&

&
السبب والنتيجة، العلة والمعلول، الصدفة والضرورة، الأصل والمصير، القبل والبعد، البداية والنهاية، المتناهي واللامتناهي، الخ.. من الثنائيات التي بقيت لغزاً على مر الزمن في الفلسفات والأديان وحاولت كل منها تقديم بعض الإجابات غير الكافية وغير المقنعة تماماً إلا لمن اختار أن يؤمن بلا قيد أو شرط بالمسلمات المعطاة له من قبل المؤسسات الدينية، ثم جاء العلم ليقحم نفسه في هذه المتاهة ويخوض في تلافيفها، فهل نجح في تقديم إجابات وافية وشافية عنها؟&
من البديهي القول أن مفهوم البداية كان الشغل الشاغل وما يزال للأديان، وهو الآن موضع اهتمام وأولوية للعلم كذلك. ونردد القول بأن نظرية البغ بانغ أو الانفجار العظيم التي تقول أن الكون المنظور أو المرئي، قد ولد بفعل ذلك الانفجار العظيم قبل 13.820 مليار سنة وفق آخر الحسابات الفلكية والكوسمولوجية الأخيرة التي زودنا بها تلسكوب بلانك الفضائي، وفي نفس الوقت ولد المكان والزمان التقليديين اللذين نعرفهما، وهي النظرية الأفضل حالياً الموجودة على الساحة العلمية للتعاطي مع الكون المرئي وتاريخه وأصله ومصيره، في حين هناك فلسفات ونظريات تعترض على ضرورة وجود بداية. قد تكون هناك بداية لكوننا المرئي كما أخبرتنا بذلك نظرية البغ بانغ، لكنها بداية نسبية، فالكون المرئي ليس وحيداً في الوجود. فالانفجار العظيم الذي تقول به الفيزياء المعاصرة، هل هو حدث منفرد في تاريخ الوجود أم مجرد حالة متكررة بلا بداية ولا نهاية على نحو متعاقب ودوري يتكرر كل ــ كذا ــ عدد من مليارات المليارات المليارات من السنين، مولداً عدداً لانهائياً من الأكوان، أحدها هو كوننا المرئي؟ وهل يستطيع الوعي البشري بمستواه الحالي، أن يتعامل مع مفهوم البداية أو عدم وجودها؟
لابد في البدء أن نعرف أن هناك في الفيزياء ما يعرف باللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر. ولنبدأ بالأول، أي بما هو ما "فوق الذري" إذ أن الثاني هو مجال "مادون الذري".&
باختصار شديد، يعتقد العلماء أن الكون المرئي ولد قبل 13.820 مليار سنة بما أصطلح عليه بتسمية الانفجار الكبير أو العظيم البغ بانغ انطلاقاً من حالة لا يمكن تخيلها من نقطة غاية في الصغر وغاية في السخونة والكثافة وبسبب غير معروف، يعزى إلى تقلبات وتخلخلات أو ترجرجات كمومية أو كوانتية، حصل هذا التغيير والانفجار، الذي أوجد في نفس الوقت الفضاء أو المكان والزمان، ثم تبعه على الفور حدوث توسع هائل وما يزال الكون المرئي في حالة توسع وتمدد ويبرد أكثر فأكثر. فرضت هذه النظرية نفسها بعد أن أعلن العالم الفيزيائي الأمريكي إدوين هابل سنة 1929 أنه لاحظ بأن أغلب المجرات البعيدة تبتعد عن بعضها وعن مجرتنا درب التبانة كما لو أن مجرتنا مصابة بالطاعون وينبغي الابتعاد عنها. وكلما كانت المجرة بعيدة كلما