مكتبة إيلاف (11):

د. رشيد الخيُّون
الصورة الشوهاء
الإيذاء المتبادل ما بين الدين والسياسة

مقدمة

ليس هناك أشد خطراً وإيذاءً مثل إيذاء الدين للسياسة وإيذاء السياسة للدين. فمساخ البشر وقطع الرقاب، والتدمير العام الذي يظهر باسم الدين ما هو إلا تجسيد للتحزب باسم النيل. حاولت هذه المقالات، التي نشرت تباعاً في إيلاف، التنبيه لظاهرة التحزب السياسي تحت مظلة الدين، فليس هناك حزب يتمكن من ضمان الحرية الشخصية والعقائدية والسياسية من تحت تلك المظلة. والسبب أن الدين حسب معتنقيه ما هو إلا نواه وأوامر إلهية، ليس للبشر الحق في محاورتها أو نقدها. وفي حالة انتصار الحزب الديني بثورة أو تحشيد البسطاء باسم الدين لا يمكنه تجاوز تلك الحدود. فالقتل والذبح اليومي الذي يحصل بالعراق يمارس أمام يافطة كبيرة خطت عليها الشهادتان، واسم النبي محمد، ثم يتقدم الجزار بجز رقبة الضحية، مع أطلاق التكبيرات عالياً. وكلما أصر هؤلاء على التحزب بالدين سياسياً تقوى حالة الإصرار على البحث في أحوال النص الديني، لأن من حق الإنسان أن يحاور ويجادل الشريعة التي ستحكمه، أو يراد فرضها عليه. فإذا أراد هؤلاء احترام الدين وتحقيق الديمقراطية لابد من التحزب المدني، بعيداً عن الدين، الذي يراد له أن يبقى ضميراً أخلاقياً، لا يدخل في التفاصيل الحياتية.
عالجت هذه المقالة النزف اليومي باسم الدين بالعراق، تحت ذريعة الحرب ضد الكفار وتحرير العراق، مع أن المقتولين هم البسطاء والأطفال والأبرياء. كذلك عالجت المقالات أحوال الأديان الأخرى في ظل التعنت الديني، فالعراق بلد الأديان والمذاهب، وما إطلاق الفتاوى ضد الصابئة المندائيين وخطف أولادهم وتهديدهم اليومي ثم تفجيرات الكنائس، بعد الاعتداء السابق في الأربعينات على اليهود العراقيين بتعصب قومي مقيت قاده الفلسطيني مفتي القدس أمين الحسيني ببغداد، إلا حركة منظمة لتخريب النسيج العراقي، وتدمير الوحدة العراقية المؤتلفة منذ قرون. لقد برزت في زحمة التعصب الديني والمذهبي من جديد قضية المرأة، وظهر ما بدأ في العشرينيات ثم خمد من جدل حامٍ بين الحجابيين والسفوريين، وهذه المرة لم يظهر الجدل على صفحات الصحف والمجلات بل بالضغط المباشر على النساء السوافر، عن طريق المتنفذين من الأحزاب الدينية ممن حصلوا على مراكز في السلطة العراقية الجديدة، تلك الأحزاب التي تدعي المصالحة مع الديمقراطية قولة وتنكرها ممارسة، فحاولت اغتنام أول فرصة لفرض الشريعة على المجتمع وأول المتضررين منها هنَّ النساء.

الوَضُوْء بالدم

يجول شبحٌ الإرهاب في نواحي العراق كافة، يفوق خَطبه التصور والذاكرة، وقد لا نجد في التاريخ، رغم بشاعة العذاب الذي لبسَ أيامه ولياليه، مثيلاً لما يحصل من قتل جماعي وجنون دموي منفلت العقال. نعم نحر خالد بن عبد الله القسري الجعد بن درهم، بسبب قولة كلامية، يوم عيد الأضحى، بعد أن قال لمن حوله من المصلين صلاة العيد: "أنصرفوا تقبل الله منّا ومنكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم"(مختصر تاريخ ابن عساكر). ويضيف النديم بقوله: "جعله بدلاً من الأضحية"(الفهرست). لكن خالداً كان أميراً نفذَ إرادة الخلافة، التي قتلته فيما بعد شر قتلة، وكان الجعد متكلماً، يدرك هول القول بخلق القرآن، وهول تهمة تكذيب تكليم الله لموسى بن عمران. ذبح القسري ابن درهم ذبح الشاة، وما يحيط عملية الذبح من بسملة وتكبير وصلوات.
أعاد مشهد ذبح الرهائن الأمريكية والكورية دماء الجعد بن درهم إلى المخيلة، وهي تلوث أنطاع (النطع جلد يوضع تحت رأس المذبوح حت لا تلوث دماؤه المكان) إرهابيي اليوم، ذبحوا ضحاياهم بدم بارد، لا توقفهم حرمة للأسير ولا مسالمة ولا عزلة سلاح. ذبح الرهائن أيضاً ببسملة وتكبير وصلوات وإحتفالية يتناثر فيها الدم، تكفي وَضُوْءاً للصلاة في محراب القسوة والعنف والتدمير. ومن البشاعة بمكان أن تقطع الرقاب بسكاكين عمياء، لا تميت حتى تريح المذبوح، وهو فن من فنون عذاب المذبوحين. أذكركم بعذاب الذبح والجرح مع تأخير الموت بما قاله عمرو بن سعد بن أبي وقاص، قائد جيش الأمويين بكربلاء، لذابح الإمام الحسين سنان بن أنس: "أنزل ويحك إلى الحسين فأرحه، فقال سنان لخولي بن يزيد احتز رأسه، فبدر خولي ليحتز رأسه فضعف وأرعد، فقال له سنان، وقيل شمر، فتَ الله في عضدك مالك ترعد، ونزل سنان، وقيل شمر، إليه فذبحه ثم احتز رأسه الشريف ... وأقبل القوم على سلبه... وأخذ خاتمه بجدل بن سليم الكلبي، وقطع إصبعه مع الخاتم". والذين سلبوا الحسين لم يحتاجوا لثياب ومتاع بقدر ما كان تلبية للسنَّة، فقد ورد عن أبي قتادة، السابق لا الحاضر، ما نصه "مَنْ قتل قتيلاً له عليه بيَّنة فله سلبه"(صحيح البخاري، فرض الخمس).
