هو الوجود الكلي الشامل الحي الذكي وفي حالة تطور دائم.&
في كل مرحلة كنا نعتقد ونؤمن أن كل بنية سابقة هي وحيدة وفريدة من نوعها وبالتالي مركزية واليوم وصلنا إلى أننا يجب أن نعتبر كوننا المرئي، الذي لا نعرف منه سوى 5% فقط من المادة والطاقة المعلومة و 95% منه لا يزال مجهول لدينا ومخفياً عنا لا نعرف عنه شيئاً على الإطلاق سوى تكهنات وافتراضات وحسابات رياضية مجردة، رغم ما نعرفه عن مئات المليارات من المجرات ومئات المليارات من النجوم في كل مجرة تنتشر على مدى 42 مليار سنة ضوئية من المسافات. فليس بوسع أحد أن يعرف اليوم على وجه الدقة أين ذهبت المادة المضادة في كوننا المرئي ولا ما هي طبيعة وماهية المادة السوداء أو الداكنة والطاقة السوداء أو المعتمة في كوننا المرئي ذاته فما بالك بمكونات الأكوان الأخرى؟ ولم يعد كوننا المرئي في نظر العلماء اليوم سوى نموذج بسيط وعادي غائص في محيط بلا قاع ولا حواف ممتد إلى اللانهاية من المكان الذي يحتوي على عدد لا متناه من الأكوان ــ الجسيمات.&
يمكن أن يتجلى التعدد الكوني ويتفاعل على نحو ضعيف، داخل حيز مكاني لا محدود و لا نهائي تتغاير وتتنوع فيه الظواهر من عالم لآخر، ولكن تبقى القوانين المسيرة لها هي ذاتها، واحدة متشابهة، أو على نحو قوي، على شكل فقاعات كالتي تشكلها رغوة الصابون، وهي الفقاعات ــ الأكوان، لا تحكمها ولا تسييرها نفس القوانين ولا نفس المبادئ الفيزيائية.&
إن التنوع المفترض لما يمكن أن ينتشر قد يتجاوز الخيال. فبعض التخمينات والتوقعات أو التكهنات تتعلق بوجود تعدد أكوان تمتلك مصداقية كبيرة نظراً لكونها ناجمة عن نظريات علمية رصينة ومعروفة ومختبرة تجريبياً وهي جزء من نماذج طاغية ولو بطريقة غاوية. وهي تكتفي بالتفحص على نحو أفضل واستغلال ما هو معروف ومتداول أصلاً، والبعض الآخر المبني على عدد من التكهنات والتوقعات، فهي على العكس تخمينية وافتراضية بدرجة قصوى لكونها ناتجة من نماذج كونية، مهما كانت جذابة وأنيقة ومغرية، إلا أنها لا تتمتع باي سند تجريبي. وينبغي تمييزها بدقة متناهية.
إن هذا النوع من الأكوان يطرح العديد من الأسئلة الجوهرية بشأن طبيعة العالم وطبيعة العلم وحقيقتهما، وحول معنى أساطيرنا وخرافاتنا، بل وحتى حول إمكانية تقديم تعريف لهذا المعنى أو الجوهر.&
ومهما كانت الاستنتاجات التي سنستخلصها من المجابهة مع هذه التصورات إلا أنها تثير تساؤلات لا تسبر أغوارها والتي تسعى بعض الممارسات التقنية والفيزيائية إلى إخفائها أو وضعها طي النسيان أو حتى تجاهلها أو نسيانها بل وربما حذفها. ومن ميزاتها أنها تثير الحنق واللغط والامتعاض. ويمكنها أن تشكل محركات غير مكتملة قد تقودنا نحو اكتشافات لا سابق لها أو عودة الإنسحار أو الانبهار بما كنا نعرفه معرفة سطحية ولم ندرك أبعاده الحقيقية. وبكل الأحوال فإن ملامح العالم موضع الاهتمام سوف يعاد رسمها وتحديدها من جديد.
الكون النسبي والوجود المطلق:
أي عالم؟ وهل هو واحد أم متعدد؟ هناك تضارب في المصطلحات والمفاهيم وخلط وإبهام ينبغي الوقوف عنده لبرهة. هناك الإستحالة والإمكان، وهناك الإرداف الخلفي وهناك تناقضات في التعبير. فلو كان الكون univers هو كل شيء، فهو بحكم هذا التحديد وحيد وكلي. وباللغة اللاتينية نقول universum وهو تعبير مركب من uni و versum، ويوحي بأنه ينحو نحو الواحد، يتجه لما هو جوهرياً موحداً في قاعدة هدفه ومصبوباً بنفس الاتجاه ومتمكناً من مفرداته. تقدم لنا اللغة الإغريقية تعبيراً آخر هو cosmos كوسموس، والكلية معنية بهذا التعبير أيضاً، وهي فكرة عن النظام تحمل نفس الطبيعة وبصيغة معقولة ومريحة وذات هارمونية وتناغم واتساق ومقبولية، صورة ذات جمالية خفيفة تكاد تكون عقيمة، لكن الوحدة تبقى هنا أساسية.
