هذا الكتاب نشرته إيلاف في موقعها القديم بتاريخ الجمعة 16 أبريل 2004 مع مقدمة كتبها خصيصا المفكر التونسي العفيف الأخضر.

مقدمة العفيف الأخضر

التدخل الأجنبي خروجا من المأزق العربي

حدثان أساسيان بدءا يتفاعلان في وعي النخبة، هما: تقريرا التنمية البشرية العربية لسنتي 2002، 2003، وسقوط بغداد دون قتال. التقريران الصادران عن برنامج الأمم المتحدة كشفا بالأرقام الهوة السحيقة من التأخر التاريخي التي تردى فيها العالم العربي، أما سقوط بغداد دون قتال فقد أطاح بجبل من الأوهام. لا شك أن هذين الحدثين سيغيران شيئاً فشيئاً مقاربة النخبة الفكرية والسياسية للسياسة بل ولكل التحديات المطروحة علينا ويفتحان تالياً منظورات جديدة للتساؤل حيث الفكر ينير الواقع والواقع بدوره ينير الفكر ليخصب كل منهما الآخر.
مؤلف هذا الكتاب د. محمد عبد المطلب الهوني هو نفسه تعبير عن هذا الاتجاه التاريخي. بعد اطلاعه على تقرير الأمم المتحدة الأول شعر بالصدمة: 300 مليون عربي يترجمون من الكتب سنوياً أقل سبع مرات من 20 مليون يوناني، فقرر رصد مليون دولار لإنشاء مؤسسة تحديث الفكر العربي كيما تتلافى التأخر العربي في الترجمة من اللغات الحية، وعياً منه بأن الترجمة هي أحد مفاتيح التلاقح الثقافي الذي لا بديل عنه لأية ثقافة إلا اجترار نفسها المميت. سقوط بغداد دون قتال مثل بالنسبة له حافزاً قوياً لكتابة هذا البحث المهم للإسهام في توضيح المنظورات أمام صناع الرأي العام وصناع القرار في العالم العربي.
الحدثان كشفا له وربما لكثير من المثقفين وصناع القرار أن شيئاً ما متعفنٌ في مملكة "الوطن العربي". وكمثقف ليبرالي وديمقراطي جند ماله وقلمه معاً للانخراط في المعركة الطويلة ضد التأخر التاريخي العربي. وهذا في حد ذاته مؤشر واعد بصحوة النخبة الفكرية والسياسية الحيرى. كثير من المثقفين أصيبوا بعد الأحداث المتلاحقة عالمياً وخاصة عربياً ومنذ سقوط جدار برلين إلى استسلام بغداد دون قتال بـ"دوار العصر" تحت ضغط تسارع التاريخ أي شلال المتغيرات، فانهارت يقينياتهم القديمة وعجزوا عن تعويضها بقناعات جديدة تكون محصلة لقراءة الحقبة التاريخية للتمييز بين ما هو مستحيل وما هو ممكن فيها حتى يتسنى لهم التدخل في دائرة الممكن التاريخي. عجزهم جعلهم يلوذون بالتأتأة أو بالصمت.
إذا صح أن مبادرة مؤلف هذا الكتاب مؤشرٌ على صحوة قطاع من النخبة المفكرة والحاكمة من حيرتها بين الحنين إلى شعارات الماضي وبين مهام وتحديات الحاضر والمستقبل، فإن مسيرة العالم العربي إلى الخروج من أزمة الحداثة قد تسارعت. يشهد على هذه الإمكانية تبني تونس دون تحفظات لمشروع إصلاح العالم العربي، والسياسية الليبية الخارجية الجديدة والشجاعة التي قطعت براديكالية تثير العجب والإعجاب معا شعارات وممارسات الأمس التي باتت متقادمة. طبعاً يعلمنا التاريخ أن الانخراط في مسارٍ تاريخي جديد ليس سهلاً ولا بدون نكوص إلى الوراء، لكنه نكوص مؤقت يعقبه غالباً الوثوب بقوة إلى الأمام.
الضمانة الأساسية في نظري لخروج العالم العربي منتصراً من أزمة الحداثة هو الدعم الخارجي، الأوربي والأمريكي، خاصة إذا اندرج في استراتيجية متماسكة: حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تنمية المنطقة بمشروع مارشال شرق أوسطي، مساعدة بعض النخب وإرغام بعضها الآخر على تحديث التعليم ومنزلة المرأة ووضع الأقليات، ونزع فتيل قنبلة الانفجار الديمغرافي، والتقدم نحو الديمقراطية تدريجياً ولكن بخطي ثابتة.
أرجو أن يكون السلام الإسرائيلي الفلسطيني موعوداً لسنة 2005 كما تقول معلومة د. محمد عبد المطلب الهوني. في الواقع تحقيق السلام الإسرائيلي العربي بتدخل دولي وخاصة أمريكي شرط شارط لدخول الشرق الأوسط المريض بهذا الصراع منذ قرن، طور النقاهة. أهمية حل صراع الشرق الأوسط لا يعني إيقاف التقدم الحثيث نحو إصلاح السياستين الخارجية والداخلية لدول العالم العربي. فالسلام والإصلاح وجهان لعملة واحدة هي تخليص الشرق الأوسط من الحرب والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل والاستبداد والتأخر التاريخي، وهي مشكلات لا تقبل الفصل. بيد أنه يوجد في كلِ كلٍ عنصرٌ يتحكم في باقي العناصر، هو هنا عنصر السلام الإسرائيلي العربي. لماذا؟ لأنه يجفف أحد أهم ينابيع الإرهاب في الشرق الأوسط، تحرير الأرض المقدسة؛ ويحرر في الآن نفسه المجتمع المدني الحديث وخاصة قواه الحية التي مازالت محرومة من الحريات الأساسية الضرورية لنموها. وهذه القوى هي القادرة، إذا ساعدها دعم دولي حازم، على جعل المجتمعات العربية معاصرة لعصرها. هذه القوى الحية كبتها حتى الآن أو حد من ديناميكها هذا النزاع العقيم الذي يلعب فيه الدين دوراً أكبر فأكبر يوماً عن يوم مما يجعل بالتالي المقاربة السياسية العقلانية له إشكالية. السلام إذن، رغم ضرورة مواكبة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والدستوري والسياسي له، سيعطي لهذا الإصلاح زخماً غير مسبوق بقطعه الطريق على تُكأة: "أولوية التصدي للعدو الإسرائيلي". كما يساعد على تقليل كراهية "اليهود والنصارى" وكراهية حداثتهم؛ ويفتح، أخيرا،ً نافذة أمل أمام الشباب اليائس من المستقبل أي من العمل والسكن والأسرة. هذا اليأس الذي شكل حتى الآن وقوداً للتعصب والإرهاب الدينيين.
