&
لقد أحتفلت اليابان بذكرى الهجوم النووي الذري الأمريكي عليها لعام 1945، في منتصف شهر أغسطس الماضي، ليتذكر الشعب الياباني أهمية السلام في التناغم المجتمعي، والسلام العالمي، والتنمية المستدامة. ويحضر هذه الاحتفالية سنويا رئيس الوزراء الياباني والحكومة والبرلمان ورئاسة القضاء وسفراء دول العالم في اليابان. والجدير بالذكر بأن سفراء الولايات المتحدة في اليابان بدأوا يحضرون هذه الاحتفالية خلال العقد الجاري، بالإضافة للرئيس الأمريكي باراك أوباما. وقد تكون هذه الاحتفالية فرصة لمراجعة التاريخ الياباني لإستفادة دول الشرق الأوسط من تجاربه. كما أن وزارة الخارجية اليابانية الموقرة رتبت هذه السنة رحلة للدبلوماسيين إلى اقليم "مييه"، والذي يجمع بين التاريخ والروحانيات والتطورات الصناعية في اليابان. وقد لفت نظري زيارة هذه المنطقة كيف يؤدي السلام، والتناغم الدولي، وجهود العمل المجتمعية المخلصة، لتطورات علمية تكنولوجية صناعية، مع التنمية المستدامة، والسعادة المجتمعية. والنظام الياباني هو نظام إمبراطوري دستوري، يعتبر فيه جلالة الإمبراطور رمزا لوحدة البلاد واستقراره وتناغمه، بينما تقوم الحكومة المركزية بالقيادة التنفيذية، والبرلمان بشقيه مجلس النواب ومجلس المستشارين بالدور التشريعي، وهناك أيضا سلطة قضائية منفصلة. والجدير بالذكر بأن اليابان مقسمة إلى 47 اقليم منذ بدء عصر الانفتاح والحداثة مع حكم الإمبراطور ميجي في عام 1871، ويتم انتخاب في كل اقليم حاكم وبرلمان الولاية، وتكون لكل ولاية ميزانيتها الخاصة. ومن الملفت للنظر، بأن اقليم "مييه" يتميز بالجمع بين التاريخ والتصنيع والعلوم والتكنولوجية، مع الروحانيات اليابانية. فبهذا الاقليم ثقافة تاريخية عريقة، وصناعة تكنولوجية متقدمة جدا، كالصناعات التكنولوجية الخفيفة العالية التقنية، كصناعة التلفون والكومبيوتر، بالإضافة للصناعات الثقيلة، كصناعة السيارات والجرارات. ويقدر عدد سكان هذا الاقليم بحوالي 1.85 مليون، ويصل عدد قوته العاملة إلى 940 ألف، وتبلغ مساحته الاجمالية 5762 كيلومتر مربع. وقد وصل ناتجه المحلي الاجمالي في العام الماضي إلى 7,155,303 مليون ين ياباني، أي لما يقارب 70 مليار دولار، بسعر الدولار اليوم. تصور عزيزي القارئ 1.85 مليون مواطن ينتجون 70 مليار دولار سنويا، من منطقة لا تملك أي موارد طبيعية.&
كما يكتشف الزائر في هذا الاقليم سر روحانية اليابان الذي خلقت الشخصية اليابانية بسلوكها المتزن، وصدق تعاملها، ولطف معاشرتها، وبإنتاجيتها المرتفعة، وبمهارتها اليدوية المتقنة، وبرزانتها وحكمة ذكائها العاطفي. ويمكننا أن نكتشف هذا السر حينما نزور معبد إلهة الشمس. فإلهة الشمس تعتبر مهمة في روحانية عقيدة الشنتو، التي يعتبرها الشعب الياباني الطريق الروحاني للحياة، ولكن لا يسمونها دينا، حيث يركز الشعب الياباني على البوذية كطريقه للآخرة. لذلك يحتفل الشعب الياباني بولادة الطفل في ضريح الشنتو، ويضم المسيحية في مراسم احتفاليات