وأذكركم بعذاب الذبح الذي تعرض له خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان بأيدي عرب مسلمين، صحابة وأبناء صحابة وأتباع، بعد حرمان من الماء، رغم أن البهائم لا تذبح إلا بعد ريها واشباعها. أنقل لكم ما فعله السلف، المعبود اليوم، بعثمان بن عفان: "كان أول مَنْ دخل الدار عليه محمد بن أبي بكر (الصديّق) فأخذ بلحيته، فقال: دعها يا بن أخي، والله لقد كان أبوك يُكرمها، فستحيا وخرج، ثم دخل عليه رُمان بن سرحان، رجل أزرق قصير محدود، عداده في مراد، وهو من ذي اصبح، معه خنجر فاستقبله به، وقال: على أي دين أنت يا نعثل (لقب لقبته به أم المؤمنين عائشة)، فقال عثمان: لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، قال: كذبت، وصر به على صدغه الأيسر، فقتله فخرّ، وادخلته امرأته نائلة بينهما وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة، ودخل رجل من أهل مصر معه السيَّف مُصلتاً، فقال: والله لأقطعنَّ أنفه، فعالج المرأة، فكشفت عن ذراعيها، وقبضت على السيَّف، فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان، يقال له رباح ومعه سيَّف عثمان: أعنَّي على هذا وأخرجه عني، فضربه الغلام بالسيّف فقتله، وبقي عثمان، رضي الله عنه، مطروحاً إلى الليل، فحمله رجال على بابٍ ليدفنوه، فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبراً قد كان حُفر لغيره، فدفنوه فيه"(ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب). أترون أن المدينة كانت فارغةً من الصحابة، فسكتوا حتى حزَّ رأس عثمان بن عفان، أم كانت على دين غير دين الإسلام أو قوم غير الأنصار والمهاجرين، وقد أفرغها عمر بن الخطاب من اليهود والنصارى؟
الذبح هو الذبح أباحه السلف وتمثله الخلف، وبهذه الروحية ذبح الشباب الشيعة والكرد بالفلوجة، وذبحت عميدة كلية الحقوق وزوجها، وذبح الرهينة الكوري وهو خير من ذابحيه ألف مرة، لأنه وصحبه أتوا لمداواة جرح العراقيين بينما أتوا هؤلاء الملثمون لقتلهم، وحملهم على هجرة بلادهم لتكون إمارة بعد فَقدِ فردوسهم بافغانستان، ليعيدوا لهم مجد المقابر الجماعية والمقاصل اليدوية. هذا الكوري أشرف وأنبل من هؤلاء مثلما الحسين بن علي أشرف من ابن الصحابي سعد بن أبي وقاص، ومثلما الشيخ محمود طه أشرف من حسن الترابي وأنبل وكان المحرض على قتله، ومثلما المقتول فرج فودة أشرف من المحرضين على قتله أمثال محمد عمارة ومحمد الغزالي. الكوري البوذي جاء يطبب جراحنا والزرقاوي المسلم جاء يجهز على بقية حشاشة فينا. الكوري جاء بترياق ينقينا من سموم البعثيين المتراكمة في أبداننا وتربتنا ومياهنا، وأمثال أبي حفص وأبي الحكم وكل كنايات الصحابة جاءت تنشط السم فينا، وتبحث عن حفيد نبوة آخر تذبحه بكربلائنا.
مَنْ منكم لم يرَ بهيمة يُأتى بها للذبح، هل تخيلتم عذابها الصامت وهي تُقدم إلى المنحر بوثاقها، هل فاجئتكم عيناها المرعوبتان، ورغاها الأجش. تخيلوا عذاب المذبوحين من عراقيين وأجانب. أجانب عشنا بأرضهم نصلي صلاتنا ونصوم صيامنا، ويدفعون لنا مصروفات مساجدنا وحجنا، ورجال دين منا يكذبون ويزيفون قوائم المصروفات، ويبيحون سرقة المحلات التجارية، ويرون مدن أوروبا ديار حرب لا هجرة.
أديان وأعراف أرعبتها هذه المشاهد فتركت إيذاء الأنعام، كيف تذبح ما يدر لبناً ويفرُّ ناعوراً ويحرث أرضاً. أما أعرافنا فلها رأي بذبح الإنسان ناهيك عن الحيوان وإيذائه، أي يذبح مَنْ أرتد عن الدين وخالف جماعةً، وشتم سلطاناً، واعتقد اعتقاداً تاماً! نحن في مقدمة عوالم القسوة إن كانت تميزها عوال ودرجات، نمارس الدين بالعنف والعاطفة والحب بالعنف، والسياسة بالعنف، ونتبادل العتاب بالعنف، ومع ذلك نعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس، ونعتقد أن أخلاقنا مثالية، وعاداتنا أرقى ما وصلته البشرية!
يُذكر ذبح الرهائن الآمنين وجعل رؤوسهم المقطوعة فوق ظهورهم بدكاكين الجزارين في الدولة القرمطية بالبحرين، شاهد الرحالة ناصر خسرو (القرن الخامس الهجري) ذبائح الأنعام فوق كل منها رأسها، حتى يعرف المشتري ماذا يشتري، لحم أباعر أم أبقار أم أغنام، وهكذا وضع رأس الأمريكي بالرياض فوق ظهره لتعرف جثته.
لفصل الروؤس عن أجسادها تاريخ (مجيد) في حضارتنا، بل وبدار الخلافة كانت هناك دائرة أو خزانة تعرف بخزانة الرؤوس. الرؤوس التي يؤتى بها شواهد على الانتصارات. فإن حولت أوروبا مقاصل تاريخها إلى متاحف تثير في الحاضرين كراهية العودة إلى الوراء فنحن نعود مهرولين إلى خزانة رؤوس دار خلافتنا، ونحاول بعث فُرق حاملي الرؤوس العثمانية من سنجار الأيزيديين إلى استانبول، واحدة منها حملت ثلاثمائة رأس أيزيدي.
