ثمّة ظاهرة صحيّة في الكويت يعبّر عنها النقاش الدائر هذه الايّام، في شأن خفض الدعم عن بعض السلع التي تعني المواطن المعتاد على مستوى معيّن من العيش في بلد فيه طبقتان فقط. الطبقة المتوسّطة والطبقة الغنيّة.
جاء هبوط سعر النفط ليعيد الى الواجهة موضوعا قديما لم يوضع على سكّة التطبيق سابقا مع ارتفاع سعر النفط من جهة وخضوعه للتجاذبات السياسية داخل مجالس الامة (مجالس النوّاب) السابقة من جهة اخرى. في تلك المجالس، كانت المعارضة تسيطر على النقاش السياسي وتتحكّم به. اعتمدت المعارضة في الماضي خطابا شعبويا مزايدا من باب "لا نرضى بمسّ لجيوب المواطنين". الآن لم يعد من يستطيع ان يزايد. هناك واقع لا مفرّ من التعاطي معه بوجود امير الدولة الشيخ صُباح الأحمد الذي عرف دائما كيف يستخدم القوة الناعمة من اجل افهام المواطنين اين تكمن مصلحتهم ومصلحة الكويت.
بعد عشر سنوات على تولي الشيخ صباح شؤون البلد، يقول رئيس مجلس الامة مرزوق الغانم في جلسة نيابية مخصصة لخفض الدعم: "قدرنا اليوم، مجلسا وحكومة، تحمّل الاخطاء. قلناها اننا دولة تبيع نفطا وتعطي رواتب. يجب ان نخرج بحلول. علينا الزام الحكومة ولا نريد الكذب على المواطن. جيبه سيمسّ". ذهب الغانم الى حدّ القول: "ان الرواتب ارتفعت اكثر من الموازنات. انّه انتحار".
ليس هناك من يريد ان ينتحر في الكويت في عهد صُباح الأحمد. على من لم يقتنع في الماضي بانّ لا مجال لتفادي رفع الدعم، وان بشكل تدريجي، عن بعض السلع والخدمات العامة من الكهرباء الى الوقود، التعاطي مع الارقام. توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدراسات التي اجرتها مؤسسات عالمية مختصة في غاية الوضوح. كانت هناك دائما دعوة الى اصلاحات في مجال الدعم. لكنّ مزايدات المعارضة وارتفاع سعر النفط كانت تجمّد كلّ تلك المحاولات. كان هناك تأجيل لاستحقاقات لا مجال لتفاديها في نهاية المطاف.
اليوم تغيّرت الامور في الكويت. اسعار النفط في مستويات متدنّية وموازنة 2016 ـ 2017 سجّلت عجزا باكثر من اثني عشر مليار دينار (نحو اربعين مليار دولار)، هذا اذا بقي سعر النفط على حاله في بلد تبتلع رواتب موظّفيه في القطاع العام غالبية الموازنة.&
بدأ الكلام الجدّي عن تحرير بعض اسعار الطاقة في مقدّمها البنزين والكهرباء ولكن بطريقة تناسب الكويت. على سبيل المثال، ليس طبيعيا ان يدفع صاحب الشقّة مثل صاحب الفيلا او المجمّع التجاري.
هناك وعي داخل المجتمع الكويتي لهذا الواقع الذي فرض نفسه. هذا الواقع دفع نوّابا وهيئات اجتماعية وكتابا ووزراء الى المطالبة بوقف الهدر الحاصل في الوزارات والمؤسسات والانصراف الى محاربة الفساد. اكثر من ذلك، هناك دعوات الى ان لا تكون صفقات السلاح والطائرات، التي تقدّر بالمليارات، اهمّ من صفقات الدواء والغذاء. هناك دعوات من الناس العاديين ومن مسؤولين على كلّ المستويات الى وقف الصرف على شركات حكومية خاسرة مثل "الخطوط الجوّية الكويتية" وطرحها على القطاع الخاص.
عندما قال رئيس مجلس الأمّة انّ "جيب المواطن سيمسّ"، لا تضحكوا عليه. كلامه العلني امام النوّاب في مجلس الأمّة يستتبع ما قاله امير الدولة في لقاء مع رؤساء التحرير للصحف عن انّ "دولة الاهتمام بالمواطن من المهد الى اللحد لا يمكن ان تستمرّ". بالنسبة الى الشيخ صُباح، على الكويتي ادراك ان هناك مصاعب مالية واقتصادية ضخمة تستدعي تغيير ثقافة الاستهلاك والدعم، مشيرا الى انّ "هناك من يضيء انوار منزله وكأنّه قصر فرساي".
حجم الوفر المتوقّع من ترشيد الدعم على سلع البنزين والكهرباء والماء سيشكّل نسبة لا بأس بها من الفاتورة الحكومية التي تؤثر على العجز في الموازنة. تقدّر شركة "ارنست يونغ" حجم الترشيد بنحو ثلاثة مليارات دينار، وهو مبلغ كبير يترتّب على موازنة الدولة الكويتية.
في عشر سنوات، حاول صُباح الأحمد وضع الكويتيين امام مسؤولياتهم. هناك تحدّيات من نوع جديد تواجه الدولة. تحتاج هذه التحدّيات الى من يسعى الى جعل المواطن يتفهّم طبيعتها واهمّيتها ومدى خطورتها على مستقبل البلد وعلى الاجيال الجديدة.
لعب صُباح الأحمد في العام 1990 دورا محوريا في استعادة الكويت بعد الاحتلال العراقي. كان الى جانب الامير الشيخ جابر الاحمد ووليّ العهد الشيخ سعد العبدالله في ادارة الحرب التي استهدفت تحرير الكويت من &ذلك المجنون المليء بكلّ انواع العقد الذي حلم يوما في جعل الكويت رهينة احلامه المريضة.
في عشر سنوات، استطاع صُباح الأحمد قيادة السفينة واخذ الكويت الى شاطئ الامان بدءا بتكريس الاستقرار السياسي بعد سنوات من التذبذب على كلّ صعيد والعلاقة المتوترة بين الحكومة، ايّ حكومة، ومجلس الامّة. لم يكن من همّ لدى مجلس النوّاب في مرحلة معيّنة سوى اسقاط الحكومة وكأن اسقاط الحكومات ومنعها من تنفيذ برامجها وتسخيف الوزراء هدف بحدّ ذاته.
استطاع صُباح الأحمد ان يكون قائد السفينة. كان "النوخذة" في مواجهة العواصف الداخلية والاقليمية. حافظ في الوقت ذاته على التجربة الديموقراطية في الكويت، ذلك انّه يبقى افضل من يعرف تركيبة المجتمع وطبيعته. نقل المواجهة بين الحكومة ومجلس الامّة الى تعاون بينهما في كلّ المجالات بما يخدم الكويت شعبا ومؤسسات في مرحلة دقيقة تمرّ فيها كلّ المنطقة.
هناك استحقاقات جديدة امام الكويتيين يفرضها الهبوط في اسعار النفط. الاكيد ان المرحلة المقبلة هي مرحلة الشفافية بعيدا عن المزايدات الرخيصة.&
من حسن حظ الكويت انّ ايّا من الاطراف السياسية لم يسع الى استغلال الوضع الاقتصادي ومسألة رفع الدعم. وقف الجميع في حال تهيّب امام العجز الذي تعاني منه الموازنة.&
نعم، ستمسّ جيوب الكويتيين. هناك بكل بساطة مرحلة جديدة دخلها البلد. لم يخف صُباح الأحمد الحقيقة عن مواطنيه. صارحهم بكلّ ما عليه مصارحتهم به. امّن لهم الاستقرار السياسي. لن تعود حاجة الى اسقاط للحكومة كلّ شهر او شهرين او ستّة اشهر. لم تعد حاجة الى انتخابات نيابية مرّتين في السنة.&
اختار الكويتيون الاستقرار في مواجهة عالم جديد ومنطقة جديدة ستولد من رحم الاحداث التي يمرّ فيها الشرق الاوسط والخليج. قدر الكويت ان تتكيّف مع الواقع والاحداث. هل افضل من صُباح الأحمد بتجربته الطويلة من يمكّن الدولة من تجاوز هذه المرحلة البالغة الخطورة على كلّ صعيد وفي كلّ مجال؟
& & &
&