منذ فشل كامب ديفيد الثانية (آب أغسطس 2000) ناديت بفرض السلام على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني اللذين اتضح أنهما غيرَ ناضجين له. لكن هذا السلام المفروض لن يتقبله الوعي الجمعي إلا إذا تمتع بشرعية دولية لا جدال فيها: شرعية الأمم المتحدة. حتى ولو كان في الواقع مفروضاً من الغرب أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. لرفع كل لبس أقول بأن التقدم نحو السلام والإصلاح بالتوازي ضروريان بنفس الدرجة وفي نفس الوقت دونما إعطاء أولوية مطلقة لأحدهما على الآخر.
"مشروع الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي هو، في الواقع، امتداد لمنطق مسار الشراكة بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية الذي أطلقه الاتحاد الأوربي في 1995 لتسريع وتائر إدخال الضفة الجنوبية إلى الحداثة أي انتشالها من بقايا اقتصاديات ومؤسسات وسلوكيات وذهنيات وقيم العصور الوسطي. من الواضح أن الغرب، بعد الحرب الباردة، اقتنع بأن الحداثة كلٌ لا يتجزأ كما اقتنع بأن قَدَامة الشرق غدَت خطراً على حداثة الغرب. وهكذا بات إدخال الشرق إلى الحداثة جزءاً من المصلحة القومية للغرب كله. وهي مصلحة تتقاطع وتلتقي مع مصلحة مجتمعات العالم العربي. تحول الإرهاب الإسلاموي إلى دولي يضرب بعنف في أمريكا وأوربا وقضية الحجاب في فرنسا تشهدان بأن هذا الخطر ليس خيالياً.
خوف كثير من النخب الفكرية والسياسية من المشاريع الغربية لإدخال الشرق الأوسط إلى الحداثة لا مبرر موضوعياً له. دخولُ الحداثةِ مصلحةٌ غربيةٌ وعربيةٌ في آن. تقاطع المصالح وتلاقيها في حقبة العولمة حقيقة سياسية أساسية. إذا طالبتنا الدبلوماسية الدولية مثلاً بتحديث التعليم وترشيد التعليم الديني وانتشال المرأة من قصورها مدى الحياة وعدم استبعاد غير المسلمين من المواطنة فذلك لأن مصلحتهم في تفادي الإرهاب تتلاقى مع مصلحتنا في تحقيق هذه الإصلاحات الحيوية التي ظلت مطروحة، دون جدوى، على جدول أعمال الدول العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر. هذا التلاقي بين المصالح هو في الواقع فرصة النخب العربية لتنمية مجتمعاتها المتأخرة وليس، كما يدعي الكثيرون، خطراً عليها. لأنهم مازالوا يفكرون في السياسة المعاصرة بمنطق: لعبة لا يكسب فيها طرف إلا على حساب الطرف الآخر، كما كان الحال في عهد الحرب الباردة. فحاجة الغرب إلى الأمن تلتقي مع حاجة العالم العربي للتنمية، وحاجة الغرب إلى احتواء الفوضى الدولية الشاملة تلتقي مع حاجة الشرق الأوسط إلى السلام ليتفرغ لمواجهة المهام والتحديات المطروحة عليه.
أرقام تقريري التنمية البشرية العربية لسنتي 2002، 2003 تشخص عجز معظم النخب العربية عن مباشرة التنمية :60% على الأقل من النساء أميات، و60% من الأسر العربية الإسلامية تعارض إرسال البنات إلى المدرسة، 50% من الشباب العربي لا يري مستقبلاً له إلا في الهجرة إلى الغرب، 18 جهاز كمبيوتر لكل 1000 شخص بينما المعدل العالمي هو 78 جهاز لكل 1000 شخص، نسبة مستخدمي الإنترنت في العالم العربي 1,6 % ، 25 % من خريجي الجامعات العربية يهاجرون سنوياً إلى الخارج، نسبة العلماء والمهندسين الذين يعملون في البحث العلمي في العالم العربي هي 371 من كل مليون شخص فيما المعدل العالمي 979 من كل مليون شخص، يمثل العالم العربي 5 % من سكان العالم لكنه ينتج 1,1 % من الكتب بينما ينتج ثلاث أضعاف الكتب الدينية التي ينتجها العالم كأنما العرب كائنات أخروية مهمومة حصراً بمستقبلها بعد الموت!. هذه الأرقام شاهد على عجز جل النخب عن تحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية المطروحة عليها منذ قرون.
في حقبتنا هذه، كل مشكل قومي لا يُحَل في القوت المناسب يتحول إلى مشكل دولي. وهكذا جاءت المبادرات الأوربية والأمريكية لمساعدة هذه النخب على حل المشكلات التي عجزت عن حلها بنفسها. وهذا منطقي فإما أن نحل بأنفسنا مشكلاتنا التي بتنا نُصدرها إلى الخارج وإما أن يأتي هذا الخارج لحلها معنا أو بدلاً منا.
يندرج مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي في هذا السياق. وهو مشروع ستناقشه ثلاث قمم كبرى: قمة الثماني، قمة الحلف الأطلسي وأخيراً القمة الأوربية الأمريكية. وهكذا سيغدو المشروع مشروعاً غربياً، بل عالميا.
هذا المشروع الغربي - الدولي استلهم تقريري التنمية البشرية الصادرين عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الذي كتبه خبراء عرب. فهو إذن بضاعتنا ردت إلينا .
في الواقع ما يخيف النخب العربية التي تطبق الإسلاموية بدون إسلامويين ليس المبادرات الغربية في حد ذاتها بل محتوياتها الحديثة. مثلاً مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي طرح على القمة العربية (تونس 2004) يتجاهل حقوق الإنسان السياسية وحقوق المرأة وحقوق الأقليات. فضلاً عن أنه تبني قانوناً همجياً يبيح الحكم بإعدام الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً. مواثيق حقوق الإنسان تبنتها تقريباً جميع دول العالم إلا معظم دول العالم العربي التي مازالت، على غرار الحركات الإسلاموية، ترفضها بالجملة أو بالتفصيل باسم الخصوصية الإسلامية التي تحولت، بمساعدة التعليم الديني التقليدي، إلى عائق للدخول في الحداثة أي تبني قيم العصر الكونية.