الزواج في الفندق، ويكمل مراسم الوفاة من خلال الديانة البوذية في معابدها. وتعتبر الشمس في اساطير الشنتو أصل الحياة، فهي توفر الطاقة للتدفئة، وتساعد اشعتها على تبخر مياه المحيطات، لتشكل السحب، ولتؤدي لنزول الأمطار، لتوفر المياه العذبة على الأرض. كما تساعد أشعة الشمس على نمو النباتات والأشجار، لتوفر العشب للحيوانات على سطح كرتنا الأرضية، وللأسماك في بحارها ومحيطاتها وأنهارها، وبذلك توفر للإنسان غذائه وصحته وإنتاجيته، وربما سعادته أيضا. وتربط الاسطورة اليابانية بين تعدد آلهة الكامي (الكامي بالمفهوم الاديان الإبراهيمية قد تعني الملائكة)، وولادة العائلة الامبراطورية اليابانية من كامي إلهة الشمس، والتي تعتبر أصل الشعب الياباني باكمله. فتوضح الأسطورة اليابانية، في كتاب النهون شوكي، الذي يجمع التاريخ الياباني باساطيره الجميلة، بدء خلق اليابان من خلال أسطورة جلوس الإلهه ازنامي مع زوجته الإلهة ازناجي على العرش السماوي، وتحريك العصاة الإلاهية المرصعة بالمجوهرات في بحر اليابان، وحينما يرفعها من البحر، تتساقط قطرات من الماء لتتشكل جزر اليابان الخالدة. كما تحمل الزوجة ازناجي من زوجها أزنامي لتلد بعدها، حفيدتها إلهة الشمس، التي تعتبر في الأسطورة اليابانية أصل العائلة الإمبراطورية اليابانية، وسلالة الشعب الياباني بأكمله.
وقد بني باقليم مييه، وفي مدينة الروحانيات "إسه"، ضريح إلهة الشمس في وسط غابة كبيرة جميلة، وبجوار هذا الضريح بني ضريح إلهة الغذاء، التي توفر في الاساطير اليابانية الغذاء للشعب الياباني. ويهيأ الكهنة في هذا المعبد وجبتين من الغذاء، يقوم كهنة الضريح بتقديمها في احتفالية روحانية متميزة مرتين يوميا إلى إلهة الشمس. وطبعا بعد تقديمها لإلهة الشمس، يتم توزيع الأكل على كهنة هذا الضريح. ويتكون هذا الضريح من عدد كبير من الأضرحة المبنية من الخشب، وبدون استخدام اي نوع من المسامير. وهنا يلفت نظر الزائر في المتحف الخاص بالضريح، الإتقان العجيب الذي يتم فيه بناء هذا الضريح، بدون أي قطعة من الحديد أو اي سائل صمغي. والجدير بالذكر بأنه يتم تجديد بناء هذا الضريح كل عشرين عام بنقله بالتناوب لأرض مجاورة. ويعتمد بناء الضريح الجديد على أشجار الغابات المجاورة، ويتم دائما تجديد هذه الغابات بزرع أشجار جديدة، بينما ترسل قطع الخشب من الضريح القديم لباقي أضرحة الشنتو في اليابان للتبرك بها، واستخدامها في تجديد بناء أضرحة أخرى. ويعتقد كهنة الضريح سبب أهمية تجديد الضريح كل عشرين عاما هو للمحافظة على شباب إلهة الشمس، ولإبقاء المهارات التقليدية في بناء الأضرحة، بين الأجيال المتعاقبة من الشعب الياباني. &
