مرت هذه السنة الذكرى المائة لتوقيع احد اشهر الاتفاقيات الخاصة بالمنطقة والمعروف باتفاق سايكس بيكو، والذي بموجبه تم توزيع مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في تركة الدولة العثمانية المندحرة، امام تقدم جحافل المستقبل وجحافل قوات الحلفاء لدحر دول المحور.

الحقيقة وبرغم من ان البعض يضع اتفاق سايكس بيكو في خانة المؤامرة، الا انني اراه تحصيل حاصل، لملاء الفراغ السياسي الناشئ جراء اندحار سلطة السلطنة العثمانية والتي تقوقعت في المناطق ذات الغالبية التركية و ما اسمته مناطق اتراك الجبال (الكورد) بعد ان اتمت مهمتها في ذبح الملايين من الأرمن والاشوريون واليونان. ان اتفاق سايكس بيكو كان يفرض نفسه على فرنسا وبريطانيا اكثر مما كان مفروضا، على المنطقة. فهذه المنطقة التي وحدتها الجزمة التركية، بعد انسحاب العثمانيين ستتحول الى مرتع للقتال والانتقام على أسس مذهبية دينية وعشائرية. دون قوة ضابطة تهيئها لتخطوا نحو المستقبل باقل ما يمكن من الاثار السلبية، للانتقال من واقع عشائري قبلي الى زمن الدولة، من زمن الرعية الى زمن المواطنة.

لا اتفق مع اغلب المؤرخين ممن يدعون ان بريطانيا قد خانت العرب، في الحقيقة ان العرب اثبتوا خلال اكثر من ثمانون سنة من تأسيس هذه الدول والتي منحت لهم حق ادارتها وتوجيهها، انهم لم يتهيؤوا لعصر الدول، والفترة الأكثر استقرارا في تاريخ هذه الدولة كانت الفترة التي كان لبريطانيا وفرنسا تأثير مباشر في تخطيط وتنفيذ السياسيات اليومية. نعم ان العرب لم يكونوا مهيئين لهذه الطفرة الكبرى، والأكثر مدعاة للعجب انهم لم يهيئوا انفسهم حتى في الوقت الذي نالوا ما اسموه الاستقلال.

اذا من المنظور السياسي والجغرافي، كان يجب ملاء الفراغ الناتج، عن اندحار السلطنة العثمانية والتي كانت ورغم بشاعة ممارساتها، مع رعية السلطان، لا تتحكم الا في بعض المدن الرئيسية، تاركة الريف ليرتع فيه المجرمون والقتلة والعصابات المختلفة. وان الانسحاب العثماني حتما كان سيزيد اشتعال الحروب الطائفية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر بين الطوائف والقوميات المختلفة.

ان ادعاء العرب بان المنطقة هي عربية، وكان يجب على بريطانيا وفرنسا ان تشكلا دولة واحدة فيها، اعتمد على واقع مفروض وليس حقائق تنطق بها الأرض والوجود الديمغرافي للأخرين في المنطقة مثل الكورد والاشوريون وطوائف كان تميز نفسها عن العرب المسلمين مثل الدروز والمارونيين. وعموما فالمسيحيون وكل الأقليات قد ذاقوا الويلات تلو الويلات في القرنين الأخيرين من عمر السلطة العثمانية. وهذا الادعاء يقينا اتى متأخرا، فلم يكن التكلم بلهجة من لهجات العرب والدين الإسلامي كافيان لتوحيد العرب. ودليلنا ان هذه الدول تخلصت رسميا من أي تأثير بريطاني او فرنسي ولم تقدم على تحقيق وحداتها، لا بل اندلعت بينها حروب ونزاعات وخصومات اكبر مما بين أي منها واحدة جاراتها الاجنبيات.

جراء الفشل العربي وبامتياز في إقامة دول المواطنية، لا بل النكوص الى اكثر العصور تخلفا، وإعادة اكثر القوانين رجعية ومعادية لحقوق الانسان، ووصول هذه الدول في سنواتها الأخيرة الى نقطة لا مناص من ان تنفجر فيها، جراء الحكم الدكتاتوري، وانتشار التيار الإسلامي، والانفجار السكاني الغير المعقول، واستغلا ثروات البلدان في مغامرات عسكرية بينية او مع الجيران، ووصول الأحقاد بين المكونات لدرجة بات التعايش بينهم صعب جدا ان لم يكن مستحيلا.

