أندريه بروتون

اصدر بروتون سنة 1919 مجموعته الشعرية الأولى تحت عنوان "محل الرهونات" Mont de piété وكأنه يسدد ديوناً أدبية للشعراء الذين تأثر بهم، وتتجلى فيها بكل وضوح تأثيرات رامبو، فاليري، مالارميه، ريفيردي وابولينير، كما اعتمد تقنية جديدة وهي مونتاج فقرات مقتطفة من جريدة أو مجلة. ولئن تفصح المجموعة عن محاولات تجديد يتجلى فيها رفضه المبكر للمقاييس الأدبية السائدة، فإن بروتون كان غير راض عما يكتبه، إذ ثمة شيء ناقص لم يع آنذاك ما هو. وذات مساء، وهو على وشك أن ينام، سمع بوضوح جملة بدت له ملحاحة، كانت "تقرع زجاج نافذتي"، وحين حاول تدوينها لم يتذكرها بالضبط، شيء من هذا القبيل: "ثمة رجل تشطره النافذة إلى نصفين"، ولكنها لا تحتمل أي لبس، إذ كان يرافقها تخيل بصري طفيف لرجل يسير وقد شطرته نافذة شاقولية حتى مدار جسمه. وما من شك أن الأمر كان يتعلق برجل يطل من نافذته... فأدرك بروتون أنه يتعامل مع صورة من النوع النادر، ولم يخطر له في العاجل سوى إدخالها في صلب مواد بنائه الشعري. وبينما كان مشغولاً بفرويد وقد ألِفَ طرقَ فحصه التي اتفق له أن طبّقها على بعض المرضى، فقد صمم على أن يحصل من نفسه ما كان يحاول الحصول عليه منهم، أي على مونولوغ منطوق بأسرع ما يكون من دون أي تدخل من الحواس النقدية، وبالتالي مونولوغ غير متلبك بأدنى الطموحات، وأقرب إلى التفكير الشفهي... وقد بدا له أنّ سرعة التفكير لا تفوق بكثير سرعة الكلام وأنّها لا تتحدى اللغة حتماً ولا حتّى القلم الذي يجري بها. وبعد أن اطلع بروتون فيليب سوبو على هذه النتائج الأولية، أخذا يسوّدان رزمة ورق بكل ما يتقطّر من سنان مخيلتهم. وهما في ازدراء محبب لما قد ينجب عن فعلتهما في عالم الأدب، وبتعليقهما العالم الخارجي، أرادا أن يعيدا، طوعاً، داخل ذواتهما الحالة التي كانت تتشكل فيها هذه الجمل المشبعة بالألغاز. وليست "الحقول المغناطيسية" التي صدرت في 1920، سوى التطبيق الأول لهذا التجريب الذي سيؤدي إلى نتائج تغييرية إزاء بنية الشعر والكتابة بشكل عام. لم يتأخر بروتون عن منح الكتابة الاوتوماتيكية أهمية فلسفية كبرى أكثر من اعتبارها مجرد مواد للكتابة الشعرية. بل اعتبرها الشرارة التي ستذكي نار السوريالية نوراً في نفق الوجود. إذن ليس اعتباطاً أن تكون في صلب التعريف الذي وضعه بروتون سنة 1924 للسوريالية: "اسم مؤنث، وهي الآلية النفسية المحض التي يريد المرء عن طريقها التعبير شفوياً أو كتابياً أو بأيّة طريقة أخرى عن وظيفة الفكر الحقيقية. وهي ما يملي الفكر بعيداً عن أية رقابة يمارسها العقل وبعيداً عن أي اهتمام جمالي أو أخلاقي. في الحقيقة إن "الحقول المغناطيسية" كشفت عن رفض لا رجوع عنه لكل التحديدات والمقاييس التي تريد أسر الفعالية الشعرية في زنزانة جنس أدبي ما. ففيها اختلطت القصائد المشطرة إلى أبيات حرّة Vers libre لا تلتزم لا بقافية ولا بوزن، مع النصوص النثرية المنسوجة بالصور، التي تتلاحق وتتراكض عبر الورق نصاً سردياً يتجاوز الصفحة أو الصفحتين. وليس غريباً أن أحد النقاد الذين تناولوا الكتاب آنذاك اعتبر هذه النصوص كقصائد نثر وبالمعنى الرامبوي للكلمة. وقد كتب بروتون، وكأنه وقع على مفهوم جديد يتجاوز مفهوم قصيدة النثر الضيق، 32 نصاً تحت عنوان "أسماك ذَوَبانيّة". ومن غرائب الأمور أنه قرر أن ينشرها مع مقدمة، غير أن المقدمة طالت وأصبحت بيانا هو البيان السوريالي الأول المشهور. في الحقيقة، إنّ الكتابة الاوتوماتكية، سرد الأحلام والنصوص التي يتم الحصول عليها بواسطة التنويم المغناطيسي، أصبحت منطلقات أساسية للشعرية الحديثة. وأصبح ما يسمى "سرديّة" (Le récit) مدخلاً إلى عالم شعري مفتوح لا يقبل أي تقنيات ثابتة وتحديدات للقصيدة. فالقصيدة في المشروع السوريالي تفرض شكلها هي غير ملتزمة بمسافات كلامية: نصف صفحة، أو عشر صفحات، نثراً كتلوياً أو أبياتاً مشطرة. في الحقيقة أن قصيدة النثر، بعد السرد السوريالي للأحلام والإنجاز الاوتوماتيكي للكتابة، خرجت من محدوديتها الكلاسيكية محتضنةً فضاء النثر الأوسع. فها هي القصيدة الفرنسية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، تبرز كاستخلاص راديكالي للإرث الكلاسيكي لقصيدة النثر ( بودلير، رامبو، لوتريامون) وبوتقتها في إطار محدد (جاكوب وريفيردي إلى حد ما)، وما جاءت به السوريالية من طرق لتحرير اللغة بغية استخدامها حلُميّاً (بروتون، أرتو، إيلوار) وبالتالي خلق باب دوّار داخل الإطار نفسه. كما أن بروتون قبل تأسيس الحركة السوريالية، أوضح موقفه من كل محاولة تريد جعل قصيدة النثر فنّاً شعرياً، وذلك في عرضه القصير لكتاب ألويزيوس برتراند "غاسبار الليل"، في مجلة "أدب" (1921):

