بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز الماضي في تركيا، رأينا انقلابا في السياسة التركية، انقلاب يقدر مقداره بمائة وثمانين درجة.

فتركيا التي فتحت حدودها للإرهابيين لكي يعبروا الى سوريا، والتي كانت تشتري نفطهم رخيصا، والتي مددتهم بالأسلحة وبالمعلومات، ها هي تنقلب ضدهم وتقاتلهم، وتركيا التي كانت تتحدى الاتحاد الروسي، واسقطت احدى طائراتهم، هاهي تقترب من الاتحاد وبسرعة البرق، الى حد ان الاعتذار وزيارة روسيا من قبل اردوغان لم يتطلبا الا أياما. وتركيا التي كانت تتوعد إسرائيل طارحة نفسها المتحدث الرسمي باسم العالم الإسلامي، نراها تهرول الى اللقاء وإعادة العلاقات مع الدولة العبرية، وغزة لم تتخلص من أي مشاكلها وحتى مساعداتها لغزة تمر بموافقة الإسرائيلي. تركيا التي هددت كل من عارض الاخوان المسلمين وسأت علاقاتها مع مصر، ها هي تقول يجب ان يتم معالجة العلاقات مع مصر. يا ترى ما السبب في الانقلاب على السياسية السابقة هل هو الانقلاب الفاشل، ام ان متطلبات التغيير وضرورته املت اخراج مسرحية الانقلاب، خبر ذلك في الأيام القادمة.

قوبل فوز حزب العدالة والتنمية عام 2002 بأول انتخابات دخلها، بترحيب واسع من مختلف الأوساط السياسية والثقافية، باعتباره مثال لما يطمح ان تسير عليه المنطقة كلها، أي ان تحكم باحزاب ذات نكهة إسلامية، دون رفع الشعارات المعادية للعالم شرق وغربا، ويتحلى بواقعية سياسية ويتعايش مع الأفكار الأخرى في المجتمع. وبالحقيقة كان الحزب يسير في هذا المسار خلال المرحلتين الاوليتين، مما ساهم في حصوله تركيا على دعم اقتصادي كبير، تجلى في انفتاح الأسواق للمنتوجات التركية وحصولها على استثمارات مالية كبيرة. مما ساهم في النمو الاقتصاد التركي بصورة مطردة خلال السنوات الماضية. وذلك لتشجيع التوجهات الرامية الى خلق مناخ من الاستقرار السياسي والاجتماعي، من خلال طروحات المعتدلة التي كان يطرحها هذا الحزب.

الا ان هذه التطورات الإيجابية والترحيب الواسع، بدات بعض الأوساط الحزبية تترجمه كعامل قوة نابعة من الحزب وقائده، وليس من قبول العالم له، مما جعل قيادته رويدا رويدا تتمادى في تطلعاتها السياسية، فاحد قادته وهو احمد داود اوغلو وزير خارجية تركيا حينها قال ((في 23 نوفمبر 2009 في لقاء مع نواب الحزب: «إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب. وخاصة فرنسا التي تفتش ورائنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال أفريقيا. لقد أعطيت أوامري إلى الخارجية التركية بأن يجد ساركوزي كلما رفع رأسه في أفريقيا سفارة تركية وعليها العلم التركي، وأكدت على أن تكون سفاراتنا في أحسن المواقع داخل الدول الأفريقية.» أتى ذلك في اطار تخصيص أوغلو بالذكر لفرنسا وساركوزي لرفض الرئيس الفرنسي بشدة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي)) ((كما يتهم علمانيو تركيا بان الحزب يطبق خطة سرية لاسلامة البلاد من خلال تعيين أوفياء متخرجين من مدار لتأهيل الائمة)). والانكى من كل ذلك شاركت تركيا بقيادة اردوغان بعملية واسعة وكبيرة لدعم تغييرات في الشرق الأوسط تلبي مطالبها من خلال دعم توجهات إسلامية مرتبطة بالاخوان المسلمين وحتى التنظيمات الإرهابية ذات التوجه الإسلامي. وعلى الأقل ان احد وسائل الدعم هو تسهيل انتقال المؤيدون وأعضاء هذه التنظيمات.