جماعات الإرهاب، التي ترى الدين الصحيح هو دينها والذبح لمَنْ عداها، أعادت إلينا ممارسة ذبح الأسرى ورمي الرأس في أحضان أهله، وإن سنَّ ممارستها الصحابي وكاتب الوحي والخليفة الخامس معاوية بن أبي سفيان فإن السائرين على خطاها يحرصون تصوير مشهد الذبح وبثه عبر قنوات تلفزيونية متبرعة لخدمتهم، وعبر شبكات الأنترنيت، ولو أمتلك معاوية هذه الحداثة لما رمى الرؤوس في أحضان الزوجات، أو الآباء أو الأمهات بل بثها أفلاماً من قنوات الشر والإرهاب.
أذكركم بشيء من أخبار هذه الممارسة: قتل معاوية عمرو بن الحمق الخزاعي، فرفع رأسه على الرمح من الموصل حتى دمشق، وكانت زوجته محبوسة رهينة، فرموا رأس زوجها في حِجرها(تاريخ اليعقوبي)، وقيل كان معاوية "أول مَنْ حبس النساء بجرائر الرجال". وذُبح الإمام الحسين بن علي، والسبعون من آله وصحبه، وسيرت رؤوسهم مرفوعة على أسنة الرماح، أمام عيون النساء والأطفال، ولا زال مكان دفن الرؤوس محل اختلاف بين الأتباع، فقد دفنت الأجساد بكربلاء وسيرت الرؤوس إلى الشام، وما مناسبة عودتها أو مردها إلا حيلة أحتالها المحبون، لستر عورة التاريخ وكأن لسان الحال يقول: ماذا تقول فينا الأمم وقد دفنا ابن بنت نبينا بلا رأس؟ فالذين نحروا رأس الحسين كانوا أبناء صحابة، والمشهد أُخرج أمام أنظار صحابة أيضاً.
ومما جمعه عبود الشالجي في "موسوعة العذاب" أن رمى هشام بن عبد الملك رأس الإمام زيد بن علي في حِجر والدته، وكم هي المحنة عظيمة أن تتلقف أمٌ رأس ولدها يتدرج فاغر الفم مدمى؟ ورميَّ رأس مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، في حِجر ابنته، ورمى أبو جعفر المنصور رأس إبراهيم أخي محمد النفس الزكية في حجر والده عبد الله بن الحسن وهو مسجون في مطبقه، ورمي رأس المعتز بالله في حِجر جاريته، ورمي رأس ابن الفرات في حِجر والده الوزير قبيل ضرب عنق الأخير، وذبح القائد علي بن بيلق ورمي رأسه في حِجر والده، وبعد ذبح الأب أُخذ الرأسان إلى مطلوب آخر، فبعد فزعه بهما ذبح ذبح الشاة أما عيني القاهر بالله خليفة المسلمين وأمير المؤمنين. والأنكى من هذا أن يذبح الابن ويطعم من لحمه الأب، أو يُقطع لحم المطلوب وهو حي ويدس في فمه، وهكذا دار دولاب العذاب وعظم الخطب إلى زمان يحاول فيه ابن لادن اقناعنا بأمارة عادلة يمنع فيها صوت المرأة وشفرة الحلاقة ولبس ربطة العنق ويحرم على الأطفال اللهو بطائرة الورق.
فهل نرجو ممَنْ تسمى بأسماء الصحابة وتكنى بكناهم، من أبي حفص إلى أبي الحكم، غير عودة تلك المشاهد المخزية؟ يمارسونها وهم طرائد فكيف لو صفت لهم الدنيا وأصبحوا ولاة أمر؟
التحالف بين البعثيين وجماعة الإرهاب الديني، مبني على الإخلاص لعروبة الغزو والقهر لا الفكر والمكارم، وعلى إسلامية القتل لا تسامح أبي حنيفة ولا إنصاف علي بن أبي طالب ولا فلسفة ابن سينا، فليس هناك حلف أقدس من حلف أصحاب ثرامات لحوم البشر والقبور الجماعية مع ناسخي آيات المحبة والوئام الاجتماعي بآية "السيف" (التوبة 5). لقد اندفع الاثنان إلى الذبح والعذاب والتدمير بشدة. وما يزيد تحالف أقطاب العنف والقتل قداسةً أن الطرفين من حواري أمريكا السابقين، أوصلت الطرف الأول إلى الحكم لفترتين وأوصلت الطرف الآخر إلى نضجه الإرهابي عبر ممر خيبر على حدود أفغانستان.
وإغالاً بالمشهد الدموي كتب البعثيون آي القرآن بوشلة من دم أمينهم صدام حسين، الملوث بأدران التاريخ، رغم أنهم يدركون تماماً أن الدم ثاني الثلاثة المحرمات حكماً ولفظاً في الإسلام. لكن مَنْ يحرق القرآن ليتهم به خصمه هل تراه يتردد من جعل الدم حبراً له؟ جاء في القرآن: "إنما حرَّمَ عليكم الميتة والدَمَ ولحم الخنزير"، و"قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير".
كانت جرأة البعثيين على كتابة القرآن بالدم، المحرم أكله وشربه ولمسه اليابس منه والمائع، رسالة إلى العراقيين تقول: إن الُمتَوضَّأَ هو نحوركم والوَضُوْء هو دماؤكم، فما أنتم فاعلون؟ وتقول: أنتم ماشيتنا وطريدتنا في سريتنا وعلانتينا، سواء كان ذلك في حلفنا (المقدس) مع أمريكا أو في حلفنا (المقدس) مع الذئاب الهائجة.
دخلت عبارة "حلال الدم" قوية في تراثنا الفقهي، فكم من فتوى قتل نطق بها المفتين، وواجههم فيها الضحية مواجهة الحلاج "لما أتي بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير ضحك كثيراً حتى دمعت عيناه"، إنها المأساة عظمت فتحولت إلى ملهاة، ولا يفوتنا القول "شر البلية ما يضحك". وعبارت مثل: "حلال الدم" و"معصوم الدم" أو"حرام الدم" إشارت إلى أحكام الموت والحياة. لو تعلمون مغزى تحريم الأديان لأكل وشرب الدم لعلمتم كم هي الشعوب التي حرمت عقوبة الإعدام قريبة من العدالة الإلهية ومؤمنة بالله، وحافظة لعهده.