"لعلّ "غاسبار الليل" لا يستوقف النظر إلاّ كتسجيل في تاريخ الأدب. فهو، على طريقته، يدعو إلى الاعتقاد أنّه لا يوجد شرط أخلاقي للجمال. واعتباراً منه بدأنا الاهتمام في شيء آخر مغاير لسباق العوائق. انه لغير مقبول أن تتغلب اللغة بوقاحة على صعوبات مقصودة (علم العَروض)، أو أن يقتصر طموح الشاعر على تعلّم الرقص في العتمة بين الخناجر والقناني. أنّ أمنية بودلير "مَن مِنّا لم يحلمْ، في أيّام الطموح، بمعجزةِ نثرٍ شعريّ، موسيقى من دونَ إيقاع أو قافيةٍ، فيه ما يكفي من المرونة والتقطّعِ حتّى يتكيّفَ مع حركاتِ النفس الغنائيّة، وتموّجات أحلام اليقظةِ، وانتفاضات الوعي"، لهي من السهل أن تُؤول بهذا المعنى. صحيح أن نثر ألويزيوس برتران يختلف بشكل ملموس عن هذا المثل الأعلى، ويبدو أن بودلير نفسه لم يكن موفّقاً أيضا. كلاهما لم يكف عند الكتابة عن احتلال مكان داخل إطار القصيدة بحيث أن توطد سريعاً نمطاً فيمكننا تعلّم قواعد لعبة جديدة. ومن حينها أخذنا "نؤلّف" قصائد نثر تماماً كسوناتات. هاهما السيدان بيير ريفيردي وماكس جاكوب يجعلان نفسيهما سيدين لهذا الشكل. ويتأسفان على أن العملة القديمة لم تحافظ على قيمتها."
إن قصيدة النثر، بعد أن "ذهبت بها السوريالية إلى أبعد الحدود في الدرب الذي شقه لوتريامون"، أصبحت لدى بروتون تدل إلى سرد مختلج يرسلُ على الشعر شعاعاً نافذاً إلى صميمه فاتحاً إيّاه على آفاق جديدة.

خرائط على الكثبان
إلى غيسيبّي أونغاريتي

جدولُ مواقيت الأنهار الجوفاء والوجنات البارزة، يدعونا إلى مغادرة الممالح البركانيّة إلى أحواضٍ مخصصة للطيور. فوق منديل ذي مربّعات شطرنجيّة متورّدة، مرتّبةٌ أيّام السنة. لم يعد الهواء نقياً، الطريق لم تعد عريضة كالبوق المشهور. في حقيبةٍ رُسمَ فوقها ديدان خضراء كبيرة، نحملُ هذه الأمسيات الفانية التي هي موضع الرُّكب على مَجْثى. دراجات هوائية صغيرة مضلّعة تطوف فوق بار الحانة. أُذن الأسماك، متشعّبة أكثر من زهر العَسَل، تسمع الزيوت الزرقاء تنزل. ومن بين البرانس الزّاهية التي تضيع عبوتُها في الستائر، ميّزتُ رَجلاً مُتحَدِّراً من دمي.


الغابة في الفأس

أحدٌ توفي منذ لحظة، لكنني حيٌّ ومع ذلك لم يعد لي روح. لم يعد لي سوى جسدٍ شفّاف في قراره يمامات شفّافة تُلقي بنفسها على خنجر تمسكه يد شفّافة. أرى الجهدَ بكلِّ جماله، الجهد الحقيقي الذي لا يَزنُه أي شيء، قُبَيْل ظهور النجمة الأخيرة. إنّ الجسد الذي أسكنُ يشبه كوخاً وبسعر مقطوع، يمقت الروح التي كانت لي والطافية بعيداً. حان وقت الانتهاء من هذه الثنائية التي كثيراً ما أُعاب عليها. لقد ولّى الزمن الذي كانت تغرف فيه عيونٌ بلا نور وبلا خواتم، الكَدَر من غدائر اللون. لم يعد ثمّة أحمر أو أزرق. إنّ الأحمر – أزرق بإجماع الآراء، يزول تباعاً وكأنّه أبو الحِنّاء في سياجات عدم الانتباه. أحدٌ توفي منذ لحظة، - لا هو أنت، لا هو أنا ولا هم بالضبط إنّما نحن كلّنا، ما عداي أنا الباقي على قيد الحياة بطرق عديدة: فمثلاً، لا أزال أحسّ البرد. يَكفي! ناراً، ناراً. أو حجراً أفلقُه، أو طيراً أتبعه، أو مِشدّ أشدّه بحزم على خواصر النساء الميّتات، حتّى يُبعثن، ويعشقنني بشَعرهن المتعب وبنظراتهن المنكسرة. ناراً، حتّى لا نموت من أجل مجرّد أجاص منقوع في مشروب روحي. ناراً، حتّى لا تعود قبّعة القش الإيطالية مجرّد مسرحية. آلو، المَخضَرة، آلو المطر، هذا أنا نفَسُ الحديقة اللاحقيقي هذه. التاج الأسود الموضوع على رأسي إنّه صرخة الغربان المهاجرة، إذ لم يكن هناك حتّى الآن سوى مدفونين أحياء، بأعداد صغيرة على كلّ حال، ذا هو أنا الميّت المُهوّى الأوّل. لكنْ لي جسدٌ حتّى لا أتخلّص من نفسي، وحتى أنتزع إعجاب الزواحف لي. يدان دمويتان، عينا نبات الهَدال، فمٌ من ورقةٍ ميتة وكأس (الأوراق الميّتة تهتز تحت الكأس؛ ليست حمراء بالقدر الذي نعتقده، عندما تكشف اللامبالاة عن مناهجها النهمة)، يدان لأقطفكِ، يا صعتر أحلامي المتناهي الصغر، إكليل جبل اصفراري الشديد. لم يعد لي ظلّ أيضاً. آه يا ظلّي، ظلّي العزيز. عليّ أن أكتب رسالة طويلة إلى هذا الظل الذي فقدتُه. شايف كيف. لم تعد هناك شمس. لم يعد هناك سوى مدارٍ من أثنين، رجلٍ من ألف، امرأة من الغياب الفكري الواصف بالأسود الصرف هذا الزمن اللعين. المرأة هذه تحمل باقةً من الخوالد على هيئة دمي.


خصوصي

معتمراً قبّعةً رصاصية اللون، طفق يتقلب على ملصق أملس حيث ريشتان فردوسيتان تقومان لديه مقام مهمازين. أمّا هي، فمن مفاصلها الخاصة في أعلى طبقات الهواء تنطلق أغنية الأجناس المشعّة. وما يبقى من المحرِّك المضرّج بالدم يكتسحه الزُعرور: في هذا الوقت يسقط الغوّاصون الأوائل من السماء. وفجأة تَلطّفَ الجو، وأخذتْ الخفّةُ كلَّ صباح تهزهز شعرها الملائكي فوق أسطحِنا. ما الفائدة، ضد السحر المؤذي، في هذا الكُلَيْب الضارب إلى الزرقة ذي الجسد المأسور بلفافة لولبيّة من الزجاج الأسود؟ ألا تستطيع عبارةُ "مدى الحياة" أن تُشعل لمرّة واحدة لا غير، خيطاً أبيض من خيوط الفجر الشمالي البيضاء، يُصنعُ منه غطاءُ طاولة يوم الحساب.

من "أسماك ذَوَبانيّة"
2
أقل من الوقت الذي نحتاجه لنقولها، أقل من الدموع التي نحتاجها لكي نموت، أحصيت كل شيء، هاهي. أجريت تعداداً للحجر، فكان بعدد أصابعي وأصابع أخرى؛ وزعت مناشير للنباتات، لكنها رفضت أن تأخذها. شاركت الموسيقى للحظة واحدة، والآن لا أعرف ماذا أقول في الانتحار. فإذا أريدُ أن أنفصل عني، فالمخرج من هذا الجانب، وأضيف بخبث: المدخل، المدخل من الجانب الآخر. أترى، ما الذي تبقى عليك لتفعله. الساعات، الأسى، ليس لدي أي إحصاء معقول لهما؛ فأنا وحيد، أنظر عبر النافذة: لا أحد يمر، بالأحرى لا يمر أحد (أشدد على "يمر"). السيد هذا ألا تعرفونه؟ إنه السيد "الشخص ذاته". أقدم إليكم السيدة سيدة. وأطفالهما. ثم أنكص على عقبي، أعقابي هي أيضاً تنكص، لكن لا أعرف على ماذا تنكص بالضبط. أستشير توقيت القطارات: أسماء المدن استبدلت بأسماء أشخاص مسّوني عن قرب. هل أذهب إلى "ألف"، هل أعود إلى "باء"، هل أغير في "عين":. نعم، طبعاً سأغيّر في "عين". شرط أن لا يفوتني القطار إلى الضجر! وصلنا: الضجر، المتوازيات الجميلة. كم هي جميلة المتوازيات تحت قائم الله العمودي.

20
عنَّ لشخص ما ذات يوم أن يجمعَ في كأسٍ من الطين الأبيض زغبَ الفواكه؛ وقد طلى بهذا البخار مرايا عدة وعندما عاد بعد زمن طويل، كانت المرايا قد اختفت. نهضت واحدة بعد الأخرى وخرجت مرتعشة. وبعد زمن أطول، اعترفَ شخص ما بأنه قد التقى، عند عودته من عمله، بإحدى هذه المرايا، فأقترب منها تدريجاً وأخذها إلى بيته. كان شاباً مبتدئاً جميلا جداً، ملابس عمله الوردية جعلته يشبه حوضاً مملوءاً بالماء غُسِلَ فيه جرحٌ ما. ولرأس هذا الماء ابتسامة كأن ألف طير يبتسم في شجرة ذات جذور غائصة. صعّد المرآة بسهولة في بيته وكل ما تذكّره هو أن بابين قد أصطفقا عند مروره، مقبض كل واحد منها كان يؤطرها لوح زجاجي ضيق. كان قد أبعد ذراعيه ليسند حِملَهُ الذي وضعه فيما بعد بألف حذر في زاوية الغرفة الوحيدة التي كان يسكنها في الطابق السابع، ثم خلد إلى النوم. طوال الليل، لم تغمض له عين؛ كانت المرآة تتغوّر انعكاساً سحيقاً لم يُعرف من قبل ولمدى لا يُصدق. لم يكن للمدن سوى وقت الظهور بين سُمْكيها. مدن من الحمى شقَّت عُبابَها النساء فقط من جميع الجهات، مدن مهجورة، مدن ذات عبقرية أيضاً، تعلو بناياتها تماثيل متحركة، وبنيت فيها مصاعد الحمولة على شكل البشر، مدن عواصف فقيرة، وهذه المدينة أجمل وأكثر تهرباً من الأخرى التي فيها القصور والمعامل على شكل أزهار: فذات اللون البنفسجي مثلا كانت مربطَ قوارب. عوضاً عن الحقول ثمة سماوات على الوجه الآخر من المدن، سماوات ميكانيكية، سماوات كيميائية، سماوات رياضية، حيث كانت صور البروج تتحرك، كل واحدة في محيطها، إلاّ أن الجوزاء كانت تعود أكثر من الأخرى. أستيقظ الشاب في الساعة الواحدة فزعاً إلى المرآة مقتنعاً أنّها أخذت تميل منحنيةً إلى الأمام وعلى وشك أن تقع. استقامَها بصعوبة. فإذا هواجس أخذت تساوره، حتّى قرر أن العودة إلى الفراش أمر خطر فبقي جالساً على كرسي أعرج على بعد خطوة فقط من المرآة وبمواجهتها بالضبط. شعر بتنفسِ شخصٍ غريب في الغرفة... لاشيء. ثم رأى شاباً أسفل الباب الكبير، والشاب هذا كان عارياً ولم يكن خلفه سوى منظر أسود ربما مصنوع من ورق محروق. فقط أشكال الأشياء بقيت وكان من الممكن التعرف على جوهر هذه الأشياء المسبوكة منه. في الواقع، ليس في الأمر خطورة. فبعض هذه الأشياء كانت تعود له: مجوهرات، هدايا حب، بقايا طفولته، بل حتى قنينة العطر هذه التي لا يمكن العثور على سدادتها. أما الأشياء الأخرى فكانت غريبة عليه، ومما لا شك فيه أنه لم يستطع استجلاء ما تنطوي عليه من وظيفة في المستقبل القريب. كان المبتدئ ينظر أبعد فأبعد في الرماد.خامره ارتياح فيه شيءٌ من الشعور بالذنب، من رؤية هذا الشاب المبتسم ذي الوجه الشبيه بَكرةٍ في داخلها ضُرَيسان يطيران، يقترب من يديه. أخذه من خاصرته التي هي خاصرة المرآة، أليس كذلك، وما إن غادرت الطيور، حتّى ارتقت الموسيقى طول الخط الأبيض الذي كان يتركه وراءه طيرانهم. ما الذي حدث في هذه الغرفة؟ المهم، أن المرآة منذ ذلك اليوم لم يُعثر عليها، ولم أقرّب فمي من إحدى شظاياها المحتملة الوجود، من دون أن يصيبني انفعال شديد حتى لو لن أرى في آخر الأمر ظهور الخواتم المصنوعة من زغب الطير، البجعَ على وشك الغناء.

