نظام الحكم الديمقراطي الذي جاء به الأمريكان للعراق بعد إسقاطهم للدكتاتورية يُصنف على إنه من أرقى أنظمة الحكم في العالم، فهو نظام معمول به في الكثير من الدول المتقدمة، حيث يقوم على مجموعة من الأسس والأركان التي تعتبر مفاتيح مهمة لإدارة مفاصل دولة بمهنية عالية وتحقيق مستوى متقدم من العدالة الإجتماعية بين مواطنيها، وأهم أسس هذا النظام هو : الفصل بين السلطات، تحديد الصلاحيات، دستور ثابت، هيئات مستقلة، تعددية حزبية، صحافة حرة، إنتخابات نزيهة، وضمان حقوق المرأة والطفل، ولذلك فلا يمكن بأي حال من الأحوال إسقاط المشاكل المتفاقمة التي يعاني منها العراق اليوم وتحميلها على هذا النظام وقيمه ومفاهيمه السامية الحافظة لكرامة البشر، حيث نلاحظ بعض الدعوات التي تصدر من هنا وهناك والتي تعمل على تأجيج الرأي العام ضد صيغة الحكم هذه وتَدعوا العامة والغَوغاء وما أكثرهم في العراق الى رفض هذا النظام جملة وتفصيلآ والعودة الى الحكم الرئاسي كما يُصرحون، والحكم الرئاسي بنظر هؤلاء هو بالتأكيد ليس على الطريقة الفرنسية بل عودة وإشتياق الى سنيين العبودية والعصى البعثية الغليظة، نسى هؤلاء أو تناسوا إن السبب الرئيسي لتلك المشاكل َيكمن في القائمين على هذا النظام فأغلب الذين يَتَحكمون اليوم بالمشهد السياسي العراقي هم نتاج أيدلوجيا ظلامية منغلقة لا يُمكنهم التخلي عنها أو تجاوزها، فَبعض هؤلاء إسلامي راديكالي تكبله نصوص وأحاديث لا يستطيع التملص منها أو الخروج عليها، والبعض الآخر تُحركه عَصَبية قومية أو عشائرية هي رصيده وسعة أُفُقِه وأقصى ما يمكن في مستوى تفكيره، علاوة على إن الديمقراطية التي تطبق في العراق الآن تفتقد لوجود الأرضية والقاعدة الشعبية المهيئة لإستيعاب مفاهيم وبنود وأحكام مثل هكذا نظام حُر ظَهَرَ بعد مَخاضات عَسيرة لأمم عَظيمة ناضَلت وكافَحت للوصول الى تلك الصيغ العادلة المتوازنة في الحكم والتي إبتعدت كثيرآ عن ما كان متوارث من أنظمة إستبدادية في قرون أوربا الوسطى، يُضاف الى كل ذلك إن العراق والمنطقة العربية عامة تَفَتقر في الغالب ومنذُ أزمان بعيدة الى الأحزاب المدنية وغياب واضح للطبقة الوسطى العاملة والمحركة، ولا وجود حقيقي فيها لثقافة قانونية ودستورية.

خطأ الأميركان الأبرز كان في تَجاهلهم لطبيعة الشَعب العراقي، عندما ظنوا إن هذا الشعب بمجرد أن يسقط نظامه الإستبدادي ذو الحزب الواحد والطائفة الواحدة فأنه سوف يَصون تجربته الجديدة ويحرص عليها سيما وإنها تجربة مختلفة في الحكم أساسها التعددية والتبادل السلمي للسلطة عن طريق صناديق الإنتخابات حاله كحال الشعوب الأخرى التي دخلوا معها في تجارب نتيجة لحروب خاضوها ضد أنظمتها، كاليابان وألمانيا مثالآ، فبمجرد أن سقطت أنظمة تلك البلدان عَمدت الولايات المتحدة مع حلفاءها الى العمل السريع والمتواصل لتأهيل تلك البلدان حيث إستوعبت شعوبها دروس الحروب وقَسوتها، فَتفاعلت نُخبهم السياسية والفكرية، والطبقة المثقفة، وصفوة المجتمع، حتى رجال الدين مع المتغيرات الجديدة وحثوا أتباعهم على مُسايرة الواقع الجديد والتكيف معه، فالحكمة تقتضي أن تُحافظ على ما تَبقى من شعب وتُراث وثَرَوات وتأريخ وأرض بدل أن تفقد كل شيئ، لقد قَلَبت تلك الشعوب نكباتها الى إنتصارات في باقي مجالات الحياة، وسخرت القوة المحتلة لصالحها لِتَكون عُنصر مُساعد على النهوض واللِحاق بِركب الحضارة بَدل التقوقع والتمترس خَلف شِعارات جوفاء فارغة لا تُقدم حلولآ عملية، وطلب ثارات وعِناد أحمق لا يُوَلد إلا الفُقر والفاقة والتَخلف والجَهل والتشرذم والتمزق كما حصل ولا زال في الحالة العراقية.

لقد أصبح من شبه المؤكد وبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عامآ على إسقاط أعتى الأنظمة الشمولية وحشية في العالم إن شعب العراق بغالبيته لا يستحق هذه التجربة، فقد حاربها وألتف على بنودها وأسسها وَمفاهيمها،وُحَوَل فُسحة الحُرية فيها الى بوابات للفساد بكل أشكاله وتفرعاته، وأستغل مفردة حقوق الإنسان لِيَنفذ منها القتلة والإرهابيين وسُراق المال العام،وفي كل بند وركن من أركان هذا النظام الديمقراطي كانت هناك فيه للعراقيين بصمة للإساءة وسوءآ للتطبيق.


[email protected]