وهذا ما يجعل الحداثة أولوية الأولويات التي تليها في الأهمية الأولويات الأخرى، كالديمقراطية حتى لا تفقد الديمقراطية مصداقيتها كما هو الحال في الكويت والأردن حيث عارض البرلمان الكويتي المنتخب ديمقراطياً اقتراح الحكومة إعطاء المرأة حق الانتخاب ورفض البرلمان الأردني المنتخب ديمقراطياً هو الآخر القانون الذي اقترحته عليه الحكومة بتشديد عقوبة القتل في جرائم "الشرف" التي يذهب ضحيتها سنوياً في الأردن 120 امرأة. في كل من البرلمان الكويتي والأردني تحالف الأسلامويون مع شيوخ العشائر ضد مشروعي القانونين الحديثين.
هذا لا يعني مطلقاً وضع الديمقراطية في آخر الأولويات بل يعني دمجها في مشروعٍ، الحداثةُ رائدُه والعقلانيةُ منطلقُه؛ أي في مسار متكامل قوامه التعليم الحديث الذي يربط التعليم بالاقتصاد، وتعليم ديني تنويري يفتح الوعي الإسلامي على مؤسسات وعلوم الحداثة والقيم العقلانية والإنسانية الكونية وصنع قرار حديث حسب المعايير الدولية وأخيراً التدخل الخارجي الذكي والناجع لمساعدة القطاع الحديث في النخب السياسية وفي المجتمع المدني لنقل المجتمعات العربية إلى الحداثة.
افتقاد معظم النخب العربية للشجاعة السياسية وللشرعية المزدوجة، الشرعية الديمقراطية وشرعية الإنجازات الاجتماعية، جعلها عاجزة عن تحدى إسلاموييها المستنفرين، بالإنخراط في تحديث نفسها من الداخل. بل الأنكي أنها تمارس الإسلاموية بدون إسلامويين فتفاجئ العالم والقطاع الحديث من مجتمعها المدني بقرارات ماضوية مثل جعل الشريعة _ شريعة العقوبات البدنية _ المصدر الأول للتشريع.
غياب الإرادة السياسية في التحديث وضعف المجتمع المدني الحديث يجعلان الاستعانة بالعامل الخارجي للتحديث أمراً ضرورياً. صور هذا التدخل الخارجي عدة، منها: التعاون الثنائي مع الدول الغربية وغيرها من الدول الحديثة، المبادرات الغربية، التلاقح الثقافي عبر الشراكات الإقليمية والدولية، الاستعانة بالخبرة الدولية المباشرة مثل المبادرة التي أقدم عليها محافظ الإسكندرية عندما تعاقد مع شركة فرنسية على تخليص المدينة من النفايات، وعن صواب اقترح رئيس تحرير الأسبوعية المصرية "وطني"، يوسف سيدهم، التعاقد مع هيئة أجنبية لتنظيم حركة المرور في مصر. أما إذا صح أن دولة قطر قد تعاقدت مع شركة أمريكية متخصصة لإصلاح تعليمها، فهذه ستكون مبادرة رائدة. وما أحوج كثير من الدول العربية للإقتداء بها خاصة تلك التي لم تنجح حتى الآن في إصلاح تعليمها خاصة الديني الذي يغسل أدمغة ملايين الصغار بالتعصب، مثل التعليم الأزهري والسعودي، واستبداله بتعليم ديني يتغلب فيه الوعي التاريخي على الوعي الأسطوري ولا يضع سقفاً للمفكَر فيه في الدين على غرار التعليم الديني التونسي الذي قطع مع التعليم الديني الجهادى والاستشهادي والمعادي للمرأة وغير المسلم والحداثة.
رفض التدخل الغربي، في عصر العولمة التي أسست موضوعياً الاعتماد المتبادل بين جميع الأمم، خالٍ من كل شرعية عقلانية بل إنه يبدو أحياناً هاذياً. في المؤتمر السنوي لمنتدى الفكر العربي الذي يترأسه الأمير حسن في عمان: "تصايحت طائفة من المثقفين: إذا كان الحق مع أمريكا فإننا نرفض الإصلاح نكاية فيها"؛ وهو ما أسماه سعد الدين إبراهيم "فقه النكاية" (الحياة 25/ 12/ 2003) ويمكن أن نسميه "فقه العناد العصابي" المميز للفقه السلفي الذي لخصه ابن تيميه عندما حرم "التشبه باليهود والنصارى حتى لو كان في التشبه بهم مصلحة لنا في دنيانا". هذا الفقه الذي مازال يسمم وعي الأجيال الصاعدة في كل مكان من العالم العربي، عدا تونس، هو الذي غرس في الوعي الإسلامي المعاصر الخوف من التغيير والحداثة والرفض العصابي لهما مما جعل النخب العربية في قطيعة مع التحولات الدولية.
مثلاً رفضت القيادة الفلسطينية في 1939 اقتراح لجنة PEEL إعطاء الفلسطينيين 80 % من مساحة فلسطين و 20% لليهود، وفي 1947 رفضت القيادةُ ذاتُها قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وفي سنة 2000 رفضت القيادة الفلسطينية مشروع بيل كلينتون الواعد بقيام دولة فلسطينية ثم عادت وقبلته ولكن بعد 22 شهراً من عرضه وخروجه مع صاحبه من البيت الأبيض ! وهذا غيض من فيض من مسلسل رفض معظم النخب العربية الفكرية والسياسية تقريباً لكل المشاريع الأجنبية.
كتب الهوني: "لا خيار لنا في قبول العولمة أو رفضها لكن المتاح والمهم هو تحسين أدائها وتصحيح مسارها بحيث يكون أكثر إنسانية (..) مهمة الفلسفة وكذلك الفاعلين الاجتماعيين والمواطنين هو النقد وتصحيح المسار ومحاولة الحد من عدد الضحايا". هذا هو البديل للرفض العصابي لكل جديد في الفكر أو في الحياة: ((تصحيح المسار)). نحن هنا أمام فكرة أساسية في فلسفة التاريخ لم يستوعبها الوعي الثقافي العربي العام بعد: المسار التاريخي يتكون من اتجاه واتجاه مضاد يتصارعان في حقبة تاريخية ما، التاريخ الواقعي هو محصلة هذين الاتجاهين المتصارعين. ليس بمستطاع الأرادوية، أي إدعاء معرفة المستقبل والعمل على تحقيقه ولو بالعنف، أن تتصدي بنجاح ولفترة تاريخية كاملة، لتيار تاريخي هو تعريفاً لا يُصد ولا يُرد. هل يعني هذا انعدام إمكانية التدخل البشري في التاريخ؟كلا، بإمكان الإنسان التدخل في التاريخ عندما يعي حدود تدخله: لا لرفض الاتجاه التاريخي، بل لضبط مساره؛ أي التصدي لأثاره الجانبية لجعلها أخف وقعاً على ضحاياه. وهذا _ للحقيقة التاريخية وكنقد ذاتي _ ما وعاه التيار الإصلاحي في الحركة العمالية منذ بداية الحداثة عندما ناضل لا لإسقاط الرأسمالية، الذي كان ضرباً من المحال، وإنما للحد من وحشيتها بتلطيف شرط الاستغلال. وحقق في هذا المجال إنجازات هائلة.