يطرح نفسه السؤال المنطقي التالي، يا ترى هل ان اتفاق كيري ولافروف والمصاعب التي تواجهه هي بسبب حلب وما يعانيه سكانها، ام ان الاتفاق لا يراعي مصالح الأطراف المتصارعة كلها، سواء مباشرة او المتصارعة بالاستعاضة. مما يعني ان بوادر الاتفاق ليست في الحقيقة الا الخطوط العريضة، لطبخة وضعت على نار هادئة، لحين اكتمال كافة شروط نجاح اتفاق يؤدي الى إقامة خريطة جديدة مبنية على موازين القوى القائمة.

اذا حلب قد تكون احدى محطات نضوج الاتفاق المزمع وضعه موضع التنفيذ، وبالطبع لكل من الدول الكبرى الولايات المتحدة الامريكية وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين ، والدول الإقليمية وهي كل من ايران وإسرائيل وتركيا. تصورها الخاص لنوعية الاتفاق ومضامينه، مما يجعل الصراع يحتد ويتفاقم لحين الوصول الى التصور المبني لدى الأطراف الأقوى في المعادلة. وفي مثل هذا الصراع المتعدد الأطراف، تتغير موازين القوى والتحالفات، ليس هذا ولكن بعض من شارك فيها كقوى إقليمية قد تطاله المخططات، ان لم تكن مشاركته أساسا لابعاد مبضع الجراح عن خريطته الوطنية.

اميركا وحلفاءها تتعلل بتقديم المساعدات كمسألة فورية ومهمة للمحاصرين، وروسيا تتعلل بوجوب ضرب كل الإرهابيين، وتحاول توسيع قائمة المشمولين بهذه الصفة، وبينهما ايران وادواتها من حزب الله والمتطوعون العراقيين، وتركيا، وبعض الدول العربية المتورطة في النزاع. صحيح ان الأنظار متوجهة لسوريا وما يحدث في حلب، الا انه صراع داخل ومع كل المنطقة، التي ابت ان تكون جزء من العالم وقيمه المشتركة. انه صراع خلقته المنطقة بدولها وشعوبها وثقافتها. وهي تشاهد وترى ما يحدث في العالم من خطوات واتفاقات ومعاهدات. فدول المنطقة، لم تكفي باستمرارية وضعها تحت سلطة حكام لا يخضعون لأي سلطة او مسألة والجمود عن ادخال أي تعديل في سياساتها الداخلية. بل حاولت ان تعزل نفسها عن الاتفاقيات العالمية من خلال تبني قوانينها واتفاقياتها الخاصة تحت اليافطة الإسلامية، مثل القانون الجنائي وتعريف الإرهاب، وحقوق الانسان. التي كان العالم يعتقد انها قد تفتح الطريق لتبني نظم حكم اكثر إنسانية وقابلة للاستمرار، الا انه في النهاية بقت حتى هذه الاتفاقات البينية حبر على ورق،.

ان المنطقة لم تترك خيارا لنفسها، الا خيار الحرب ومحاولة إبادة الاخر، في ظل مفاهيم مثل الفئة الناجية، كل يرى نفسه الفئة الناجية والاخرين في ظلال، ليس على مستوى الطوائف، بل حتى الدول مارست هذا الدور وان كان بلغة اخرى، من خلال عدم تقبل الاخر وحقة في العيش والمشاركة. قيادات سياسية ظلت تحكم لاكثر من أربعين عاما، وتجر البلد خلفها نحو الهاوية، ونحو دائرة مغلقة لا يمكن فيها من طرح أي خطة للمعالجة، لان الأنظمة وحتى بدائلها المفترضة، او التي تركت لها ان تعيش، انمت الحقد والكراهية كل ضد من يخالفه، و ضد العالم كله.

امام هذه الصورة القاتمة، فالصراعات ستدوم والحروب ستنتقل، ولن يتمكن العالم من ان يهدئ الثوران القائم، الا بعد ان تخور قوى المتصارعين تماما، مما سيدفعهم لكي يدعوا العالم ان يقوم هو بوضع ما يراه مناسبا لهم ولمستقبلهم.

&

[email protected]

&