المشكلة في بعض الدول انها بمجرد ان تتوفر فيها ظروف إيجابية وخطوات نحو الامام، حتى تعتقد نفسها انها صارت من الدول الكبرى وتقوم جراء هذا الاعتقاد، بالتورط في مشاريع إقليمية اكبر منها بكثير، وهذه كانت مشكلة تركيا وقيادتها الاردوغانية. فجراء هذه التدخلات والتي ابتدات مع مصر وتونس وليبيا ومن ثم سوريا، فتحت الاعين على طموحاتها الواسعة والى ماذا تريد الوصول، وهو وضع هذه الدول مرة أخرى تحت المظلة التركية من خلال الاخوان المسلمين. مما جعل اللاعبين المنافسين يقومون بخطوات باتجاه المساعدة في تقريب النار من اللحية التركية لكي تدرك خطورة ما تلعب به. وكانت النار هذه المرة دعم صريح وعلني من قبل الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الامريكية لبعض الفصائل الكوردية، والتي انتهزت الفرصة ووسعت رقعة انتشارها لتمتد من الحدود العراقية الى عفرين غربا وكادت او هي قريبة من خلق تواصل بين هذه المناطق. ونتيجة لهذه التطورات وفوز حزب الشعوب الديمقراطية بأكثر من عشرة بالمائة من أصوات الناخبين مما اهله ليكون ثالث حزب في البرلمان التركي، بدأت القيادة التركية تدرك ان لعبتها التي ارادت ان تلعبها على الاخرين، قد انقلبت عليها.

لا يعلم هل ان السيد اردوغان كان بحاجة للانقلاب لكي يبداء تغيير سياسته، محاولا العودة الى الماضي السليم مع المجتمع الدولي، ام ان هذا القرار كان سابقا لمحاولة الانقلاب الفاشلة. صحيح ان بعض الاخبار عن عودة العلاقات مع إسرائيل قد سبقت محاولات الانقلاب، ولكن تدحرج كرة التغيير لتشمل كل اهتمامات تركيا، ينبئ ان محاولة الانقلاب ساهم بشكل كبير في تسارع هذا التغيير وعدم تعرضه للمسائلة الداخلية عن خطواته السابقة.

ولكن باعتقادنا ان سلامة عودة التوجهات السابقة مع إسرائيل ومصر، تعارضها خطوات تركيا المثيرة للاستهجان في سوريا، ومحاولتها ربط حزب العمال وحزب الاتحاد الديمقراطي بداعش من خلال اطلاق تهمة الإرهاب عليهم، هي محاولة فاشلة ولا يمكن لاحد ان يجاريها في ذلك. ان انقلاب تركيا على داعش التي رعتها بمختلف الطرق، اذا كان امرا مقبولا، ويمكن ان يمرر لموقع تركيا ولاهميتها، الا ان محاولة الاستفادة من هذا الانقلاب السياسي بفرض شروط او تسويق متطلبات معينة، بالتأكيد ليس مقبولا، لا بل يمكن ان يؤدي الى عواقب على تركيا، لانها تؤكد ان العقلية ستبقى عقلية الاستحواذ ونكران الجميل. ان دفع تركيا لقوات معارضة في سورية لمقاتلة قوات سورية الديمقراطية، هو احد الخطوات الخطرة والتي تلقت عليها تركيا تقريعا أميركيا، لانه اعتبر خطا احمر. ان هذه الخطوات الأخيرة قد تخسر تركيا ما وافقت عليه اميركا سابقا وهو عدم عبور الاكراد الى غربي الفرات أي ربط عفرين وكوباني ومنبج بسلطة الإدارة الذاتية.

ان تركيا التي ساعدت ودعمت انفلات الأمور في ما سمي بالربيع العربي من خلال دعم الإسلام السياسي، وذلك لتحقيق طموحات بعض قادتها في عودة السلطنة العثمانية او ما يشابهها ويلائم العصر، وحول هذا الربيع من محاولات لاقامة الديمقراطية وتحقيق الحريات، وغيرت من شعاراته الداخلية والخاصة بكل بلد، الى شعارات إسلامية متطرفة. باعتقادنا ستدفع ثمنا اكبر لما دفعته لحد الان، وهذا الثمن قد يطال وحدتها الجغرافية.&

[email protected]