كانت سرعة هروبها أكبر ويعتقد أن جميع المجرات استغرقت نفس الفترة الزمنية لتبلغ مواقعها الحالية انطلاقاً من نقطة البداية والأصل أي الانفجار العظيم وما تلاه. وهكذا أدرج مفهوم الأصل والبداية في العلم الحديث، بديلاً لمفهوم الخلق الفوري المباشر على يد خالق عظيم موجود خارج الكون المرئي. وكان الراهب البلجيكي جورج لوميتر هو أحد الأوائل ممن تحدث بهذا السيناريو، وتحدث عن الذرة البدائية، والعالم الأمريكي من أصل روسي جورج غاموف وصف بالتفصيل هذه الفرضية حتى قبل تحولها إلى نظرية علمية وقال أن درجة حرارة وكثافة الكون المرئي في لحظة الفرادة وما بعدها بثلاث مائة ألف سنة 300000، كانت من القوة بمكان، مما منع تشكل أياً من البنى الفيزيائية المعروفة اليوم كالمجرات والنجوم والكواكب والحياة، ولم يكن هناك سوى محيط من الجسيمات الأولية التي انطلقت منها أشعة بدائية أولية ساخنة وذات طاقة هائلة آنذاك ما تزال آثارها موجودة ومنتشرة في محيط الكوني المرئي إلى اليوم والتي عرفت فيما بعد بالأشعة الأحفورية المكروية المنتشرة واحتاجت لمليارات السنين لكي تصل إلى مجرتنا وإلى نظامنا الشمسي وإلى كوكبنا الذي نشأت فوقه حياة عاقلة وذكية ومفكرة ووعي بشري تمكن من اكتشافها و رصدها وقياسها بالصدفة سنة 1965. اعترض عدد من العلماء على هذا التشخيص بسبب تجيير المؤسسة الكنسية الكاثوليكية لها واعتباره دليلاً على وجود الخالق كما فعل البابا بنديتكت الثاني عشر سنة 1951، لأن الحديث عن بداية للكون وللزمان والمكان من العدم أو اللاشيء أو من نقطة لامتناهية في الصغر تعني لدى رجال الدين والثيولوجيين أن هناك مسبب أول، مستقل، وراء وقوع هذا الحدث. وكذلك لأن هذه النظرية جاءت لتدحض نظرية كوسمولوجية سابقة لها كان يقول بها عدد من العلماء من أمثال البريطاني هيرمان بوندي وتوماس غولد وفريد هويل وغيرهم، ومن بينهم آينشتين في بداياته العلمية وهي نظرية الكون الساكن و والثابت والمستقر والأزلي والأبدي univers stationnaire – Steady state، والتي تتيح لهم تفادي ضرورة وجود خالق وعملية خلق. بيد أن عمليات الرصد والمشاهدة زعزعت هذا اليقين وأطاحت بنظرية الكون المستقر والثابت على حالته. ثم أتاحت التكنولوجيا في سنوات الستينات اكتشاف الكوازارات، وهي أجرام سماوية ناصعة و بعيدة جداً وساطعة تتواجد في التخوم البعيدة للكون المرئي وتبث طاقة مهولة في حجم مركز جداً، واكتشاف المجرات الراديوية التي تبث طاقتها على شكل موجات راديوية. وبات واضحاً إن أعداد هذا النوع من الأجرام والمحتويات الكونية تنخفض كلما تقدم الكون المرئي بالعمر، وهذا التشخيص العلمي يناقض فرضية الكون الثابت والمستقر على حاله. لكن مسألة العلة والسبب الأول لم تحل لأن هناك من يتساءل من الذي أحدث الانفجار العظيم وما هو السبب ومن هو المسبب؟ la question de la causalité، أي مسألة العلية. هناك فلسفة دينية لكنها ليست سماوية وهي البوذية تقول أن الزمان والمكان ليستا سوى مفاهيم مرتبطة بتصورنا لعالم الظواهر و لا يوجد لها وجود مستقل خاص بها، وبالتالي لا شيء، حتى الزمان والمكان، يمكن أن يتجلى للوعي بلا سبب و لا شروط مسبقة، بعبارة أخرى لا شيء يمكنه أن يتحول من اللاموجود إلى الموجود وبالعكس، ومن هنا لا يمكن للانفجار العظيم إلا أن يكون مرحلة ما من بين عدد لامتناهي من المراحل داخل استمرارية أزلية أبدية متعاقبة لا بداية لها ولا نهاية. وفي علم الفيزياء تسمى هذه الحالة بحالة ما قبل الانفجار العظيم، وهذا ينافي مسلمة أن الزمن ظهر مع حدوث الانفجار العظيم ولم يكن هناك زمن " قبل". فمعلوماتنا ووسائلنا وإمكانياتنا العلمية الحالية تمنعنا من الذهاب إلى لحظة البدء، بسبب وجود جدار مانع يتوقف عنده كل شيء وهو المعروف بجدار بلانك le mur de Planck، على إسم عالم الفيزياء الألماني والأب الحقيقي للميكانيك الكمومي أو الكوانتي، ماكس بلانك Max Planck، الذي كان أول من تصدى لهذه المعضلة. فهناك ما يسمى زمن بلاك وقيمته 10-43 من الثانية، أي الرقم واحد يأتي صفر ثم فاصلة ثم يليها ثلاثة وأربعون صفراً، عندما كان الكون بحجم يقل بمقدار عشرة ملايين المليار المليار أو أصغر بهذا المقدار من ذرة الهيدروجين ونصف قطره يساوي طول أو مكان بلانك وقيمته 10-33 من السنتمتر، ولا أحد يعرف على وجه الدقة لماذا هذا القدر الدقيق من الأبعاد والحسابات ولماذا هذه الحدود القطعية، وهل هي قيم قطعية مطلقة أم قابلة للتغيير، بكل الأحوال يخبرنا العلم الحديث أنه يستحيل علينا اليوم أن نجتاز حائط أو جدار بلانك.&
يعكس عجزنا حالة ودرجة جهلنا لأننا لا نعرف كيف نوحد الدعامتين الأساسيتين للعلم الحديث وهما الميكانيك الكمومي أو الكوانتي والنسبية الآينشتينية. وكل واحدة منهما تتخصص بمجال :الأولى باللامتناهي في الصغر والثانية باللامتناهي في الكبر، وكلتاهما صحيح رغم تناقضهما الظاهر. الأولى توصف سلوك وتصرفات الذرات ومادونها والضوء عندما لا تلعب الثقالة أو الجاذبية دوراً يذكر في مجال اللامتناهي في الصغر، والثانية تصف سلوك وتصرفات الأجسام ما فوق الذرية وتتيح لنا فهم الكون المرئي وبنياته وهيكيليته على المستوى الكوني الشاسع، عندما لا تلعب القوى الجوهرية الثلاثة الأخرى، أي الكهرومغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة، أي دور يذكر في باليه تراقص وتفاعل المجرات والنجوم داخل الكون المرئي. والحال أننا لا نعرف كيف نصف سلوك المادة والضوء عندما تكون القوى الجوهرية الكونية الأربعة متساوية أو على قيد المساواة وهي الحالة التي كانت موجودة في زمان ومكان أو طول بلانك عند لحظة الفرادة الكونية la singularité cosmique.