فماذا يعني هذا في الواقع العربي اليوم؟ مواجهة جميع المشاريع والمبادرات الغربية والدولية بالتفاوض لتحسين شروط قبولها. في عالم تقاطعت وتلاقت فيه مصالح جميع الأمم وتحولت فيه كل قضية قومية لم تحل في الوقت المناسب إلى قضية دولية وغدت فيه الحداثة، بمؤسساتها وعلومها وقيمها، خارجية المنشأ؛ لم تعد "لاءات الخرطوم الثلاثة" ممكنة. فلم يعد بإمكان نخبة عربية أن تقول:"لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض ولا صلح معها".
رفض خطة الشرق الأوسط الكبير لأنها تتضمن دمج إسرائيل في العالم العربي طبعة طبق الأصل من اللاءات الثلاثة، ولكن في حقبة جديدة تماماً بات الرفض فيها عقيماً وخطِراً. أجدى منه التفاوض على دمج إسرائيل في المنطقة والتطبيع معها. إسرائيل المندمجة في الشرق الأوسط لن تكون إلا إسرائيل المعترفة بدولة فلسطينية والمتصالحة مع جاريها السوري واللبناني ومع بقية العالم العربي. الاتحاد الأوربي قفص من ذهب للنسر الألماني فلماذا لا يكون الشرق الأوسط الكبير بدوره قفصاً من ذهب للصقر الإسرائيلي؟ ليس القومويون والإسلامويون وحدهم الخائفين من دمج إسرائيل في محيطها العربي بل يشاطرهم هذا الخوف اليمين وأقصي اليمين الإسرائيلي. مناحيم بن كتب غداة اتفاق أوسلو: "السلام يهدد إسرائيل بالذوبان في المحيط الثقافي العربي، منذ الآن بدأ الفنانون اليهود يتعلمون الغناء بالعربية للغناء أمام مليون سائح عربي سنوياً". بدوره يري رئيس جامعة تل أبيب المستشرق رابينوفيتش وسفير إسرائيل السابق في واشنطن ومدير المفاوضات مع سورية في كتابه الأخير "مخاض السلام" أن: طريق انخراط [إسرائيل في المحيط العربي] ما تزال طويلة وذلك أيضاً بسبب طبيعة العلاقات المباشرة بين إسرائيل والعرب، وكذلك بسبب الفجوة الاقتصادية مع العالم العربي. رغم الجهود الأمريكية لتحقيق إصلاح بعيد الأثر في المنطقة، فإن رابينوفيتش يعتقد بأنه ستمر 20 سنة أخرى على الأقل لكي تستوعب الدول العربية الديمقراطية. والإسرائيليون أيضاً هم بدورهم في نظره غير متحمسين لانخراط كامل في المحيط [العربي]. إسرائيل ستصبح دولة عبور وستغرق بالعربات الكثيرة .. مئات آلاف الزوار سيصلون إليها، لا مع الحراب في أيديهم بل مع غصون الزيتون في أفواههم .. وهذا موضوع معقد جداً ونحتاج إلى أن نفكر فيه كثيراً. يسير رابينوفيتش في كتابه في الطريق ذاته إذ يقول :"في حساب بارد، السلام البارد يلائم الطرفين" (ألوف بن - هاآرتس 30/3/2004). لماذا هذا الرهاب الهستيري العربي اليهودي من دمج إسرائيل في محيطها العربي؟ لأسباب عدة أهمها في نظري أهمها نفسي ثقافي، المركزية الإثنية المتأصلة في الوعي الديني لكل من اليهود والعرب: يهوه أمر شعبَه المختار بأن لا يختلط بالشعوب الأخرى ليعيش في غيتو أبدي، والإسلام السلفي قال للعرب "كنتم خير أمة أخرجت للناس" وهو ما فهمه الناطق باسم السلفية الإسلامية ابن تيميه على إنه تحريم للتشبه باليهود والنصارى والاختلاط بهم.
في الفصل الأخير من بحثه عالج د. محمد عبد المطلب الهوني الإشكالية المركزية: إشكالية الإسلام والحداثة: "الدين في حد ذاته ليس عائقاً من عوائق التحضر" لكن تحويل أحكامه الزمنية إلى حقيقة مطلقة متعارضة مع متطلبات الحداثة، يجعله عائقاً. وهذا صحيح. فكيف نزيح هذا العائق؟ بإصلاح الإسلام عبر فصل الزمني _ الذي غيب الروحي فيه _ عن الروحي. كيف نحقق هذا الفصل؟ بإحلال القانون الوضعي محل الفقه، والمحاكم الحديثة محل المحاكم الشرعية، وعقد المواطنة الحديثة محل عقد الذمة، وحقوق الإنسان محل حقوق الله (العبادات) على الإنسان، والقيم العقلانية والإنسانية الكونية محل قيمتي الحلال والحرام الخاصتين بكل دين، ورفع الحظر عن علوم الحداثة لتدخل جميعاً مدارس العالم العربي وجامعاته، ونزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني التي من شظاياها 90 مليون شاب عربي عاطل عن العمل والتي تعقم كل جهد تنموي، وأخيراً الاعتراف للمرأة بمساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات.
الحداثة تمشي على قدمين: التشريع والتعليم. التشريع الحديث شرط ضروري لإصلاح الإسلام لكنه غير كاف إذا لم يترافق مع تعليم؛ خاصة ديني عقلاني تحل فيه محل المدرسة السلفية السائدة مدرسة العقلانية الدينية المنفتحة التي تفتح النص الديني للتأويل وخاصة للقراءة التاريخية لتكييفه مع متطلبات الواقع. النواة الصلبة لهذه المدرسة العقلانية هي المدرسة التونسية خاصة منذ 1990.
ماذا تعني القراءة التاريخية؟ نسخ أحكام الآيات والأحاديث، خاصة الزمنية التي غدت متقادمة.
هذه القراءة التاريخية للنص الديني دشنها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ عندما كان ينسخ الآيات الزمنية (تلك الخاصة بالمعاملات والعقوبات البدنية و السياسة والحرب ..) ليعوضها بآيات زمنية أخرى أكثر ملاءمة للمستجدات وحاجات ومصالح الناس. بعد موت النبي واصل الصحابة (أبو بكر و عمر وعلي ومعاذ ..) هذه القراءة التاريخية فنسخوا الآيات الزمنية التي تقادمت في عهدهم. بعدهم واصل الفقهاء هذه القراءة الخلاقة التي نحن اليوم في أشد الحاجة إليها لتكييف الإسلام مع الحداثة بعد فشل جميع محاولات أسلمة الحداثة وآخرها محاولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي شاء "مكر التاريخ" أن تكون مدخل النخبة والشعب الإيرانيين معاً إلى العلمانية التي غدت البديل المحتمل وربما الوشيك لهذه الجمهورية الإسلامية.
عسى أن يقرأ صناع الرأي العام وصناع القرار تقديمي وبحث محمد عبد المطلب الهوني دونما عناد عصابي كان ومازال مرضهم المزمن.

د. محمّد عبد المطّلب الهوني

المأزق العربيّ
العرب في مواجهة الاستراتيجيّة الأمريكيّة الجديدة


توطئة


إنّ ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة هو محاولة عرض وجهة نظر أخرى، غير تلك الشّعبويّة القومجيّة التّآمريّة المطروحة على السّاحة العربيّة، التي لا ترى في العالم أيّ تغيير، بل ترى أن لا جديد تحت الشّمس، وأنّنا قد نستحمّ في النّهر الواحد مرّتين... إنّها النّظرة الستاتيكيّة للعالم وللإنسان وحركة التّاريخ.
ولأنّ القراءة المقدّمة في هذه المقالة لا تدّعي امتلاك الحقيقة، فإنّها تدعو إلى ترك الأفكار المسبقة، وعدم الاستعانة بالنّظّارة الإيديولوجيّة الخادعة.
إنّ الإجابات المعدّة سلفا لكافّة الأسئلة المستجدّة هو خطأ علميّ خطير، وإنّ ردّ الظّواهر الاجتماعيّة إلى عامل واحد، هو منطق الذّهنيّة السّحريّة التي لا تتلاءم مع إنسان العصر الحديث. لذلك وجب علينا كعرب أن نحاول طرح الأسئلة، وتفبّل الإجابات المتعدّدة عنها، وعدم رمي الإجابات التي لا تتّفق مع أفكارنا بتلك القذائف المروّعة : قذائف التّكفير والتّخوين وغير ذلك من مخزون التّرسانة العربيّة الهائل والمصوّب، دوما في مواجهة المختلف والمغاير.
إنّ الخطاب السّياسيّ العربيّ الشّعبويّ اليوم لا يرى غير ثنائيّة الأفكار، ومن ثمّة ثنائيّة التّقويم. فنحن نعيش اليوم بين اللّه وإبليس، بين الوطنيّة والخيانة، بين الحقّ والباطل، بين الرّذيلة والفضيلة، وبين الخير والشّرّ... أي أنّنا في عمى تامّ عن تنوّع قوس قزح الأفكار، وهذا المنطق لا يقود إلاّ إلى مسرب التّردّي وهاوية الانحطاط.
إنّ الأنظمة العربيّة اليوم توصف بكلّ الصّفات السّيّئة التي تستحقّها، من عسف وظلم وتعصّب، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا أنّ نفس هذه الصّفات تتمتّع بها بعض النّخب المثقّفة من هذه الأمّة في صراعها الإيديولوجيّ المرير. وقد رأينا في كثير من الحالات والحوادث أنّ هذه النّخب تستنجد بالنّظم من أجل البطش بالآخر لاختلاف رأيه، وكم من حالة مورس فيها العسف على المختلف من قبل الأنظمة إرضاء لهذه الفئة أو تلك، لأنّها تشكّل تيّارا عامّا يؤثّر في القائمين على شؤون التّسلّط، أي أنّ قرابين النّظام من المختلفين تُصعَّد من أجل إرضاء فئة أخرى، والرّابح في كلّ الأحوال هي هذه الأنظمة الظّالمة، بإطالة عمرها.
فبقدر ما نطالب السّلطات برفع المظالم وإعطاء هامش أكبر من الحرّيّات، يجب علينا أن نتصالح مع أنفسنا كمثقّفين، وأن لا نستعمل نفس أساليب هذه النّظم في القهر والجور. فكيف لمثقّف أن يقمع آخر أيّا كانت وجهة نظره أو الفكر الذي يؤمن به؟ إنّ ممارسة القمع الرّمزيّ لا تختلف أبدا عن ممارسة القمع المادّيّ، بل إنّهما متلازمان يخدم كلّ منهما الآخر، ووجود أحدهما توطئة لمجيء الآخر. من علي عبد الرّازق الذي حورب في لقمة عيشه إلى فتوى الأزهر في "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ التي كانت تمهيدا للشّروع في اغتياله، إلى الصّحفيّ فرج فودة الذي اغتيل، وكذلك محمود طه في السّودان، ونصر حامد أبو زيد الذي أرغم على الهجرة من وطنه... كلّ هؤلاء وغيرهم كانوا ضحايا في الأساس للعنف الإيديولوجيّ، ولم يكونوا ضحايا طغيان الأنظمة الحاكمة فقط. فعلى هذه الفئات أن تعلم أنّ استعداء السّلطة على الآخر، والعنف الرّمزيّ والمادّيّ الموجّه إليه هو أسّ الأساس في مجتمع الهمجيّة، وأنّه لا يمكن إقامة مجتمع مدنيّ بدون التّسامح والاقتصاد في تداول الكلمات والتّعريفات والأنماط العدائيّة في الحوار.
كيف يمكن للإنسان العربيّ، بكلّ همومه ووجعه اليوميّ، أن ينساق وراء قيادات "نضاليّة" هي أكثر عسفا من الأنظمة القائمة، وذلك ببرامجها المعلنة وغير المعلنة التي ترمي إلى تطبيقها عند وصولها إلى الحكم؟ إنّ الإنسان العربيّ لا يستطيع أن يضحّي من أجل استبدال سجّان بآخر، لا سيّما إذا كان هذا السّجّان الجديد يحتكر إرادة اللّه ويفسّر مشيئته.
ولنعد إلى ما بدأنا فيه لنقول إنّ الفكر السّائد اليوم في الوطن العربيّ هو أنّ العالم لم يتغيّر بعد انتهاء الحرب الباردة، وأنّ أحداث 11 سبتمبر 2001 لم تغيّر شيئا، والتّغيّر الوحيد الذي حدث هو بروز القطب الواحد، وأنّ أحداث 11 سبتمبر كان لها الفضل في تعجيل أمريكا إلى بسط نفوذها والتّسريع في تطبيق أجندتها القديمة. فحسب هذا الرّأي، سوف تستعمل الولايات المتّحدة الأمريكيّة نفس الأدوات القديمة لفرض سيطرتها، ومن ثمّ يكون المعيار الأمثل في تقويم سياساتها هو ذلك المعيار الذي اعتاد عليه أسلافنا في تقويم سلوكها خلال العقود الخمسة الأخيرة.
أن يوجد مثل هذا الرّأي أمر مباح وعاديّ، ولكن أن يكون هو الرّأي الأوحد في منظور السّياسة وفي خطاب النّخب، فذلك أمر ضارّ بكلّ قضايانا، فيجب أن نحاول وضع كلّ السّيناريوهات المحتملة أو الممكنة وأن نرى العالم وأنفسنا بنظرة جديدة، حسب مستجدّات الأحداث ومجريات التّاريخ، لأنّ الإنسان عندما يكون في عمر الكهول لا يجوز له أن يعرّف بنفسه بجواز سفر يلصق عليه صورته وهو في أيّام الطّفولة. ولذلك فمن الأجدى أن نحاول فهم الآخر لا كما نودّ نحن أن يكون، بل كما هو كائن بالفعل، حتّى يتسنّى لنا أن نخبر سلوكه وأن نتقصّى مراميه.
إنّ الخطاب السّياسيّ العربيّ اليوم، أو على الأقلّ، ذلك المهيمن على السّاحة، هو خطاب نضاليّ إيديولوجيّ قائم على تمجيد الذّات وإلصاق كلّ الرّذائل بالآخر، وهو خطاب مضرّ، وضرره ينصرف إلينا، وينعكس على واقعنا المعاش، ويجعلنا نقبع في ركن من العالم يفعل بنا ولا نفعل، وعندما نحاول أن نقوم بردّ فعل، يكون ردّ الفعل بائسا وانتحاريّا يزيد في انحطاطنا انحطاطا ويأسنا قنوطا. لهذا كلّه كان هذا العرض عن الاستراتيجيّة الأمريكيّة التي أعتقد أنّها جديدة كلّ الجدّة. وكلّ المبتغى هو أن يحظى بقراءة غير عاطفيّة ونقد غير متشنّج.


1-الاستراتيجيّة الأمريكيّة أثناء الحرب الباردة

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها استيقظ العالم على نذر حرب أخرى، وهي حرب بين عالمين كلاهما ساهم في هزيمة المحور. ولكنهما عالمان تحكمهما إيديولوجيّتان مختلفتان : الإيديولوجية الماركسيّة من جهة، بقيادة الاتّحاد السّوفياتي، والإيديولوجية اللّيبراليّة وتمثّلها الولايات المتّحدة الأمريكية. هذه الحرب كانت ممكنة، وذلك بسحق الجانب الذي لم يمتلك السّلاح النّوويّ من الطّرف الآخر، الذي أنهى بنفس السّلاح الفتّاك الحرب العالميّة الثّانية لمصلحته، وأعني بذلك ضرب اليابان بالقنابل النّوويّة. إنّ مثل هذه الحرب كانت شبه مستحيلة، لأنّها تعني إفناء شعوب بأكملها، حتّى يتسنّى النّصر للطّرف الأمريكيّ. وما كان للعالم الذي تنفّس الصعداء بسقوط هتلر وموسوليني واليابان، ليقبل بشنّ حرب أخرى أيّا كانت مبرّراتها. هذا من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية، ستكون هذه الحرب لاأخلاقيّة لأنّها ستقع بين حلفاء خاضوا معا حربا شرسة، وفقدوا فيها الملايين من الضحايا، ولأسباب كثيرة ليس هنا محل ذكرها. كانت الحرب بالمعنى الاقتتاليّ غير ممكنة ولكن حلفاء الأمس بدأوا في حرب من نوع آخر عشيّة وصول جيوشهم إلى برلين، هي التي أطلق عليها اسم "الحرب الباردة".

كانت أمريكا ترى في النّظريّة الشّيوعيّة وتطبيقاتها خطرًا داهمًا على العالم الحر الذي كانت تمثّله مع أوروبا الغربيّة، وكانت مهمّتها غير يسيرة، ذلك أنّ حلفاءها الأوروبييّن، بثقافتهم اللاّتينيّة وديمقراطيّتهم المختلفة عن الدّيمقراطيّة الأنجلوسكسونيّة المبنيّة على نظام الحزبين، تتبنّى ديمقراطيّة من خصائصها تعدّد الأحزاب وكثرتها، وكانت للشيوعييّن أحزاب ضاربة في النّسيج الاجتماعي والسّياسي في هذه البلدان، بل إنّ بعضها كان على شفا الوصول إلى الحكم أو وصل إلى الحكم ضمن تحالف لا يمثل فيه الحزب الشّيوعي محور السّلطة الوحيد، كما في إيطاليا وفرنسا بعيد الحرب. كما أنّ دول العالم الثّالث المتطلّعة إلى الاستقلال كانت ترى عدوّها التّاريخي في الاستعمارين الانجليزي والفرنسي، وهما الحليفان الكبيران لأمريكا... كلّ هذا جعل مهمّة أمريكا في إدارة الحرب الباردة على قدر من الصّعوبة.
على الجانب الآخر كان لا بدّ للاتّحاد السّوفياتي من دعم حركات التّحرّر وشدّ أزر بعض الدّول الحديثة الاستقلال، ومساندة الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا الغربيّة ومقارعة أمريكا بحروب الوكالة التي كانت تخوضها دول أخرى أو حركات مسلّحة نيابة عن العملاقين، كحرب الفيتنام التي انهزمت فيها أمريكا ثمّ حرب أفغانستان التي انهزم فيها الاتّحاد السّوفياتيّ. كلّ هذا كان يثقل كاهل الاقتصاد السّوفياتيّ المتخلّف، ومن المعلوم أنّ النّفقات التي يقتضيها خوض سباق التّسلّح وحرب النّجوم كانت باهظة إلى حدّ بعيد. ما يهمّنا في هذا التّحليل هو العالم العربي وكيف تأثّر وأثّر في الحرب الباردة.

كانت أغلب الدّول العربيّة تحت وطأة الاستعمار، وكانت على أراضي بعض الدّول المستقلّة منها قواعد أجنبيّة، ومندوبون سامون ينتقصون من سيادة الدّولة وكرامة الشّعوب. لقد ذاقت بعض البلدان العربيّة بعض ويلات الحرب العالميّة الثّانية، وكانت أرضها مسرحًا لعمليات قتاليّة، وتلظّت شعوبها بنيرانها، كشعوب مستعمرة تساق إلى القتال بسبب العبوديّة أو تدخل في جحافل الجيوش بسبب الفاقة والعوز. وهو ما أدّى ببعض المتعصّبين في المشرق العربي إلى تأييد هتلر والنّازيّة كردّ فعل على الاستعمار، بحيث أنّهم رأوا في انتصار هتلر خلاصا من ربقته. وهذا الموقف يدخل في ردود الفعل العاطفيّة اللاّواعية التي تنتهجها النّخب العربيّة إلى اليوم.
كانت أمريكا بعد الحرب الثّانية قد ابتدعت سياسة "الباب المفتوح"، لسد الثّغرات التي خلّفها انتهاء سياسة الاستعمار الفرنسي والبريطاني في منطقة الشّرق الأوسط، وكان ذلك ضمن استراتيجيّتها الرّامية إلى قيادة العالم الجديدة في ما بعد الحرب، وإلى إغلاق كافة الأبواب التي يمكن أن ينفذ منها العدوّ الشّيوعي. ولا نستطيع قراءة الإنذار الأمريكي لكلّ من فرنسا وبريطانيا في حرب السويس 1956 بمعزل عن هذه الاستراتيجيّة الجديدة.
وكانت وكالة الاستخبارات الأمريكيّة والإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، تضع على أجندتها أولويّة مواصلة الحرب على العدوّ الشّيوعيّ، حتّى إنّ هاجس الشيوعيّة كاد يقوّض في بعض الفترات منجزات الغرب الحضاريّة في مجال الحريّة وحقوق الإنسان، وهي منجزات كان يخوض هذه الحرب من أجل إنقاذها كما حصل في الفترة المكارثية في الولايات المتّحدة الأمريكية.

لقد صيغت الاستراتيجيّة الأمريكيّة نهائيًّا في الوثيقة رقم 68 الصّادرة في أبريل 1950 عن "مجلس الامن القومي". وهذه الوثيقة تعلن أنّ الحرب الباردة هي حرب تضع على المحكّ بقاء العالم الحرّ، وأنّ الحرب مع "دولة الأقنان"، أي الاتّحاد السّوفياتي" يجب أن لا تتوقّف، لأنّها تستهدف العالم الحرّ وقيمه، وأنّ غاية أمريكا ليست ردع الاتّحاد السّوفياتيّ، وإنّما إلحاق الهزيمة به. وحتّى المعاهدات التي قد تكون أمريكا مضطرّة لتوقيعها معه ما كانت إلاّ لإرضاء الرّأي العام وخداع الصّحافة. فالهدف لا يمكن أن يتحقّق بدون سحق قوّة الشّر المتمثّلة في الدب الرّوسي. وهذا ما يفسّر إفشال مسعى الاتّحاد السّوفياتي لتوحيد الألمانيّتين، عندما اقترح سنة 1952 توحيدهما على أساس أن تكوّنا دولة محايدة، فهذا التّوحيد لم يكن يخدم هدف الأمريكيّين المتمثّل في إلحاق الهزيمة بالمعسكر الآخر بأيّ ثمن. ولهذا كلّه، كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة والغرب عمومًا، قد استخدما كافة الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الهدف، فالحرب ضدّ الاتّحاد السّوفياتي يجب أن تكون على كافة الأصعدة : الغاية تبرّر كلّ وسيلة.


2-الغاية تبرّر الوسيلة
هذه المقولة الميكيافليّة التي وضعت قانون الواقعيّة اللاّأخلاقيّة للسّياسة، هي أكثر المقولات يتمًا في التّاريخ، لأن الجميع يتنكّر لها ويتبرّأ منها، ولكنّ الجميع يستخدمها من أجل تحقيق أهدافه. وربّما استطعنا القول بأنّ هذه المقولة ستبقى حاضرة في سلوك الأفراد والمجتمعات والدّول، ما دام هناك إنسان يسعى لإخضاع الآخر والهيمنة على مقدراته. وهي تتقنّع في الغالب بالمبرّرات الإيديولوجيّة، حتّى تخفّف من طبيعتها اللاّأخلاقيّة، وتجد لها مرتعًا خصبًا في كلّ الخلافات والمعارك، حيث يغيب العقل النّقديّ ويحتكم إلى المماحكات الغوغائيّة في صراع الرّموز والأساطير واليوتوبيات.
ونعود إلى موضوع استعمال هذه المقولة من قبل الولايات المتّحدة الأمريكية في الحرب الباردة. وحتّى لا ندخل في متاهات هذه الحرب نودّ فقط التّذكير ببعض الحقائق التّاريخيّة التي تثبت ما نقول : إنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة استعملت كلّ الوسائط الممكنة، الشّرعية وغير الشّرعية، الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة، العسكريّة وغير العسكريّة، السّياسيّة وغير السّياسيّة في سبيل تحقيق هذا الهدف:
حروب خاضتها بالأصالة فيتنام وكوريا مثلاً.
حروب خاضتها بالوكالة " أفغانستان" مثلاً.
تأييدها لكلّ الطّغاة الذين يقفون في صفّها.
استعانتها حتّى بالعصابات الإجراميّة من أجل مصالحها، فقد استخدمت مثلا أسطول الصيد للمافيا للتّجسّس على الأسطول السّوفياتيّ في المتوسّط.
كلّ هذه الاستعمالات للوسائط من قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة غير خاف على أحد، وإنّما ما يهمّنا في هذه المقالة هو التّركيز على الحرب بالوكالة، لعلاقة هذا الموضوع بالوطن العربي والدّول الإسلاميّة. نحن هنا لسنا بصدد التّأريخ للحرب الأفغانيّة، وإنّما أردنا فقط إلقاء الضوء على ما حصل في هذا البلد الذي حوّلته الولايات المتّحدة وحلفاؤها إلى شعب من المرتزقة في خدمة الحرب الباردة.

دخلت جيوش الاتّحاد السّوفياتي إلى أفغانستان بطلب من الحكومة الأفغانيّة. وكان هذا الحدث بمثابة فخ وقع فيه الدب الرّوسي بدون حذر. وبمجرّد دخول طلائع هذه الجيوش، استنفرت أمريكا، ولكنّ النفير اتجه هذه المرة إلى ترسانة الأساطير، فتمّ إخراج فريضة الجهاد الغائبة من خرائب العصور الوسطى، لتزويدها بالبنادق الحديثة، وإعادتها إلى كهوف أفغانستان قصد قتال عدوّ الدّين الإسلامي الذي هاجم بلدًا إسلاميًّا عريقًا. وسخّرت الولايات المتّحدة كافّة عملائها في المنطقة الإسلاميّة لتجنيد المتطوّعين. فما كان من الدّول الخاضعة لسيطرتها إلاّ أن حشدت جيوش الارتزاق الآخرويّ ودعّمتها بالمال والاستخبارات، وسخّرت الآلاف من الشباب المسلمين والعرب، ودفعت بهم إلى أتون القتال.
سقط في هذا الشّرك الأمريكي شباب مغفّل منحدر من كلّ البلاد العربيّة والإسلاميّة، ممّن خيّل لهم أنّ الحوريّات والخير الأبديّ العميم لا يمكن الدّخول إليه إلاّ من بوّابة أفغانستان، عبر قتال الرّوس إعلاء لراية الدّين ونصرة للمسلمين. وخرج من بين هؤلاء الشّباب من أعطى نفسه لقب "الشّيخ"، وأصبح مفتيا للموت وقتل الأبرياء كابن لادن والظّواهري وغيرهما.

وفي النّهاية تمّ النّصر لأمريكا وعملائها، وخرجت جيوش الاتّحاد السّوفياتي الغازية من أفغانستان، وتركت أفغانستان لهذه الميليشيات التي احترفت القتل باسم الدّين، وإذ لم تجد عدوّا تقاتله، غدت يقاتل بعضها بعضا. أمّا أمريكا فغسلت يديها بعد أن حقّقت غايتها وولت ظهرها لذلك البلد، تاركة شعبًا بكامله تعبث به الأقدار. وفي آخر المطاف تغلّب فريق من هذه المليشيات على الآخرين وأنشأ دولة في شكل عصابة هي دولة طالبان السيئة الذكر. ولأنّ تلك العقول المريضة التي استغفلها الأمريكان وجعلوها تحارب عدوًّا ليس عدوّها، أصبحت لا تعرف ماذا تصنع بسلاحها ولا بالأفكار القروسطية التي لقنّنت إيّاها، ولا بتلك الدّولة المضحكة التي أرادوا لها أن تكون نواة لدولة الخلافة في العالم. فكان أن رجع بعض المحاربين إلى أوطانهم ليواصل القتال كما حصل في الجزائر، حيث كانت نتيجة إعلاء كلمة الإسلام حوالي 150000 قتيل من الشعب المسكين. وقاتل آخرون في اليمن وليبيا ومصر والسعودية إخوتهم من المواطنين. وانتهى الأمر بأن انقلب السّحر على السّاحر، وأصبحت الكثير من الدّول العربيّة تعاني من معضلة "الأفغان العرب".

وفي إطار منهجيّة "الغاية تبرّر الوسيلة"، قامت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بمعاداة الشّعوب التي تتطلع إلى غدٍ أفضل، وذلك بمناصرة كلّ الطّغاة والفاسدين من الحكام، ما داموا منتمين إلى معسكرها. وكانت الولايات المتحدة الأمريكيّة تستخدم سياسة الكيل بمكيالين في هذا، فإذا كان الطاغية ينتمي للمعسكر الآخر وصفته بكلّ الصّفات المشينة، وحاولت بكلّ الوسائل إقصاءه أو الانقضاض على نظامه، بدعوى الحريّة ومكافحة الأشرار ومناصرة حقوق الإنسان. أمّا إذا كان الطغاة ينتمون إلى معسكرها، فإنّها كانت تؤيّدهم ضدّ شعوبهم وتسهّل لهم سرقتها وغبنها وتمدّ لهم يد العون، من أجل إخضاعهم وإحكام السّيطرة على مقدراتهم، وفي أحسن الأحوال تغضّ الطرف عمّا يرتكبون من جرائم وعسف في حقّ مواطنيهم.

والأمثلة على ذلك كثيرة خلال فترة الحرب الباردة وبعدها حتى 11 سبتمبر 2001. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر : سوهارتو في اندونيسيا، وشاه إيران في بلاد فارس، وبينوشيه في المكسيك وغيرهم. هذا السّلوك الأمريكي الذي دام طويلا جعل كافة الشّعوب التي تتوق إلى التّحرّر تعتبر أمريكا عدوّها الاولى بامتياز، وأصبحت كلمة الولايات المتّحدة تعني عند الكثيرين إمبراطوريّة الشر التي يجب إلحاق الأذى بها وبمصالحها، أو كما قال الخميني باستعارة الرّمز الدّيني : " الشيطان الأكبر".

وهنا تكمن المفارقة العجيبة في العالم الإسلامي على العموم والوطن العربي على الخصوص فبالرّغم من أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وقفت مع العدوّ التّاريخي للعرب إسرائيل، وآزرته في كلّ مواقفه وحروبه، وبرغم كونها ما فتئت تنكأ جرح العرب بتأييد كلّ الطّغاة الذين ينتمون إلى صفّها، وبكلّ تدخّلاتها من أجل حماية مصالحها على حساب مصالح شعوب المنطقة. بالرّغم من هذا كلّه نجد الآلاف من العرب قد انخدعوا بها وهي ترفع راية الإسلام للذّود عن أفغانستان ضدّ العدوّ الشّيوعي، الذي كان يناصر قضاياهم ويمدّهم بالعون في معاركهم الحربية والسياسيّة. ويستجيبون لتفسيرها وكأن قضيّة أفغانستان هي قضيّة حياة أو موت لكلّ عربي... هذا موضوع يستحقّ الدّرس والتّمحيص، ولكنّنا لن نتناوله في هذه المقالة الصّغيرة، لأنّه يحتاج إلى بحث مستقل يجاب فيه على كلّ الأسئلة المشروعة : لماذا وكيف وإلى أيّ حدّ..؟


3- انتهاء الحرب الباردة وبروز عالم أحادي القطب
انتهت الحرب الباردة بين القطبين بسقوط حائط برلين وتفكّك الاتّحاد السّوفياتيّ إلى جمهوريات مستقلّة وتغيّرت الأنظمة في بلدان حلف وارسو وانتهت مركزيّة الأحزاب الشّيوعيّة فيها... وعندها استيقظت الدّنيا على عالم أحادي القطب بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة. ونستطيع أن نقول إنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفاءها قد حقّقوا نصرًا مظفرًا بعد حرب دامت أكثر من نصف قرن، استعملت فيها كافة الأسلحة عدا السّلاح النّووي الذي ما كان يجرؤ على استعماله أيّ من الطرفين لأنّه يعني فناءه هو كذلك، ولكنّه بقي ضمانًا للسّلام بين القوّتين الأعظم، وهو سلام مبني على توازن الرّعب أي رعب نهاية الجنس البشري من هذا الكون.

ولكن رغم أنّ الكيان الأساسي للكتلة الشّرقيّة قد انتهى، فإنّ بقيّة دول العالم الصغرى التي كانت تحتمي بالمعسكر الشّرقيّ من جبروت دول المعسكر الآخر، والتي كان يضمن سلامه أنظمتها كما كان يضمن سلوكها في عدم الخروج من دائرة الخطوط الحمراء، لم يزل بعضها قائمًا وربّما كان قادرًا كذلك على البقاء ولفترات طويلة. ومن هنا كان على الولايات المتّحدة أن تفكّر بطريقة ما في تصفية هذه البؤر التي تمّ إدراجها في قائمة المعسكر المنهزم ووصفها بدول "محور الشر".
وقد ظلّت الولايات المتّحدة الأمريكيّة تعتمد استراتيجيّة الحرب الباردة حتّى بعد انتهائها، ولم تعتمد سياسة مختلفة، إنّما أضافت إلى تلك الاستراتيجية سلاحًا جديدا هو سلاح العقوبات الاقتصاديّة والحصار، أو ما يطلق عليه "سياسة الاحتواء". وهذه السّياسة أثبتت فشلها فيما بعد، أبلغ مثال على ذلك ما طبق من حصار اقتصاديّ على دولة يوغسلافيا .. وهذا ما اضطرّ الولايات المتّحدة وحلفاءها إلى استعمال السّلاح في نهاية الأمر. ورغم ذلك بقيت استراتيجية الحرب الباردة على حالها وإن كان الغرب أصبح طليق اليد في استعمال سلاحه الاقتصادي الجديد. فطبّقت سياسة الحصار على ليبيا والعراق وكوبا وإيران وكوريا الشّماليّة بشكل متفاوت، وبأساليب متعدّدة، فإمّا أن يتمّ ذلك بشكل مباشر وبقوانين داخليّة، وإمّا أن يكتسب الحصار صبغة دوليّة باستصدار قرارات من مجلس الأمن الدّولي.

أمّا الدول التي كانت تصنّف بأنّها دول حليفة أو صديقة، فما كان لها أن تنزعج ممّا حدث، بل على العكس كانت لها مطامع في أن تلتقط، ولا أقول "تقطف" بعضًا من ثمار الانتصار المدوّي على المعسكر الآخر. فبدا العالم حينئذٍ يعجّ بدول كثيرة لا تنتمي إلى العالم الغربي في شيء، غير أنّها كانت خادمة في حدائقه الخلفيّة إبّان الحرب الباردة. وكان الغرب يحمي أنظمتها من شعوبها ويكيل لها المدائح في سداد الرّأي والرّشد السّياسي. وهناك دول أخرى سقط أكثرها بفعل افتقادها للحماية التي كان يوفرها المعسكر المنهزم، بما في ذلك الحماية الاقتصاديّة. وهناك دول أخرى قليلة بقيت تمثّل يتامي هذا العصر الجديد، فهي لا تعرف أيّ سبيل تسلك بعد هذا الزلزال.
وكان لا بدّ من إيجاد الذّرائع لهذه الحرب الدافئة، ولا بدّ من أن تتعلّل أمريكا والغرب بعدم احترام حقوق الإنسان وانتهاك الأعراف الدّوليّة أو ارتكاب جرائم الإرهاب بإسقاط الطائرات المدنيّة فترة الحرب الباردة. ولكن هذه الحجج تبدو حججًا غير مقنعة للغرب نفسه... لماذا؟

أوّلا : إنّ ارتكاب بعض الدّول أو اتّهامها بارتكاب جرائم إرهاب إبّان الحرب الباردة غير مقنع، لأنّ كثيرا من الدّول في كلا