بول ايلوار

شارك إيلوار مع بروتون في نشاطات الحركة الدادائية ومن بعدها الحركة السوريالية، ثم أنسحب أواخر ثلاثينات القرن الماضي لينضم إلى الحزب الشيوعي وفيما بعد إلى سلك المقاومة ضد النازية. بصفته مناصراً للكتابة الآلية وللسردية الحلمية، كتب إيلوار عدداً كبيراً من القصائد النثرية إبّان نشاطه السوريالي. تتميز هذه القصائد بوضوح أكثر من قصائد بروتون الثرية بالمجازات. فالكلمات تسيل بحرية وببراءة العشق الطفولي. وسيولتها الواقعية تستفز وتنعش في آن، فاتحةً كل الأبواب المفضية إلى بهو الكلمات المستحمات في نهر الرائع والمدهش.

تتجسد أحياناً قصائد إيلوار النثرية في جمل قصيرة بلا فعل، النعوت فيها ليست جزافاً، وأحيانا أخرى تتقلص القصيدة إلى مجرد جملة واحدة كقصيدة "الموت". كما أن قصائده هذه لا تعتمد صدمة الصورة؛ وهي بطيئة الجُمل: إذ للكلمات دوما هوامش بيضاء كبيرة، هوامش صمت،في دفاترالآخرين،حيث لا حدود سوى كلماتعزلاء؛ ذاكرة تضمحل لكي تخلق هذياناً بلا ماض.


إنسان

إقامة رائعة. سواقٍ خضراء، عناقيد من التلال، سماوات لا تلقي ظلاّ، أوعية الشَعر، مرايا المشروبات، مرايا الشواطئ، أصداء الشمس، بلّور العصافير، وفرةٌ، حرمان، الإنسان ذو القشرة المَساميّة جائع وعطشان. الإنسان، من أعلى فكرة موته، ينظر مليَّ التفكير الأسرارَ الخيّرة.


الملكة الديناريّة

في صغري، فتحتُ ذراعيَّ للنقاء. لم يكن ذلك سوى تصفيق أجنحة في سماء خلودي، سوى خفق قلب عاشق يخفق في الصدور المغزوّة. لم أعد أستطيع السقوط.
مُحبّاً الحب. في الحقيقة، النور يبهرني. أحتفظ في داخلي ما يكفيني منه لأنظر الليل، كل الليل، الليالي كلُّها.
العذارى كلُّهن مختلفات. أحلم دوماُ بعذراء.
في المدرسة، جالسة على المصطبة أمامي، بردائها الأسود. وعندما تلتفت إلي طالبة منّي حل مسألة ما، براءةُ عينيها تربكني حتّى أنها، مُشفقةً على اضطرابي، تمرر ذراعيها حول عنقي.
وفي مكان آخر، تتركني. تأخذ مركباً. ونبدو واحداً غريباً على الآخر، لكنها جد شابة حتّى كأن قبلتها ليست غريبة عليّ.
وعندما تكون مريضة، فإني أُبقي يدها بين يديَّ حتى الموت، حتى اليقظة.
أركض جد مسرع إلى مواعيدها إذ أخشى أن لا يعود لي وقت لأصل قبل أن تحجبني أفكار أخرى عني.
ذات مرّة، كان العالم على وشك الانتهاء، ولم نعرف شيئاً عن حبنا. أخذت تبحث عن شفتي بحركات رأسها البطيئة والمداعبة. ظننت فعلاً أنّي، هذه الليلة، سأعيدها إلى ضوء النهار.
ودوماً الاعتراف نفسُه، الشباب ذاتُه، عيناها الصافيتان، الحركة الساذجة نفسها لذراعيها حول عنقي، المداعبة ذاتُها، البوح ذاته.
ولكن لم تكن أبداً المرأة ذاتَها.
قال ورق الحظ بأني سألتقي بها في الحياة، "لكن من دون أن أعرفها".
مُحبّاً الحب.