والجدير بالذكر بأنه في الروحانيات اليابانية هناك ما يقارب بحوالي الخمسة مليون إلهه كامي، والتي تعتبر إلهة الشمس هي إلهة الآلهة جميعا، وقد علق أحد كهنة الضريح على فلسفة تعدد آلهة الكامي في الروحانيات اليابانية بقولة: "تعكس فلسفة تعدد آلهة الكامي في الروحانيات اليابانية سر التناغم في الثقافة اليابانية، فتعبر ثقافة تعدد هذه الآلهة عن فلسفة قبول الاحتمالات المتعددة في الحياة، بدل التركيز على حقيقة فريدة، فلا تؤمن الثقافة اليابانية بحقيقة وحيدة مطلقة، بل هناك دائما احتمالات لأفكار ونظريات متعددة في الحياة، ويجب احترمها، لخلق التناغم، بحوار جميل، للوصول لفكرة مبدعة أكثر شمولا، قد تصلح لزمن ما، ولحدث ما، ولتنفذ بطريقة معينة. وبجمع هذه الافكار المتناغمة في بوتقة الاتفاق المجتمعية، يمكن خلق روية متناغمة، لتلعب دورا في التطورات المجتمعية والعلمية والتكنولوجية والصناعية، لتحقق التنمية المستدامة، ولتثري الشعوب وتسعدها. بينما ليس للفكرة المطلقة الفريدة أية اعتبار في الثقافة اليابانية، لأنها تؤدي للتطرف في الفكر، وللنزاع والصراع على حقيقة فريدة حالمة، ولتؤدي لفقد الاتفاق والتآلف والتناغم المجتمعي، وهو أصل الصراع القبلي والطائفي الذي عانى منه الشعب الياباني عبر تاريخه الطويل.
& ولنراجع عزيزي القارئ في هذه المناسبة التاريخ الياباني، للاستفادة منه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا الشرق أوسطي، وخاصة بعد أكثر من خمس سنوات على ما سمى "بالربيع العربي"، وبعد صراع سياسي ديني طائفي مرعب، وبعد قتل ودمار كبير في منطقة الشرق الأوسط، بل وخلق اثني عشر مليون لاجئ في "نكبة" الصراع بين ثيوقراطية النزاع المؤسساتية والخلافة التوحشية الداعشية. وأتذكر هنا مقولة لأستاذنا الفاضل الدكتور محمد جابر الأنصاري، في كتابه، مسألة ألهزيمة، حيث كتب يقول:"فالخطاب الفكري العربي لم يتجاوز بعد بشكل حاسم المقولات العاطفية والوجدانية المرتبطة باللغة والتاريخ والمصير...إلى المقولات العقلية الواقعية التي لها علاقة بالهياكل الاقتصادية والصراع الاجتماعي والتنمية والسياسة الدولية." فها هو أستاذنا الفاضل يدعونا لمراجعة تاريخنا العربي الإسلامي بدراسات بحثية منطقية عقلية واقعية، ونرجو من دراسة التاريخ الياباني أن نستطيع الاستفادة من تجربة غنية، لتحقيق ما طالب به أستاذنا الفاضل، ومفكرنا المستنير.&
لقد بداء اليابانيون بدراسة تاريخهم من جديد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد صدر كتاب بعنوان "من جسر ماركو بولو إلى بيرل هاربر.. من هو المسئول؟" &تصور بعد أكثر من ستة عقود من الزمن تشكل لجنة من الصحفيين من الصحيفة اليومية الأكثر توزيعا، يوميوري شمبون، لبحث المسؤولية التاريخية. وتصور لمن كان إهداء هذا الكتاب؟ أهدي الكتاب لجيرانهم الصينيين والكوريين وباقي دول آسيا، التي عانت من ويلات الحرب والاحتلال الياباني. فقد استفاد اليابانيون من اخطائهم، بعد أن بحثوا وحللوا تاريخهم بصدق، وتفهموه بضمير، واستطاعوا من خلاله أن يستقرءوا ويقرروا المستقبل. فقد لاحظتم بعد أن أعلنت كوريا الشمالية تجربتها النووية، بأنه لم ينفعل اليابانيون، مع إن تكنولوجيتهم النووية السلمية متطورة، ويستطيعون صناعة قنابل ذرية وهيدروجينية خلال فترة وجيزة، ولكنهم لم ينفعلوا ويصرخوا مطالبين بإنتاج قنابل نووية، بل سيطروا على عواطفهم، وأصروا على الحوار الدبلوماسي والضغط الاقتصادي، وحافظوا على سياستهم اللانووية، ومحاربة هذا السلاح الرهيب، الذي عانوا من دماره، فقد استفادوا فعلا من مآسي تاريخهم، لبناء مستقبل مزدهر، وتجنب صراع مستقبلي مدمر.&