لأن الدم هو الروح، وذبح الحيوان قرباناً هو إهداء دمه لوجه الله، هكذا اتفقت الأديان، والروح كما تعلمون "من أمر ربي" سر من أسراره تعالى. وإلا ما سر البسملة والتكبير وتوجيه رأس الحيوان إلى القبلة، إذا لم يكن الدم من حق الله فقط؟ إن مرجعية تحريم تناول الدم في الأديان لأنه "ماء الحياة" وسر إلهي في الأبدان، ورد في التوراة: "دم ذبائحك يراق على مذبح الرب إلهك واللحم تأكله"، و"أحذر أن تأكل الدم فإن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم". فهل رأيتم قرباناً نباتاً أو جماداً، والسبب لأنه خال من الدم، الذي أجتهد الإنسان أن يكون من حق الله. فما بين الأنساب علاقة دماء لا لحوم وعظام، وإراقة دم أمام عتبة الدار الجديدة ترضي الرب كما يزعمون، فكم هي صعبة معادلة الدماء حتى يستسهل سفكها الملثمون.
كانت حكمة تنقية الذبيحة من الدم، يعني خلوها من بقية الروح التي هي لله لا لغيره، أما الإنسان فله اللحم والعظم وما بينهما من شحم وغضاريف. وقداسة الدم لا دنسه هي سر تحريمه، هذا في الحيوان فكيف بدم الإنسان؟ هل سيقبله الله قرباناً من أيادي ملثمين متأبطين شراً؟ هل عين الله دين خليفته على الأرض حتى يذبح ويقدم دم غير المسلم قرباً، وهل عينه سنّياً كي يُجاز ذبح الشيعي، وهل عينه حنبلياً سلفياً كي يذبح بقية أهل المسلمين؟ هل تريدون اقناعنا أن الله خلق الخلق لتذبحوهم أنتم؟ سؤال أقدمه للجزارين: هل أفرغتم أجساد ذبائحكم من الدماء، وهل وجهتم نحورهم إلى القبلة، أما تكبيراتكم وبسملتكم وصلواتكم فقد سمعناها، إنه الذبح الحلال والجنة بانتظاركم.
يا أمة مذبوحة بجهلها، باقية على وحشيتها، والله لو خرج النبي محمد بن عبد الله اليوم وسمح للمستأمن والمعصوم الدم أن يصلي بصلاته في مسجده، مثلما فعل مع نصارى نجران، وصرخ فيكم قائلاً: "لا إكراه في الدين" لسمتوه عذاب قريش وثقيف. والله لو خرج اليوم عمر بن الخطاب ولامكم على إيذاء أهل الكتاب، مثلما فعل مع أحد عماله، لشهرتم بوجهه خنجر أبي لؤلؤة وقتلتموه، والله لو خرج اليوم علي بن أبي طالب وصرخ فيكم قائلاً: البشر "أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" لأعدتم فعلة عبد الرحمن بن ملجم فيه وقتلتموه. لا سنَّة تتبعون غير سنَّة خالد بن الوليد بابن نويرة، وسنَّة معاوية بن أبي سفيان في حجر بن عدي، وسنَّة الحجاج بن يوسف الثقفي في سعيد بن جبير، وسنَّة لا مثيل لها في القسوة، أحياها أحد الفقهاء في مذهبه تقول: "لو وجدَ مضطراً آدمياً غير معصوم كالحربي والمرتد فله قتله والأكل منه عند الشافعية، وبه قال القاضي من الحنابلة، واحتجوا بأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع والله تعالى أعلم"(الشنقيطي، اضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). نعم الله تعالى أعلم، وهو أعلم من الشنقيطي بمروءة الإمام الشافعي وعفة الإمام أحمد بن حنبل وزهده. لقد مات الأفارقة والهنود جوعاً ولم يحتاجوا إلى فتوى تجيز لهم أكل لحوم البشر!
أيحسبون تابعو سنَّة المذكورين كم يؤذون الدين بتقديم ضحيتهم، كما هو الذبيح الكوري بان كي مون والذبيح الأمريكي بول جونسون، وخلفهم عارضة كتبت عليها الشهادتين؟ أم أنهم يؤسسون لدين آخر، حسب مقاسات فقهائهم وأمرائهم؟

منسوخات آية السيف

ما بين فترة الإسلام النبوية بمكة (13 عاماً) وفترته المدنية (عشرة أعوام) هو ما بين الدعوة والدولة. والدعوة بسريتها وعلنيتها المكية حققت قاعدة إسلامية جوهرها ما عرفه الشيخ السوداني محمود محمد طه بآيات "الأسماح"(الرسالة الثانية في الإسلام). والشيخ المذكور أعدمته سلطات جعفر النميري بتهمة الردة في يناير 1985، لمعارضته قوانين (سبتمبر 1984)، القاضية بتطبيق الشريعة الإسلامية، حين قال عنها: "شوهت الشريعة وشوهت الإسلام".
لم تحتج الدعوة الإسلامية، وأي دعوة دينية، إلى العنف وآيات السيف مثلما تحتاج إلى "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم"(الأنفال 62). لكن طارئاً طرأ على مسار الدعوة فأُعلن الجهاد، حالة دفاعية في بداية الأمر، ثم أجتهد فيه مَنْ اجتهد فكانت الفتوحات، التي اختلف حولها المسلمون بين مؤيد ومعترض، حتى أوقفها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (ت101هـ)، وقرارات هذا الخليفة لها قوة قرارات الخلفاء الراشدين، فقد وصفته المصادر الإسلامية بالخليفة الراشدي الخامس.