غسق

صحراء أفقية، صانع الزجاج كان يحفر الأرض، الحفّارُ يريد أن يشنق نفسَه والنسيان كان ينظّم نفسه في دخان رأسي.
كان الوقت ليلاً مظلماً حيث يستحيل التمييز بين الكلب والذئب، بين السخام والزفت. يا له من دُوَار. وقبل أن تتلاشى، كشّرت السماء تكشيرة قرناء. كنت أعيش، صغيراً، هنيَّ البال، متدفّئاً، لأنني رصّعت بغيظي النهاري الثمين الصدرَ القاسي لأعدائي المنهزمين.


منطق

الحجارة الأولى لهذا البيت الذي تحلمين به، لا وجود لها. إلاّ أنّ الغبار الأول لم يستقر أبداً على القصور التي كنا ندعم. كانت ثمة نوافذ مزدوجة، لكلينا، أضواء مستمرة وليال جسام، يا لك من عاطفيّة !


موت

الموت يأتي وحيداً، يذهب وحيداً، وهذا الذي أحبَّ الحياة سيبقى وحيداً.

نائمون

النائمون بيض مُعرّقون عروقاً شاحبة الخُضرة، وشفّافون أيضاً شفافية البلور الحجري؛ أفخاذهم تجعل خيوطَ النهار يدلفها. كما ليس لهم صلابة الرخام العادي، بل إنهم جد أرقّاء حتّى أننا نستطيع نحتهم وصوغهم بسكّين.
لكن ما إن نمسّ أجفانَهم حتّى يتصدّع الليلُ القاسي والقارس كصخرة من الأردواز.


المقص وأبوه

الصغير مريضٌ. سيموت الصّغير. الذي منحنا البصرَ، الذي حبس الظلمات في الغابات الصنوبريّة، الذي جفّفَ الشوارعَ بعد العاصفة. كانت له مَعِدة خدوم، كانت له، كان يحمل في عظامه أجمل الأقاليم اللطيفة ويُضاجع بروج الأجراس.
الصغير مريض. الصغير سيموت. من طرفٍ، كان يتعلّق بالعالَم وبالطير من الريش الذي جلبه الليلُ له. لقد ألبسوه فستاناً كبيراً، فستاناً على شكل سلّة، مُذهّبة الباطن، وعلى رأسه نُثار الورق الملوّن. الغيوم تنذر بأنّه لم تبق أمامه سوى ساعتين. ثمّة إبرةٌ، خارج النافذة، تسجّلُ اهتزازات احتضاره وفتراته، بينما الأهرامات في مخابئها المصنوعة من الدانتيلا السكّرية، كانت تؤدي الإجلال الكبير، والكلاب تختبئ في ثقوب الأحجيّة. فأعضاء الجلالة لا يحبّون أن يُرَوا يبكون. لكنْ، مانع الصواعق؟ أين هو صاحب السيادة مانع الصواعق؟
كان حنوناً، وديعاً كان. لم يجلد أبداً الرّيحَ، أو داس الطين بلا سبب. لم يُحجز أبداً في فيضان. سيموت. ليس هباءً، إذن، أن يكون المرءُ صغيراً!


تجميل

دخلت حُجَيْرتَها (*) لكي تُغيّر ملابسها، والمغلاة كانت تغرّد. تيّار الهواء المتسرّب من النافذة أغلق البابَ خلفها. راحت، لبرهة قصيرة، تجلو عريَها الغريب، الأبيض والمنتصب، تزيد من نضارة شعرها المُهمَل، ثم تندسُ في فستان الأرملة.


*- في المخطوطة الأصلية للقصيدة، مسح إيلوار petite chambre (غرفة صغيرة) ووضع مكانها chambrette أي حجرة في حالة تصغير.