تناول الدارسون وبعض المهتمين دخول العرب إلى السودان وتناثر بعض القبائل العربية على امتداد الخريطة الجغرافية السودانية. وهنالك تيار جارف يستهدف شرائح في المجتمع السوداني لتتأرجح الهوية السودانية بين العروبة الإسلامية، والزنجية الإفريقية، وكأنهم تناسوا بذلك وجود كيانات أخرى ! بعضهم عن قصد وتعمد يتلمسه المتابع لما يكتبونه وما يثار من غبار لطمس الهويات الأخرى، ومحاولة إذابتها في المجتمعات.
والبعض الآخر لم يقم لهم وزنًا !! ومن حاول منهم على استحياء زج بالهوية النوبية في ركن قصي وكأنها تستجدي المؤرخين وأولي العلم بان يولوها جانب من الاهتمام المقدر و الصادق.
والحقيقة الدامغة والواقع الذي يمكن أن يتلمسه كل عاقل ومتابع، ولا يمكن أن يغفل عنه، هو أن العرب اللذين قدموا إلى السودان في هجراتهم المتلاحقة حتى من قبل ظهور الإسلام. وكتب التاريخ القديم منه والحديث يؤكد ويشير إلى هجراتهم إلى شتى بقاع الأرض بحثا عن الكلأ والماء، وما يشاع عنهم بعبارة " الرحيل عز العرب "
حيث أن كل الدلائل تشير إلى أن العرب قدموا إلى قوم وأجناس مقيمين في تلك البقاع، ولا يعقل أنهم قدموا إلى أماكن خالية تمامًا منبني البشر. إلى جانب أن المنطق يؤكد أن كثافة التواجد البيئي منذ الأزل يكون حول الموارد المتاحة، فكان من البديهي أن يكون تواجد السكان حول شريط النهر في الإقليم النوبي، ولا سيما أن النوبيين لهم ارثهم الحضاري وتاريخهم التليد. وأبجديات التأثير والتأثر في هذه الحالة تكون واضحة بجلاء. وليس هنالك دليل أوضح من بقاء اللغة النوبية في الإقليم النوبي مؤثرا رغم دخول العرب إلى تلك المناطق، وتعلم من بقوا بها تلك اللغة ومجاراتها في اغلب الأحيان، حيث يجد المتابعين والمهتمين بعض المفردات التي تنتهي باللواحق النوبية كاللاحقة " آب " التي تنتهي بها اغلب أسماء القبائل السودانية في الشمال. وأسماء بعض المناطق التي تعربت في الفترة الأخيرة بعوامل كثيرة لا مجال لذكرها.
وبما أنني انتمي إلى تلك القبائل حاملة الهوية النوبية، وأتلعثم بتلك اللغة النوبية الخالدة التي بقيت تقاوم منذ آلاف السنين المد الإفريقي الزنجي وهجرات العرب والمسلمين. و رغم قصورها اليوم عن تداول كتابة حروفها كسائر لغات العالم إلا أنها بقيت متداولة نطقا " تحدثا " ومؤثرة في الأجناس والقبائل التي وطنت المناطق النوبية، لتدل وبجلاء هوية الكيان النوبي المؤثر أكثر مما تتأثر لقوة منهجهم وحضارتهم الضاربة في أعماق التاريخ.
وتماسك المفردات النوبية لم يتأت مصادفة، بل هو كذلك لان النوبيين لم يطلقوا الأسماء على المسميات جزافا، فلكل اسم وحرف دلالته المعنوية والحسية. وربما كان للمعتقد أيضا دور بارز في إطلاق الأسماء على اغلب أدواتهم. وهؤلاء القوم الذين احتفوا النيل في جانبيه على امتداده بعد أن يأخذ المجرى النهري اسم النيل وإلى المصب. أطلقوا الأسماء على مدنها وقراها وشلالاتها. و كانوا مؤثرين على كل من وفد إليهم. وربما كان هنالك فئة من النوبيين قد تأثروا بنهج من قدم إليهم، وتنقلوا إلى مناطق أخرى كما تشير الدراسات التي تفيد أن المحس الذين نزحوا أو استوطنوا في جزيرة توتي، وبري المحس، وبعض المناطق لم يتمكنوا من نقل اللغة النوبية إليهم كاملة، بل بقيت بعض المفردات متداولة لديهم، وذلك دلالة أخرى أن التأثر والتأثير يخضع دوما إلى مرتكزات عميقة.
وان ما يحاك من عبارات يتشدق بها البعض ظنا منهم أنها وسيلة ناجعة لطمس الهويات والكيانات في هذا القطر الأشبه بالقارة، لهو عبس وضرب من ضروب الخيال المريض. فلهم أن يتيقنوا أن ما يطلق من عبارات التعنصر والعنصرية والإثنيات وما إلى ذلك. لا يخدم الطرح، فلهم أن يوجهوا جهودهم إلى ما ينفع الناس علّهم يَخلَصوا إلى نتائج أفضل !!.. لو أخلصوا النيّة.

ولياب
كاتب نوبي

[email protected]