والسؤال هل أكره المسلمون أحداً بمكة على الإسلام؟ لم يحصل هذا لأنها دعوة تعتمد القبول الطوعي بمبادئها، وليست دولة تكره رعاياها على دينها! وهذا هو الفارق الأساسي بين الفترة المكية والفترة المدنية، كثرت في الأولى آيات الأسماح، وكانت في مقدمتها آيات سورة "الكافرين" الست، ولنتمعن ما فيها من فضاء الاختيار والحرية "قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دينِ".
نزلت هذه الآيات، حسب الواحدي "أسباب النزول"،في جماعة من قريش اقترحوا على النبي محمد أن يقبل لهم وله اتباع الديانتين. لكن هذه الآية المكية الأصل لم تنسخها آية: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" (الأنفال 67) المدنية، لأنها كانت جواب لحالة طارئة لا تستقر وتدوم عليها الإنسانية مثل استقرارها ودوامها على آيات الاختيار وحرية الرأي والدين، فمنطوقها يدور حول الموقف من أسرى بدر، جاء في تفسيرها: للمبالغة في قتل الكفار (الجلالين)، وجاء في أسباب نزولها: "أن رسول الله استشار في أسري بدر، فقال المسلمون بنو عمك أفدهم، قال عمر: لا يا رسول الله أقتلهم، قال: فنزلت هذه الآية" موافقة لرأي عمر. فقتلوا ما عدا العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث قبل منهم الفداء.
أما الآية التي يؤكد ظاهرها نسخ آيات الاختيار، وهي "ومَنْ يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(آل عمران 85)، فأنها وإن أرجأت الموقف من الذي اختار غير الإسلام ديناً إلى الآخرة، فأن آية الله محمد حسين فضل الله يتحفظ على نسخها للآيات التي اعترفت لأهل الأديان الأخرى بالوجود، ومنهم المجوس والصابئة المندائيون. قال: "نتحفظ على هذا الجواب لأن مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك، حتى نفترض نسخ الثانية للأولى، لأن الظاهر إرادة الإسلام بمعناه المصطلح"(من وحي القرآن). ونقول لأن ذلك الاختيار هو الأصل وما عقبه كان فرعاً، وضع لأمر طارئ، والأصل المقبول عند البشر هو "لا إكراه في الدين".
آيات التسامح التي نسختها آية السيف
جعل المفسرون وعلماء الناسخ والمنسوخ آية السيف وهي الآية الخامسة من سورة "التوبة": "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ناسخة أو لاغية لآيت التسامح والمودة الكثيرة في القرآن. ومن جملة الآيات المنسوخة هي، حسب "الناسخ والمنسوخ" لهبة الله البغدادي(ت410هـ): آية "لا إكراه في الدين"(البقرة 256)، "لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه"(البقرة 191)، "يسئلونك عن الشَّهر الحَرام قتال فيه"(البقرة 217)، "وإن تولوا فإنما عليك البلاغ"(آل عمران 20)، "فأعرض عنهم وعظهم"(النساء 63)، "ومَنْ تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً"(النساء 80)، "فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك"(النساء 84)، "فأعرض عنهم"(النساء 81)، "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً"(النساء 90)، "ما على الرسول إلا البلاغ"(المائدة 99)، "قل لستُ عليكم بوكيل"(الأنعام 66)، "فمَنْ أبصر فلنفسه ومَنْ عميَ فعليها وما أنا عليكم بحفيظ"(الأنعام 104)، "وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل"(الأنعام 107)، "قل أنتظروا إنا منتظرون"(الأنعام 158)، "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لستَ منهم في شيءٍ إنما أمرهم إلى الله"(الأنعام 159)، "خُذ العفو وأمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين"(الأعراف 199)، "وإن كذبوك فقل لي عَملي ولكم عملكم"(يونس 41)، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(يونس 99)، "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فإنما يَضل عليها وما أما عليكم بوكيل"(يونس 108)، (وأصبر حتى يحكم الله بيننا"(يونس 109)، "إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل"(هود 12)، "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحِساب"(الرعد 40)، "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا"(الحجر 3)، "فصفح الصفح الجميل"(الحجر 85)، "وأعرض عن المشركين"(الحجر 94)، "وجادلهم بالتي هي أحسن"(النحل 125)، "ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلاً"(الإسراء 54)، "قل مَنْ كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مَداً"(مريم 75)، "فلا تعجل عليهم"(مريم 84)، "وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون"(الحج 68)، "أدفع بالتي هي أحسن"(المؤمنون 96)، "وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومَنْ ضل فقل إنما أنا من المنذرين"(النمل 92)، وقالوا لنا أعملنا ولكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين"(القصص 55)، "ومَنْ كفر فلا يحزنك كفره"(لقمان 23)، "قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمَّا تعملون"(سبأ 25)، "وتولَّ عنهم حتى حينٍ، وابصر فسوف يبصرون"(الصافات 178-179)، "فأعبدوا ما شئتم من دونه"(الزمر 15)، "فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعملون"(الزخرف 89)، "قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله"(الجاثية 14)، "وما أنت عليهم بجبار"(ق 45)، "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"(الذاريات 19)، "فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون"(الطور 45)، "فصب صبراً جميلاً"(المعارج 5)، "وأهجرهم هجراً جميلاً"(المزمل 10)، "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً"(الطارق 17)، "أليس الله بأحكم الحاكمين"(التين 8)، "لكم دينكم ولي دين"(الكافرون 6). لنتمعن الآيات المنسوخة بآية "أقتلوهم.." فيها الرحمة والمجادلة والصبر والتواضع والتفكر والحرية والإنسانية، فماذا يبقى في الدين لو عُطلت هذه الآيات من عملها. ويُجمع الشيخ البغدادي بقوله "كل ما في القرآن مثل أعرض وتولى عنهم، وذرهم وما أشبه ذلك فناسخه آية السيف"(الناسخ والمنسوخ، ص202). ويجمع أيضاً "كل ما في القرآن من خبر الذين أوتوا الكتاب، والأمر بالعفو عنهم فناسخه: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"(المصدر نفسه). فمثل هؤلاء العلماء يبررون للحجاج بن يوسف الثقفي سفكه للدماء لأنهم أخلوا الدين من العفو والرحمة واللين.


الإنتحار إبتغاءً للجنة (1)

نعماء الجنة وإغراءاتها لا يحويها خيال، فمَنْ يعتقدها كل الاعتقاد، إن وجد ضيقاً في دنياه أولم يجد، قد لا يتأخر عن مقايضة نفسه بها. يروي أبو نعيم الأصفهاني عن وكيع حول عمرانها: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران"(صفة الجنة). فيها "حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يُطمثهنَّ إنسٌ ولا جانٌّ"(سورة الرحمن). ويصفها إجمالاً أبو حامد الغزالي بالقول: "فتفكر في أهل الجنة، وفي وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر من الياقوت الأحمر في خيام من لؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري(بساط مميز بالأصباغ والنقوش) الأخضر متكئين على الأرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل، محفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين من الخيرات الحِسان كأنهنَّ الياقوت والمرجان"(مكاشفة القلوب). لكن طريق هذا النعِيم كما قيل محفوف بالمكاره، لا يصل إليه إلا مَنْ زهد في ملذات الدنيا وصفا قلبه، قال الإمام علي بن أبي طالب عن النبي: "إن الجنَّة حُفَّت بالمكاره، وإن النار حُفَّت بالشهوات"(نهج البلاغة). وورد في الحديث "يدخل في الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"(الدار قطني، الألزامات والتتبع). وعبارة أفئدة الطير كناية عن الرقة والرحمة. إلا أن أسهل الطرق وأسرعها لنيل الجنة هو الجهاد بالنفس، حتى من غير هدف ومبدأ. وبين أن تكون الجنَّة "تحت ظلال السيوف" وأن تكون "تحت أقدام الأمهات" مسافة شاسعة هي ما بين القسوة والرحمة، ما بين فؤاد الطير وفؤاد الجزار. فلقولة ظلال السيوف زمنها ومحدوديتها بينما تتسع كل الأزمنة والأكوان لقولة أقدام الإمهات.
وردَ في الآية الكريمة "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقتلون في سبيل الله"(سورة التوبة)، جاء في أسباب النزول "لما بايعت الأنصار رسول الله (ص) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقبل ولا نستقبل، فنزلت هذه الآية"(الواحدي، أسباب النزول).
لعب الترغيب في الجنة دوراً أساسياً في الجهاد والإقدام في الغزوات، إلا الفتوحات فكانت غنائمها من البلاد الغنية أكثر وقعاً في نفوس الفاتحين من الجنة. ففي المعارك مع قريش وقبائل الجزيرة كان المجاهدون يسمعونها من النبي مباشرة، وكل منهم لا يرى ما بينه وبين عالم النعيم الأبدي سوى القتل. إن قراءة أسباب نزول "ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون"(سورة آل عمران) تكفي شاهداً. قال ابن عباس عن النبي: "لما أُصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: مَنْ يبلغ إخواننا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب، فقال الله عزَّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى الآية"(أسباب النزول). وقال النبي معزياً الصحابي جابر بن عبد الله بقتل أبيه: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً (وجهاً لوجه)، فقال: يا عبدي سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم يرجعون"(أسباب النزول).
أخذ الخوارج آية شراء الجنة (التوبة 111) الزمنية، حسب أسباب نزولها، فأعلنوا أنفسهم شراةً لأنهم "شروا أنفسهم من الله بالجهاد"(الحميري، الحور العين). ربما كان أول إنتحاري خارجي أدعى شراء الجنة بقتل علي بن أبي طالب هو عبد الرحمن بن ملجم، وصاحباه البُرك وعمرو بن بكير الموكلان بإغتيال معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لكنهما لم ينجحا مثلما نجح ابن ملجم. إن قتل خليفة المسلمين في محراب الصلاة بحضور أولاده وأتباعه لا يعني غير تنفيذ عملية إنتحارية، فليس هناك أي إحتمال لنجاة القاتل من سيوف المصلين.
أشارت رواية قتل ابن ملجم إلى تعبيره عن السعادة بتقطيع أطرافه وحرقه بالنفط. لما تقرر قتله بعد موت الإمام علي قال ابن أخيه عبد الله بن جعفر: "دعوني حتى أشفي منه، فقطع يديه ورجليه، وأحمى له مسماراً حتى صار جمرة كحله به (سمل عينه)، فقال: سبحان الذي خلق الإنسان! إنك لتكحل عمَّك بملمول مضاض، ثم أن الناس أخذوه وأدرجوه في بواري ثم طلوها بالنفط وأشعلوا فيها النار فاحترق"(المسعودي، مروج الذهب).
صحيح أن قتل الإمام علي ليست أول عملية إغتيال في الإسلام، فقد تعرض النبي محمد إلى عدة محاولات إغتيال مرة بالسيف وأخرى بالحجر والسم، والمسلمون الأوائل مارسوا الإغتيال الفردي ضد خصومهم سوى كان في العهد النبوي أو الخلافة الراشدية. مورس الإغتيال ضد شاعرات أتهمنَّ بهجاء النبي، وضد نساء أتهمنَّ بالتأليب عليه مثل أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر التي إغتالتها سرية بأمرة مولى النبي زيد بن حارثة، قيل "قتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها"(الطبري، تاريخ الأمم والملوك). كذلك إغتيل سعد بن عبادة بعد عقد السقيفة مباشرة، التي أسفرت عن خلافة أبي بكر الصديق، فأشيع أن الجن أغتالته لأنه بال وقوفاً، ومَنْ إغتالهم معاوية بن أبي سفيان ليسوا بالقليل. لكن ما يميز إغتيال علي بن أبي طالب على يد ابن ملجم أنه كان عملاً إنتحارياً من أجل شراء الجنة حسب عقيدة الخوارج. واللافت للنظر أن فرقة من فرق الخوارج تدعى الأخنسية حرمت الإغتيال على أتباعها أو كما عُرف بالبيات، وهم جماعة أخنس بن قيس "حرموا الإغتيال والقتل والسرقة بالسر"(الشهرستاني، الملل والنحل).
ما كادت تخفت حركة الخوارج، التي اشتدت في العصر الأموي والقرون العباسية الأولى، حتى ظهرت حركة إنتحارية أضطرت الأمراء والوزراء والقضاة إلى لبس الدروع تحت الثياب، وهو ما كان يعرف بالزرد. عرفت بعدة أسماء الأبرز بينها الباطنية(راجع كتاب الغزالي بالاسم نفسه) أوالفداوية(السبكي، طبقات الشافعية الكبرى). تعني الفدائية أو الفدائيين الإنتحاريين. غير أن الفدائي عادة مَنْ يكون صاحب قضية وقد لا يحصر هدفه بالجنة، مثلما أشتهرت بذلك منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية. أما الإنتحاري فهو صاحب عقيدة دينية مغلوب بفكرة الفوز بالجنة مقابل قتل النفس، تتقدم هذه الرغبة أي قضية أخرى، فيقيناً أن تفجير النفس في متجر أو باص أو طائرة لا يحقق عودة السلف وحكم الدين وسيادة الشريعة بقدر ما يضمن دخول الجنة عبر أسرع السبل، سبيل يختصر عقوداً من العبادة والزهد، قد لا تُضمن بها الجنة، بلحظة ضامنة تهيأ لها الإنتحاري إلى حد يصبح عنده الموت رغبة ومنال. تبدو فكرة دخول الجنة مؤثرة تأثيراً كبيراً في جهاد المسلمين ضد المشركين، حتى كادت تحل محل الإسلام نفسه، فأغلب المقاتلين ينتظرون الفوز بالجنة. عموماً، قوة الدين ترتبط أساساً بالثواب، وعليه نشأت الإخلاقية الدينية، هذا ما أعلمتنا فيه الآية التالية وآيات أخرى"فمَنْ يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومَنْ يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره" (سورة الزلزلة).
اضطراب التسمية
أبرز التسميات الشائعة في الغرب والشرق لهذه الجماعة الإنتحارية أو الفداوية هي الحشاشون (Assassin). فحسب رحالة ومؤرخين أوروبيين عرفوا بذلك نسبة لتعاطي الحشيش المخدر بفرض من زعيمهم حسن الصبَّاح. غير أن كتب التاريخ الإسلامي، ومنها تواريخ القرون الوسطى العربية، وكتب الملل والنحل لا تفيد بشيء عن أصل تسمية الحشاشين، ولا المخدر المقصود أو علاقة قاطني ألموت به، ما عدا ما أورده بنيامين في رحلته، قال: "أرض الملاحدة التي تسكنها طائفة لا تؤمن بدين الإسلام، يعتصم أتباعها بالجبال المنيعة، ويطيعون شيخ الحشيشين، ويقيم بين ظهرانيهم نحو أربعة آلاف يهودي، يسكنون الجبال مثلهم ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم، وهم أشداء لا يقدر أحد على قتالهم"(رحلة بنيامين، ص153-154)، بطبيعة الحال أن بنيامين كان ضيفاً على الخليفة العباسي المستنجد بالله (555-566هـ)، لذا قال بما كان يقوله العباسيون عن جماعة ابن الصبَّاح. أما مشاركة اليهود في غزواتهم فأرجو أن لا يؤول بتواطؤ ديني، وما يسقطه هذا التأويل من اختلاقات على تاريخ النزاريين. كذلك تأتي إشارة ابن الجوزي في "المنتظم" و"تلبيس أبليس" إلى تناول أصحاب ابن الصباح الجوز والعسل والشونيز لبسط الدماغ (سنأتي على تفصيل ذلك لاحقاً).
قلنا خلت مؤلفات عديدة معاصرة للحركة ورئيسها ابن الصباح من هذه التسمية، مثل: "فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي (ت505هـ)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ت548هـ)، الذي جادلهم ولم يقبلوا منه، وكان يسمعونه عبارة: "أفنحتاج إليك؟ أو نسمع منك، أو نتعلم عنك؟"(الملل والنحل)، "الحور العين" لنشوان الحميري (ت573هـ).
قال أبو حنيفة الدينوري (ت282هـ): الحشيش "يبس العشب ولا يُقال للرطب حشيش، وقد حش العشب يحش إذا جف، وحشت يد الرجل إذا جفت، والحش هو جز الحشيش(كتاب النبات). وأفاد الجاحظ: الحشيش بمعنى "القطعة من النخل، وهي الحشّان، وكانوا بالمدينة إذا أرادوا قضاء الحاجة دخلوا النخل، لأن ذلك استر، فسموا المتوضأ الحشّ وإن كان بعيداً عن النخل"(كتاب الحيوان). وعدّ أبو الخير الأشبيلي (القرن السادس الهجري) للحشيش أربعين نوعاً، ليس بينها المخدر المقصود. منها: الحشيش البابلي، وحشيش الأفعى النافع لنهشها، وحشيش الداحس النافع للسعال، وحشيش الرئة النافع لذات الرئة، وحشيش الطلق النافع للولادة(عمدة الطبيب). كذلك لم يذكره ابن سينا (ت 347هـ) في "القانون في الطب"، ولا ابن البيطار (ت607هـ) في "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) بين المهدئات أو المخدرات.