سنأحاول عزيزي القارئ من جديد عرض التاريخ الياباني من خلال تحليلي المتواضع ومناقشات وقراءات لمؤرخين يابانيين وغربيين. فقد يساعد ذلك القارئ العربي أن ينزل من حلم ثورة ربيعه العربي، إلى تحديات واقع العولمة المعقدة والمتشابكة التي يعيشه، حيث سيجد بأن التاريخ الياباني لم يختلف عن تاريخنا العربي في المعاناة من الفرقة والطائفية والحروب الأهلية الطاحنة والاحباطات المتكررة. وقد نستفيد من هذه التجربة اليابانية لدراسة حقيقة تاريخنا، والتعلم من نجاحاته، وتجنب هفواته، لبناء مستقبل أطفالنا وسعادتهم. فيعتقد المؤرخون بأن شعب اليابان متعدد الأعراق، ومن أصول مغولية، مع قرابته من الشعب الصيني والكوري. وفي حوالي القرن المائة قبل الميلاد، وفي عهد "الجومون" بدأوا حياتهم بالصيد والعمل في صناعة الفخار، وليتطور مجتمعهم في عهد "اليايو" (300 ق.م.) إلى مجتمع زراعي، وبنظام ري متميز لزراعة الرز، ثم برزوا في عهد "تولمولوس" (300 ب.م.) كمجتمع سياسي وبقوة عسكرية. ويبداء التاريخ الياباني بأسطورتي كوجيكي ونهون شوكي التي تروي قصة هبوط أبن إلآهة الشمس للأرض، وبمباركتها، تبدءا دولة اليابان تاريخها الجديد في عام 660 قبل الميلاد. وقد برزت في القرن الرابع قبل الميلاد قبيلة "الياماتو"، والتي تعتبر أصل الشعب الياباني، كجماعات منظمة، في وحدات متخصصة، في مجالات مختلفة، كالزراعة وصناعة الفخار والنسيج وإنتاج البضائع، وكانت محكومة بإدارة مدنية وعسكرية، وبقيادة زعماء العشائر، وبمباركة الآلة. وبداء اليابانيون التعرف على حضارة الصين وسلالاتها الحاكمة في القرن الأول بعد الميلاد، وفي عام 552 وصلت الديانة البوذية إلى اليابان من خلال كوريا. وقد كانت البوذية خلال القرن الخامس والسادس بعد الميلاد العربة التي انتقلت من خلالها الحضارة الصينية إلى اليابان. ففي عهد "نارا " (710-794) &تعلمت اليابان الكثير عن الحضارة والثقافة الصينية، وأما في عهد "هيين" &(794-1185) أتسمت اليابان ببزوغ وأفول البلاط الحاكم، وفي عهد "الكاماكورا" (1185-1333) تحولت اليابان إلى دولة المحاربين. وقد أرسل حفيد جنكيز خان، كابولا خان، في عام 1268 خطاب لحاكم اليابان طالبا منه الاعتراف بسيادته على البلاد ودفع الجزية، ولكن اليابانيون تجاهلوا طلبه. فقام بعدة محاولات شرسة حتى موته عام 1294، لغزو اليابان ولكن جميعها باءت بالفشل، لبسالة المحاربين اليابانيين، وشدة الرياح والطوفانات، التي أدت لتحطم سفن العدو. واشتهرت منذ ذلك الوقت تلك الرياح والطوفانات "بالكاميكز" أي الرياح الإلاهيه التي حمت أرض لألهه. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان