&
&
قرأت في الصحافة البحرينية في شهر فبراير الماضي عن حوار في المجلس النيابي البحريني، حول وضع تشريع يمنع تشبه الفرد بالجنس الاخر علنا، بل دعا أحد النواب عقابا لتكرر هذا السلوك قد يصل إلى سنة واحدة في السجن. وقد أدى هذا الموضوع لحوارات عامة وخاصة مع جمعية حقوق الإنسان البحرينية والمجلس الأعلى للمرأة، حيث أكدتا هاتين المؤسستين على ضرورة دراسة هذا الموضوع دراسة متكاملة علميا وطبيا وسيكولوجيا واجتماعيا، قبل وضع أي تشريع حول اختلاطاته المعقدة. وقد لفت نظري هذا الموضوع لأطرح كيف تعاملت التجربة اليابانية مع هذه المعضلة، وفي مجتمع شرق آسيوي محافظ جدا.
& فخلال وجودي في اليابان اثني عشرة عاما، كأول سفير لمملكة البحرين، لفت نظري ثلاثة أمور في موضوع اختلاط الجنس، الجنس الثالث.& فالنقطة الأولى التي أريد أن أطرحها هي بأنني خلال فترة وجودي لم الاحظ منظر أحد يتشبه بالجنس الاخر ظاهريا، وبطريقة شاذه غير مهذبة، ولو كنت أسمع عن بعض الأشخاص معروفين بأنهم مما يسمون في مجتمعنا بالشاذين جنسيا، والذي يجب أن نفرقه عن موضوع نقاشنا اليوم، الجنس الثالث، والمعروف علميا باختلاط الجنس.&
أما تجربتي الثانية في هذا الموضوع هي ندوة بنادي الصحافة الاجنبي بطوكيو، والذي كنت عضوا شرفيا فيه كسفير، وحضرها ثلاثة متحدثين يابانيين. فكان المتحدث الأول شاب وسيم وببدلة سوداء مع ربطة عنق، وقد قدم نفسه بأنه ولد كأنثى، وحينما كبر حس بأن يملك جميع احساسات الرجولة، فراجع المختصين وأكدوا له بأنه تشريحيا بنت، فلديه مورثات أنثوية، ومبيض ورحم وبظر متضخم، في الوقت الذي سيكولوجية عقله هي سيكولوجية ذكرية. ولقد شكا هذا المتكلم بأنه عانى طوال حياته من هذه المعضلة، فشعوره النفسي والعقلي تماما شعور الرجولة، بينما جسمه تماما جسم أثنى، وقد حاول الانتحار عدة مرات، بسبب هذه المعضلة، كما ذكر بأن الأطباء المتخصصين أبدوا إستعدادهم لمساعدته، وذلك بمعالجته بهرمونات ذكريه، مع استئصال المبيض والرحم والمهبل، وتضخيم البظر ليصبح قضيبا بإضافة قضيب صناعي تحت الجلد، يمكن أن ينتصب حسب الرغبة، ولكنه رفض هذا العلاج حتى الآن. بينما كانت المتحدثة الثانية فتاة شابه، شكت بأنها تحس بأن جنسها ذكر، مع أنها جسميا فتاة، حيث بينت جميع الفحوصات بأن مورثاتها وهرموناتها أنثوية، ولديها رحم ومبيض ومهبل وكظر طبيعيين، ولكنها سيكولوجيا ونفسيا تنجذب نحو النساء وليس الرجال، بل تريد أن تتزوج من فتاة، وفي نفس الوقت تريد أن تحافظ على جسمها كما هو جسم وجنس أنثى. بل تفتخر، وتحب أن تبقى وتتصرف كفتاة، ولكن انجذابها الجنسي ليس نحو الذكور بل نحو الإناث، وأكدت بأنها حاليا تعيش مع فتاة، ويفكرون جديا في الزواج، الذي هو محضور قانونيا ومجتمعيا في اليابان في هذه الحالات.
لقد عايشت معضلة تداخل الجنس (انتر سكس)، والذي نسميه في مجتمعاتنا العربية بالجنس الثالث، كطبيب وجراح أطفال، حيث عالج فريقنا الطبي الكثير من حالات التداخل الجنسي (الجنس الثالث) في الأطفال، خلال السنوات الطويلة التي مارست فيها جراحة الأطفال. فتداخل الجنس هي معضلة طبية واجتماعية قد تكون بسيطة، وخاصة حينما تشخص مع ولادة الطفل، وقد تكون معقدة، وخاصة مع كبر السن. ولشرح هذه المعضلة نحتاج لمقدمة طبية لفهمها. يتكون جسم الانسان من وحدات صغيرة تسمى بالخلايا. ويبدأ تكون الإنسان من التقاء نصف خلية ذكرية، تسمى الحيوان المنوي، والذي يخترق نصف خلية انثوية تسمى البويضة، لتندمج مورثات المرأة والرجل لتشكل المضغة، والتي تستمر خلاياها في الانقسام لتشكل الجنين وبأعضائه المختلفة، ومنها الأعضاء الجنسية. ويتحدد الجنس في الجنين من خلال نوع المورثة التي يحملها، فالمورثة الجنسية الذكرية تؤدي لنمو الخصية والبروستاتة والقضيب، بينما تؤدي المورثات الانثوية لتشكل المبيض والرحم والمهبل والكظر، وبذلك يتحدد جنس الجنين. وفي نفس الوقت هناك تطور عقلي مع الوقت لجنس الجنين، ليتحدد هل هو عقل مذكر أم عقل مؤنث، وعادة يتوافق جنس عقل الطفل مع أعضاءه التناسلية، ولكن أحيانا نادرة جدا لا يتطابق الجنس العقلي مع الجنس الجسمي. بمعنى، ان تكون الأعضاء التناسلية ذكرية، بينما يكون جنس العقل مؤنثا، أو بالعكس قد تكون الأعضاء التناسلية أنثوية، بينما يكون جنس العقل ذكرا. وينقسم التداخل الجنسي لنوعيين نوع يسمى طبيا بالخنوثة (تداخل الجنس) الكاذبة، بمعنى أن جنس الفرد عقليا وجسميا محدد كذكر أو أنثى، ولكن أعضاءه التناسلية الخارجية أي القضيب أو البظر يبدو كخلاف جنسه، فالأنثى يبدو بظرها كقضيب، ولتنفتح قناة المهبل فيه، بينما يبدو في الذكر القضيب صغير، كالبظر، وتكون فتحة البول في أسفل العانة وواسع وكأنه فتحة مهبل، ومع اختفاء الخصيتين في داخل البطن. أما في الخنوثة الحقيقية (وهي نادرة جدا جدا)، تكون مورثات الخلايا تجمع بين الخلايا الذكرية والانثوية، بالإضافة بأن لدي الفرد المبيض والخصيتين، والرحم والمهبل، والبروستاتة والقضيب، ويمكن لهذا الشخص أن يحمل من زوجه، أو يحمل زوجته. وسأحاول عزيزي القارئ ان اعرض بعض حالات تداخل الجنس التي عالجتها خلال فترة ممارستي لجراحة الأطفال.
فقد اتصل بي طبيب الامراض الجلدية وأخبرني بان هناك طفلة في الثالثة من عمرها وتعاني من حب الشباب. وكما تعرفون حب الشباب يبرز مع سن المراهقة، حينما تبدأ تحولات هرمونية كبيرة لتهيئة الجسم والعقل نحو البلوغ. وحينما يبدأ حب الشباب في الطفولة المبكرة يعني ذلك بأن هناك زيادة كبيرة في هرمونات الطفل الجنسية. وقد تبين بأن هذا الطفل أصغر أطفال هذه العائلة، وولد بعد ولادة ستة بنات من قبله، وكان والده محافظ جدا، وكان ينتظر ولادة طفل ذكر منذ سنوات طويلة. وقد تبين بأن الطفل لديه قضيب طبيعي الحجم، ولكن لم تكن هناك خصيتين بارزتين في الصفن. بينما بينت الفحوصات بأن مورثاته وهرموناته انثوية، كما ان لديه مبيضيين ورحم ومهبل، ولكن انفتح المهبل على فتحة البول، فيما يبدو وكأنه قضيب، وفي الحقيقة بأنه بظر متضخم، بسبب زيادة الهرمونات الذكرية. ولم تحتاج هذه الطفلة إلا لعملية بسيطة، وذلك بفتح قناة المهبل في موقعها الطبيعي، وتصغير حجم البظر، وستكون فتاة طبيعية مستقبلا، ويمكنها ان تتزوج وتنجب أطفالا، وبسعادة تامه. ومع الأسف لم يقبل والدها بهذا القرار، خوفا على سمعته من الفضيحة وكلام الناس، بأن ابنه الذكر الوحيد ثبت بانه أنثى، وأصر أن يبقى الطفل ولدا، وفعلا اخذه للخارج، وأجريت له عملية ازيل فيها الرحم والمبيضين والمهبل، واعطي هرمونات ذكرية لكي ينمو كولد. وطبعا ستعاني هذه الطفلة مستقبلا، لأن عقلها عقل فتاة، وبنيتها بنية فتاة، وليس لديها خصية تفرز الحيوانات المنوية، كما أن مبيضها استأصل بعملية جراحية، فلا يمكنها أن تحمل، ولا يمكنها أن تنجب أطفالا من زوجته، إن قرر أن يتزوج بامرأة.
أما المريض الآخر الذي اريد أن أناقشه، هي بنت في الثامنة عشر من عمرها، حولها طبيب العائلة لأنها تشكو بأنه لم تبدأ عادتها الشهرية حتى الان. ومن الجدير بالذكر أنها ولدت في البيت، في قرية بعيدة، فلم يكشف عليها طبيب وقت الولادة للتأكد من جنسها، وكانت نشيطة جدا في المدرسة، وخاصة في الرياضة البدنية، كما كانت تحب ان تقبل البنات كثيرا. وحينما تم فحصها تبين بأنها ليست بنتا، بل هو ولد، فالقضيب موجود، ولكنه مختفي تحت العانة، كما ان هناك خصيتين في البطن، وليس هناك مبيض او رحم او مهبل، كما ان هرموناتها ومورثاتها ذكرية. وحول الشاب للطبيب النفسي، للتأكد بأنه يريد أن يعيش باقي عمره كذكر، وبعد التأكد من ذلك تم إجراء العمليات اللازمة، لإبراز القضيب من تحت العانة، وتعديل مجرى البول في قمة القضيب، وإخراج الخصيتين من البطن الى الصفن.
أما الحالة الثالثة التي ارجو أن اناقشها فهي بنت في الخامسة عشر من عمرها، وكانت شعورها دائما بأنها ولد ذكر، وغرائزها جميعها ذكرية، بل وتتصرف دائما كالذكور، وهي مقتنعة تماما بذلك. وحينما تم فحصها تبين بان جميع فحوصاتها طبيعية، فهي بنت جميلة طبيعية، ولكن كانت هناك مشكلة سيكولوجية اجتماعية، دفع عقلها باعتقاده بأنه عقل ولد، وذلك بأن والدها طلق والدتها، فكرهته، واكتشفت بانها تعيش عالم الذكورة المسيطرة، ولكي تكون قوية ومسيطرة في هذا لعالم عليها ان تصبح رجلا، ولذلك انخلق في عقلها الباطن بأنها رجل، وليست امرأة. وقد حولت هذه الفتاة للطبيب النفساني، وعولجت من عقدتها، ورجعت لفتاة جميلة طبيعية. طبعا ستكون المشكلة أكثر تعقيدا لو ان هذه الفتاة شعورها بانها ذكر لم يكن اضطرابا نفسيا مكتسبا، بسبب عقدتها من قوة الرجال من خلال كرهها لوالدها الذي طلق والدتها، بل كان تشوه ولادي بأن يكون عقلها فعلا عقل ذكر، مع ان جسمها جسم فتاة طبيعية تماما. وهنا يبقى أهمية الحاجة تناغم جميل في المجتمع بقبول الاختلاف، أي بان المجتمع يجب ان يتقبل بان هناك ثلاثة أنواع من البشر، الرجل وهو منجذب بشكل طبيعي للمرأة، والمرأة وهي منجذبة بشكل طبيعي نحو الرجل، بينما هناك نوع اخر من البشر، وهو الجنس الثالث، والذي ينجذب عقله نحو نفس جنسه.&
وقد طور المجتمع الياباني هذا النوع من التناغم، مع أنه مجتمع محافظ جدا، ولا أحد يستطيع ان يتصرف خارج قيم وعادات المجتمع، ولكن وعت المؤسسات اليابانية لحقيقة الجنس الثالث، لكي يتقبل المجتمع، وبتردد كبير، هذا النوع من الاختلاف. فمثلا دعيت كطبيب وسفير مملكة البحرين في لليابان للاحتفال السنوي لجمعية "البنج ربون"، وهي جمعية توعي المرأة للوقاية والتشخيص المبكر لسرطان الثدي، وعادة يدعى لهذه الاحتفالية، بالإضافة لأعضاء الجمعية، والتي كنت أحد المستشارين العلمين لها، كبار المسؤولين، والدبلوماسيين ورجال الاعمال والفنانين. وحينما كنت جالس في الطاولة مع رئيسة الجمعية، وعدد من الدبلوماسيين، تقدمت لي فتاة يابانية جميلة، وقالت لي بأنها عرفت باني طبيب وسفير بحريني، واحبت ان تعرف بنفسها، وفي خلال حديثها اخبرتني بأنها ولدت كذكر، ولكن حينما كبرت وجدت بأن جميع احساساتها كانت احساسات امرأة، ولذلك قرر الأطباء تحويل جنسها لأنثى، لتعيش اليوم مع حقيقة نفسها بسلام، وكممثلة مشهورة وناجحة. والجدير بالذكر بأن هناك في مجال الاعلام الياباني، عدة ممثلات ومشاهير في مجال الدعاية، كانوا رجال، ليبرزوا في الإعلام كممثلات كوميدي كنساء، والناس مرتاحين لشخصياتهم وأدائهم، وفي نفس الوقت هم مرتاحين لواقعهم الجديد. فتلاحظ عزيزي القارئ بأن اليابان تستفيد من الاعلام لخلق تناغم مجتمعي بين هذه الفئة وباقي فئات المجتمع، وكجزء من الفلسفة اليابانية بتقبل واحترام الاختلاف المجتمعي، ومع ذلك يبقى الكثيرون من هذه الفئة منغلقة على نفسها، خوفا من ردة فعل المجتمع الشرقي المحافظ جدا. ولنا لقاء.
طوكيو&
&
د. خليل حسن، كاتب بحريني