الدليل التام الذي يقوم عليه العلم المشاهد لا يخضع للتبريرات وذلك بسبب تجسد الأعمال بأعيانها درءاً للشبهات الناتجة جراء الأفعال التي تستند عليها في حال جمعها مع الحقائق العملية وبالتالي يكون الجامع الأمثل لإثبات الحق متفرعاً على جميع الأسس الحيادية التي يتم من خلالها تبيانه بالطرق السليمة، وهذا ما غفل عنه كثير من الناس الذين سعوا في إبطال دين الله تعالى من بعد ما استجيب له، وقد أشار سبحانه إلى هذا الوجه بقوله: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد) الشورى 16. ومن هنا نرى أن الحق سبحانه قد فرع على الكبرى مجموعة من الأمثلة، أهمها ما وقع بين إبراهيم والذي حاجه في ربه وكيف أراد الأخير أن يثبت قدرته على الإحياء والإماتة ما جعل إبراهيم (عليه السلام) ينقل المحاجة إلى قضية أخرى لا تقل أهمية عن القضية الأولى، كما في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) البقرة 258.

وبناءً على المثال السابق نكون قد وقفنا وجهاً لوجه أمام أمثلة كثيرة تبطل جميع الادعاءات التي يريد بعض الناس إثباتها ابتداءً من مرحلة التبليغ وانتهاءً بالمرحلة الأخيرة الخاصة بعرض الأعمال على الإنسان يوم القيامة ما يجعل النفس الإنسانية تجادل عن نفسها قبل تجسد الأعمال، وقد بين الحق سبحانه هذه الحقيقة بقوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون) النحل 111. ثم بعد ذلك يصل الإنسان إلى مرحلة ظهور الأعمال وتجسدها أمامه، وبهذا القدر تظهر النكتة في قوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة... ولو ألقى معاذيره) القيامة 14- 15.

من هنا نعلم أن المنهج الشامل الذي اتبعه القرآن الكريم في تبيان الحجج لا يجانب إعطاء العقل دوره في الاستدلال على إثبات الحقائق اللازمة سواء عن طريق طرح الأفكار والدعوة إلى الرد عليها، أو إظهار الأدلة القاطعة التي تجعل الطرف الآخر غير قادر على إيجاد الوسائل المناسبة لإثبات نهجه الباطل الذي يريد أن يدحض به الحق، وعند دراسة هذا الأمر نستطيع الوصول إلى معرفة الفرق الشاسع بين ما ورد في القرآن الكريم من الأحكام االخاصة بهذه الأمة، وبين الأحكام التي سارت عليها الأمم السابقة إذا ما علمنا أن الأخيرة لا تميل إلى الالتزام الكامل بالدليل الحرفي، وبهذا يمكن القول إن ما يستحدث لديهم من المسائل التفصيلية لا يخرج عن الطرق التقليدية، وأنت خبير بأن هذه الطرق لا تظهر الحقائق كما هي في كثير من الأحيان، وإن شئت فقل إنها لا تثبت أمام المتغيرات الإيجابية التي يدعو إليها المجددون عبر الأعصار، وإن كان لا يخفى على المتلقي بأن الطرق التقليدية لا يمكن أن تفي بالغرض إذا كانت بعيدة عن إيضاح الأدلة التي تساعد في فهم الوقائع التأريخية لكل شريعة من الشرائع.

واستناداً إلى ما تقدم نفهم أن التجديد الذي أتى به القرآن الكريم كان يرمز إلى نفي التقليد غير المبرر من جهة، وإظهار الحجج اللازمة في تبيان المتشابهات من جهة أخرى، وهذا هو النهج المميز الذي سار عليه القرآن الكريم في إثبات البراهين التي تدلل على قدرة الله تعالى وما يتفرع عليها من العلم والإرادة، أو في تبيان الأحكام التشريعية وما يترتب عليها من المسائل التفصيلية، ولذلك نجد أن الحق سبحانه قد ذكر هذه الأدلة في كثير من الآيات، كقوله: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) المؤمنون 91. وكذا قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) الأنبياء 24. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) يوسف 108. وبصيرة في هذا الموضع تتضمن معنى الحجة الواضحة وتجمع بصائر، كما في قوله جل شانه: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً) الإسراء 102.&

تفسير آية البحث:&

قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة 111. الادعاء المشار إليه في الآية لا يخرج عن كونه أمنية في نفوس اليهود والنصارى فكان كل طرف يكفر الطرف الآخر والحقيقة أن الكلام ههنا أنزل منزلة اللف، لأن اليهود لا تقول في النصارى إنهم يدخلون الجنة والعكس صحيح، فكان من الضروري تفصيل الكلام أي أن اليهود هم الذين قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وكذا النصارى قالو لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، وهذا نظير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) البقرة 135.&

وفي هذا الشأن يقول الالوسي في روح المعاني: الضمير لأهل الكتاب لا لكثير منهم كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعاً، وكأن أصل الكلام قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين المقولين وجعلا مقولاً واحداً اختصاراً وثقة بفهم السامع، أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم بتضليل كل واحد منهما صاحبه، بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم، فكلمة (أو) كما في "مغني اللبيب" للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار، وهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ وقيل مصدر يستوي فيه الواحد وغيره وقيل إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم (كان) عائداً على (من) باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافاً لمن منعه، ومنه قول الشاعر:

وأيقظ من كان منكم نياماً

وقرأ أبي (يهودياً ونصرانياً) فحمل الخبر والاسم على اللفظ (تلك أمانيهم) الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى، كالأضحوكة والأعجوبة، والجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم، و (تلك) إشارة إلى (لن يدخل الجنة).. إلخ. انتهى موضع الحاجة من كلامه ومن أراد المزيد فليراجع تفسير روح المعاني.

فإن قيل: قولهم: (لن يدخل الجنة) من آية البحث. لا يمثل إلا أمنية واحدة فلمَ أنزل منزلة الجمع في قوله: (تلك أمانيهم) من سياق البحث؟ أقول: ذكر الزمخشري في الكشاف: أن الأماني المذكورة هي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم. انتهى. وما ذهب إليه لا يتقارب مع السياق وذلك لبعده عن آية البحث، والصواب أن يأتي بمحذوف يكون تقديره راجعاً إلى اجتماع الباطل في نفوس كل من الفريقين ما يجعله أقرب إلى الخروج على شكل أماني، ومفهوم الآية يساعد على ذلك.

فإن قيل: كيف يجتمع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) المائدة 51. مع آية البحث التي تشير إلى أن كل طائفة منهم تكفر الأخرى؟ أقول: الجهة منفكة بين الآيتين، وذلك لأن آية سورة المائدة تذكر موالاة بعضهم لبعض في مواجهة المؤمنين، أما آية البحث فقد مر عليك تفسيرها.. فتأمل ذلك بلطف.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن&

&