إن جدار بلانك لا يجب أن يشكل بحد ذاته حدوداً جوهرية مطلقة لا يمكن تجاوزها لكنه يشكل اليوم علامة أو إشارة على عجزنا وعدم قدرتنا على تخطيه من خلال الجمع بين الميكانيك الكمومي أو الكوانتي والنظرية النسبية بمعادلة واحدة. فهناك خلف جدار بلانك يوجد واقع آخر يستعص على فهم الفيزيائيين والعلماء. وهناك تكهناك وتخمينات وافتراضات عديدة لما يمكن أن يوجد خلف هذا الجدار. فالزمان والمكان المندمجان في كوننا المرئي وفي واقعنا الحالي الملموس داخل نسيج واحد سماه آينشتين " الزمكان"، قد يكون محطماً في واقع ما قبل أو ما وراء جدار بلانك. والبعض الآخر يقول أن الزمان غير موجود بالمرة هناك وبالتالي لا معنى للقبل والبعد. أما المكان المعزول عن توأمه الزمان فيغدو مجرد رغوة كمومية أو كوانتية عشوائية أو اعتباطية في توبولوجيتها وانحناءاتها، يتعذر وصفها إلا بمنطق الإحتمالية أو وفق مبدأ الإحتمالية la probabilité، الذي هو بطبيعته عشوائي واعتباطي.
توجد فئة أخرى من العلماء ممن يعملون حالياً على نظرية الأوتار الفائقة، يؤكدون بدورهم أن لا وجود للرغوة الكمومية أو الكوانتية، ويتقدمون باقتراح آخر حسب نظريتهم، يقول أن الجسيمات الأولية للمادة تنجم عن ترددات vibrations لحبال ما دون مجهرية أو أوتار لا متناهية في الصغر يساوي طولها طول بلانك، و لا يوجد ما هو أصغر أو ما دون هذه الأوتار الفائقة وبالتالي لم تعد تطرح مشكلة تقلبات أو تخلخلات fluctuations المكان أو الفضاء في ما تحت هذا البعد المكاني، مما يعني أنها تقدم إمكانية واعدة للجمع أو للتوحيد بين الميكانيك الكمومي أو الكوانتي مع نظرية النسبية، لكن نظرية الأوتار الفائقة معقدة ومغلفة بمتاهة من المعادلات الرياضياتية الصعبة على غير المتخصصين، ولم يتسن بعد وضعها موضع التجربة والاختبار أو لم تختبر تجريبياً بعد. فلا أحد يعرف ما ذا كان يوجد وراء وقبل جدار بلانك وكم استغرق من الوقت لكي يتحول إلى وجود مادي إثر الانفجار العظيم. فزمن بلانك الذي قيم بــ 10-43 من الثانية ليس قيمة قطعية فرضتها قوانيننا الفيزيائية المعروفة باتجاه حساب الزمن صفر أو الصفر المطلق، بل فقط أن القوانين تتوقف عن العمل فيما وراء هذه القيمة حسب معلوماتنا الحالية ليس إلا. فالفيزياء المعروفة تبدأ باللحظة 10-43 من الثانية بعد الانفجار العظيم. ويعقب الفيزيائيون أن الكون المرئي ولد من " الفراغ" لكنه ليس الفراغ الذي نعرفه، أي المكان الذي لا يوجد فيه شيء. فهو ليس فراغاً هادئاً وساكناً وخالياً من أي محتوى أو جوهر أو ماهية أو نشاط أو فعل يتعذر علينا تخيله، بل هو فراغ كمومي أو كوانتي vide quantique متخم بالطاقة، حتى لو كان خالياً من المادة التي نعرفها. فالفضاء الذي نعتقده فارغاً يخترق باستمرار بكافة أنواع المجالات والحقول الطاقوية التي يمكن وصفها بصيغة الموجات. ومن هنا يعتقد العلماء أن طاقة الفراغ الكمومي أو الكوانتي الأولية أو الأساسية هي التي أطلقت الكون من الفرادة في حالة انفجار وتوسع مهول مفاجيء سماه علماء الفيزياء التضخم " inflation " الذي أدى بدوره إلى مضاعفة حجم الكون المرئي في زمن لا يمكن تخيله في قصره قيمته 10-35 من الثانية بعد الانفجار العظيم أي عشرة ملايين المليار المليار مرة أصغر من ذرة الهيدروجين إلى ما يقارب حجم برتقالة كبيرة. واستمر الكون المرئي بالبرودة والتمدد مما ساعده على تسريع تركيبته، من البسيط إلى المركب، فهو كان عبارة عن نقطة لامتناهية السخونة والكثافة بحيث لا يسمح لأية تركيبة كانت أن تتشكل في طياته، ولكن بفضل التضخم والتوسع والبرودة قيض للكون المرئي أن يظهر بمظهره المادي الذي نراه اليوم. ولقد تدخلت طاقة الفراغ مرة أخرى لتولد المادة التي صاغها آينشتين بمعادلته الشهيرة وهي مفتاح لفهمنا لعلاقة المادة بالطاقة وهي : الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=mc2. بتعبير آخر يمكن لكمية من الطاقة أن تتحول إلى كتلة، أي إلى جسيمات مادية والعكس صحيح. فالجسيمات الأولية مثل الكواركات والإلكترونات على سبيل المثال لا الحصر، تنبث من الفراغ التأسيسي وتتفاعل فيما بينها وتتجمع على نحو يؤدي إلى تشكل الذرات والجزيئات وفيما بعد النجوم والمجرات والكواكب ونحن البشر. تتجمع النجوم بمئات المليارات مكونة مجرات وهناك مئات المليارات من المجرات في كوننا المرئي وحده. وفي إحدى هذه المجرات، وهي مجرة الطريق اللبني أو درب التبانة،" la voie lactée، هناك نجم عادي متواضع و متوسط الحجم يقع في أحد أطرافها أو ضواحيها إسمه الشمس وحوله كواكب متنوعة الحجم والطبيعة والتكوين، غازية أو صخرية، من بينها كوكب صخري إسمه الأرض تواجدت في محيطاته ومياهه جزيئات تجمعت وتفاعلت بمساعدة الماء وضوء الشمس وعناصر أولية كالكاربون والأوكسجين زودتنا بها النجوم المتفجرة، وتحولت إلى جزيئات عضوية حية على شكل تشكيلات حلزونية أو سلسلة الحوامض الأمينية الــ،ADN، التي قادت بدورها إلى ظهور الحياة على الأرض. ومن ثم تطورت هذه بدورها وفق نظرية التطور والانتخاب الطبيعي على مدى ملايين السنين، لتوجد النبات والحيوان والإنسان، ولتزود هذا الأخير بالوعي وملكة التفكير la conscience، الذي منح الإنسان القدرة على التفكير والتساؤل والتأمل في الكون المرئي الذي يعيش فيه وبما فيه من محتويات.
لا يمكننا تطبيق الفيزياء وقوانينها التي نعرفها في مرحلة ما وراء جدار بلانك كما يعتقد الكثير من العلماء، فمن الممكن أن يكون هناك زمن لا نهائي من نوع آخر سماه البعض الزمن الخيالي قبل الانفجار العظيم، أو ربما غياب وعدم وجود للزمن، على الأقل بصورته التي نعرفها وندركها بحواسنا. أو أن لكل فترة أو حلقة تعاقبية يظهر فيها انفجار عظيم يولد كونه الخاص به وبالتالي زمانه الخاص به ومكانه الخاص به أيضاً وقوانينه الجوهرية الخاصة به التي قد تكون نسخة طبق الأصل لما يوجد في كوننا المرئي أو مخالفة لها كلياً، وبالتالي لم تعد تطرح مشكلة نشوء الزمن من خدش في التركيبة الأساسية أو من الزمن صفرtemps Zéro، وهي طريقة لاستئصال وإنهاء مشكلة الخلق، لكنها تظل مجرد افتراضات ومضاربات خيالية أو تخيلية لا أساس علمي راسخ لها، ولا تأكيد علمي لها من خلال التجربة والمشاهدة والاختبار. إذ يجادل المعارضون، خاصة رجال الكهنوت وقادة الثيولوجيا الدينية ويطرحون السؤال التعجيزي المكرر دوماً :" من الذي خلق أو أوجد الفراغ الذي تتحدثون عنه أو العدم إذا كان هناك عدم مقابل الوجود؟ ويرد عليهم الماديون :" لو افترضنا جدلاً بوجود خالق عظيم يكون هو السبب الأول للوجود فمن الذي خلق أو أوجد هذا الخالق أو المهندس الأول أو القوة المولدة الأولى، حسب مختلف التسميات للعلة الأولى؟ لنتذكر تفصيل طريف في هذا الصدد يتعلق بعالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي الكبير في القرن الثامن عشر بيير سيمون لابلاس عندما قدم لنابليون كتابه الموسوم " بحث في الميكانيك السماوي" وسأله الإمبراطور بعد أن قرأه :" لماذا لم تذكر ولا مرة واحد المهندس والمصمم الأول لهذا الصرح الكوني؟ فرد عليه لابلاس :" سيدي لا حاجة لي بهذه الفرضية". بيد أن السؤال يظل مطروحاً لماذا يوجد كون؟ ولماذا توجد قوانين جوهرية ثابتة؟ ولماذا وجد الانفجار العظيم؟ كما طرح الفيلسوف الشهير ليبنز Leibinz تساؤله الفلسفي الذي كان له صدى كبير لدى العلماء:" لماذا يوجد شيء بدلا من لاشيء؟ فاللاشيء أسهل من الشيء لأنه يحسم الأمر مرة وإلى الأبد ويغلق باب النقاش، ولكن علينا أن نجد الإجابات عن هذه الــ " لماذا"، لماذا توجد الأشياء بهذا الشكل وليس على نحو آخر؟
كان الحل الوحيد الممكن للخروج من هذا المأزق الفلسفي والوجودي علمياً هو عدم اعتبار البغ بانغ" الانفجار العظيم"، هو البداية الوحيدة والمطلقة للكون بل مجرد مرحلة أوجدت كوننا المرئي الذي يسبقه عدد لا متناه من الأكوان المتعاقبة التس سبقته وسوف تعقبه، وحيث يوجد معه الآن وفي نفس وقت وجوده عدد لا متناه من الأكوان الموازية والمتداخلة معه في أبعاد خفية غير مرئية. فلو كان كوننا المرئي يحتوي على قدر كاف من المادة فبإمكان القوة الجاذبة في ثقالة هذه المادة في وقت ما، وقف التوسع الكوني وكبحه وعكس حركته واتجاهه، من التوسع إلى الإنكماش والتقلص ودفع المجرات بدلا من الهروب والابتعاد عن بعض، إلى الاقتراب من بعضها البعض، عندها سنحصل على بغ بانغ معكوس حيث ستتركز كل المادة في نقطة فرادة جديدة غاية في السخونة والكثافة بفعل الإنهيار والإنكماش والتقلص الكبير Big Crunch، حيث ستتبخر النجوم وتتفكك المادة إلى جسيمات أولية في حرارة مهولة وسيجد الكون المرئي نفسه في حالة تأليه ضوئي مذهل وفنطازي، مكثف في حيز مكاني لا متناه في الصغر يسميها العلماء درجة الكثافة الحرجة، وفي درجة حرارة قصوى تسمى بالدرجة الحرجة ويختفي الزمان والمكان المألوفين مرة أخرى ولكن تبقى المعلومة l’information حية باقية لا تفنى، وبعد مرحلة إنهيار الكون المرئي على نفسه، تأتي مرحلة إعادة إنبعاث كون مرئي جديدة كما هو حال العنقاء التي تبعث من جديد من رمادها كما تقول الأسطورة، ليبدأ مرحلة جديدة ربما بنفس قوانين الفيزياء الجوهرية السابقة أو بقوانين فيزيائية جديدة ومختلفة تماماً، فنحن لا نمتلك أية معطيات علمية دقيقة ومثبتة عن حدود وخصائص وماهية ما وراء جدار بلانك.
يتبع&
&
&