يدعونا الإطار العلمي لإعادة النظر والاعتدال في هذه المقبولية لمفهوم الكون univers، فالمنهج العلمي لا يقدم تعريفاً واحداً جامداً وغامضاً أو مبهماً بل يفرض علينا، على نحو ما، حصر مدى سعة هذا المفهوم.
من المعتاد في الكوسمولوجيا الفيزيائية إطلاق تسمية كون univers على المنطقة المكانية المرتبطة بنا سببياً، بعبارة أخرى، كل ما يتضمن تفاعلاً معنا، مما يعني تعريف الكون على أنه ما يوجد في كرة يتناسب نصف قطرها مع المسافة الأبعد التي يمكننا رؤيتها من خلال استخدامنا لأكبر وأقوى التلسكوبات، والقادرة على رصد كل أنواع الكيانات الموجودة. وبسبب محدودية سرعة الضوء وثباتها على 300000كلم/ثانية، فإن المسافات التي يمكننا رصدها تقنياً ليست لامتناهية البعد وكل ما وراء الأفق الكوني المرئي تلسكوبياً يبقى خفياً وغير مرئي مهما تطورت أجهزتنا الرصدية ومسابرنا الفضائية. ففي ما وراء ذلك يقبع المجهول بعينه ولا يمكننا التعاطي معه إلا من خلال الخيال العلمي، وما يجري هناك ليس له أي تأثير على مجريات وتفاعلات الكون المرئي ولا حاجة علمية لإدراج هذا الماوراء شبه الغيبي في مفردات ومكونات وبنية وهندسة كوننا المرئي فهذا الأخير محدود بما نعرفه عنه من الناحية المبدئية.
ومهما كان تعريفنا التقريبي في هذه المرحلة، فإنه مع ذلك يشهد على حدوث تطور جوهري مقارنة بما كنا نعرفه وما كونا عنه من رؤية في المرحلة الابتدائية أو الأولية التأسيسية، فلم نعد نتحدث عن الكون بالمطلق بل عن كوننا المرئي أو المنظور والمرصود، فالرؤية ليست إطلاقية بل نسبية وفق من يصيغها، وموقعه في الكون المرئي، ولهذه الحالة معنى علمي للكون حيث بإمكاننا أن نجري عليه التحقيقات والحسابات والقياسات اللازمة مباشرة على نحو واضح ومكرر وممكن دوماً. وهو أيضاً مفتوح أو قابل للفتح، أي بمعنى آخر هناك إمكانية لوجود أكوان أخرى مجاورة له أو متداخلة معه أو موازية له في الفضاء المفتوح.&
من هنا نستطيع القول أن مفردة كون بمفهومها النسبي أعلاه، لا تشمل مجمل ماهو فيزيائي وميتافيزيائي في الوجود اللامحدود. وفي نفس الوقت لايوجد سبب يدعونا للإعتقاد بعدم وجود شيء ما خارج حدود كوننا المرئي المفترضة، كما هو حال المحيط الممتد حيث لا ترى السفن الطافية فوقه ماذا يوجد وراء الأفق الخاص بها، ومن المعقول والمقبول أن نفكر ونعتقد بأن الفضاء لا ينتهي و لا يتوقف عند حدود كوننا المرئي الاعتباطية والنسبية.
وبالإمكان وضع تعريف آخر لمفهوم الكون ليشمل، ليس فقط كل ما هو مرئي أو قابل للرصد والمشاهد والقياس اليوم، بل وكذلك كل ما سيكون ممكنناً اكتشافه في المستقبل البعيد و غير المنظور، بل ويمكننا القول أن مجموع الفقاعات ـــ الأكوان التي تكون فيها القوانين الفيزيائية مماثلة لما يوجد في كوننا المرئي، تدخل في تعريف الكون univers، الذي يبقى، مع ذلك، نسبياً.&
يعتقد علماء الكونيات الكوسمولوجيا وعلماء الفلك والفيزياء النظرية أن التضخم الكوني الذي حدث في الماضي السحيق للكون المرئي، أي التوسع المتسارع وتمدد المسافات، يمكن أن يخلق تلك الفقاعات ــ الأكوان المتعددة، التي يستحيل التنقل بينها في الوقت الحاضر على مستوى تقدمنا العلمي شبه البدائي مقارنة بالحضارات الفضائية والكونية العليا المتقدمة علينا بملايين السنين.&
الاستنتاج العلمي يقول بوجود تعددات كونية أو أكوان متعددة، على الأرجح، لا متناهية العدد وغير متشابهة، وإن هذا التنوع والتعدد ينهي أسطورة الإنسان كأفضل مخلوقات الله، والأرض، التي طرده الله من الجنة بسبب خطيئة ساذجة، ليقيم فوقها باعتبارها المعبر الدنيوي الفاني للأجساد المادية، في حين خلد الأرواح، التي مثواها الأبدي سيكون، إما في الجنة أو في النار وفق أطروحة العقاب والثواب الربانية الدينية.&
يتبع&
&
&