يا تُرى كيف أقترن الحشيش بالمخدر؟ هناك حشيش يعرف بحشيش الخشخاش، أي اليابس منه "يخدر الدماغ، وإن أكثر منه قتل للوقت بلا تأخير، وخاصة للبارد المزاج من الناس ... يتخذ منه شراب فيكون أبلغ في التنويم وتسكين اللهيب وجميع الأوجاع"(الفلاحة النبطية)، والخشخاش البستاني منه "لا يؤكل خبزه إلا مع الحلاوات من العسل والدبس" (نفسه)، فهل هذه المادة هي التي قصدها ابن الجوزي بالشونيز؟ قال فيما قاله حول حسن بن الصبَّاح: "كانت سيرته في دعاته ألا يدعو إلا غبياً، لا يفرق بين يمينه وشماله مثلاً، ومَنْ لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه"(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم). على صعيد آخر يعني الشونيز، وهي مفردة فارسية، الحبة السوداء أو الكمون الأسود، تسمى الكمون الهندي أيضاً، وهي الخردل، أو الحبة الخضراء (ابن قيم، الطب النبوي). عُرفت هذه المادة بفائدة طبية متعددة الأغراض، ليس من بينها التخدير كفعل الخشخاش أو ورق القنب. وردت فوائدها في أحاديث نبوية منها: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داءٍ، إلا السام" أي الموت(نفسه). غير أن أبا حنيفة الدينوري في كتاب "النبات" شبه الحبة السوداء بالشونيز، وهي مادة تستعمل عادة في توقير الإبل. وتوقير الدابة بمعنى تسكينها، أو ترزينها (القاموس المحيط). إن قصد الدينوري هذا المعنى فملاحظة ابن الجوزي "حتى ينبسط دماغه" تكون جائزة.
بعد صلة مادة الحشيش المخدرة بالخشخاش تأتي صلتها بنبات الشَّهدانج، وهو بذر شجرة القنب، فورقه يسمى الحشيش أيضاً. قال أبو الخير الأشبيلي في القِنب: "كثيره يصدع الرأس، ويجفف المني، ويقطع النسل، ويسكر كما تسكر الخمر"(عمدة الطبيب). إلا أن المصادر الإسلامية لا تخبر عن صلة الحشاشين بأي حشيش، سواء كان حشيش الخشخاش أو شجر القِنب، وهم، حسب رواية مبغض لا محب، كانوا يتناولون الحبة السوداء فقط. بعد هذا تبقى لدينا رواية متأخرة يسوقها ابن الفرات تؤكد وجود الحشيش كمخدر، يُعد التعامل فيه وبالتالي تعاطيه من المحرمات، قال في حادثة يؤرخ لها في تموز 1387م، أي بعد زمن جماعة ابن الصبَّاح بمئتي عام: "أرسل الأمير سودن الفخري الشيخوني نائب السلطة جماعة إلى موضع يعرف بحكر واصل سولاق يباع فيه الحشيش، فهجموا بيوت جماعة من أهل ذلك الموضع، وحملوا أثني عشر حمل جمل، وعشر بغال وحمير، وعلى بعض الجمال أربعة أفراد، وبعضهم ثلاثة أفراد، وبعضهم فردين، وجميع ذلك مملوء من الحشيش، وشاع أنهم مضوا بذلك إلى تحت القلعة وأحرقوه وأتلفوه بالتراب"(تاريخ ابن الفرات). أشارت عبارة "أحرقوه وأتلفوه" إلى أنه المادة المخدرة لا غيرها.
أطلق تسمية الحشاشين (Assassin)، التي كما تقدم لا أصل لها في كتب التراث والتاريخ الإسلامي، الرحالة الغربيون القدماء على إسماعيلي القرون الوسطى من المتحصنين بقلعة ألموت، تأكيداً لمزاعم وقوعهم تحت تأثير مادة مخدرة. لكن للتسمية دواعٍ أخرى، ليس بينها المادة المخدرة، منها أنهم حشائشون وليسوا حشاشين، والفرق كبير بين التسميتين، فالأولى نسبة للدواء والثاني نسبة للمخدر. قال المؤرخ اللبناني حسن الأمين: "الحشائشيون وهي الصفة التي كانت تطلق في تلك العهود على مَنْ يتعاطون جمع الحشائش البرية، التي تستعمل هي نفسها أدوية، أو تستقطر منها الأدوية، وقد كان يختص بذلك أفراد، فيهم مَنْ هم من الأطباء أو الصيادلة، كان يطلق على الواحد منهم لقب: الحشائشي، حتى لقد أصبحت هذه المهنة من المهن المشتهرة، وكان لها أسواق خاصة بها، وتجار يتعاطون بيع الحشائش الطبية وشراءها"(الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي).
إن وجود لقب الحشائشي، الذي أشار إليه الأمين أكثر من مرة في كتابه "الإسماعيليون والمغول"، يؤكد صحة النسبة، وخاصة إذا كان أحد وكلاء الحسن بن الصبَّاح حشائشياً، وهو محمود السجستاني. قال: "كان في كل مدينة سوق خاص يسمى سوق الحشائشيين، وكانت الحشائش تجمع بألموت في جوالق يكتب عليها اسم المرسلة إليه، واسم المدينة مع كلمة سوق الحشائشيين. أما ما يستقطر منها فيوضع في قوارير خاصة محفوظة من عوامل الكسر وترسل مع أحمال الحشائش"(نفسه).
بطبيعة الحال أن ماذهب إليه الأمين كان جديراً بالإهتمام، لكن ماذا عن نسبة التسمية إلى الحشاشة بمعنى "بقية الروح في المريض أو الجريح"، فربما لقدرة هؤلاء على الاغتيال، وتمرسهم في أساليبه وشهرتهم فيه أرتبط أسمهم بالحشاشة حتى ذاع صيتهم بالحشاشين، أو إلى نسبة لعملية حش الرقاب لكثرة القتل؟ وحسب برنارد لويس وردت تسمية الحشاشين أول مرة في تقرير كتبه مبعوث الأمبراطور فردريك إلى مصر وسوريا السنة (1175) ميلادية، أي بعد وفاة ابن الصبَّاح بثمانية عشر سنةً، بعد أن "لاحظ جنس معين من العرب يعيشون في الجبال يسمون أنفسهم بالحشاشين"(الحشاشون). ولعل عبارة "يسمون أنفسهم"، تفيد في أنهم سموا أنفسهم بهذا الاسم لإرهاب الخصم، أو أطلق عليهم هذه التسمية المحيطون بقلاعهم.
فالتسمية عربية قطعاً، مصدرها بلاد الشام وليس بلاد فارس كي تفسر بمعنى آخر. قال برنارد لويس: "نلاحظ إنه عندما كان ماركو بولو... يتحدث عن الإسماعيلية في فارس باعتبارهم حشاشين، وعن زعيمهم باعتباره شيخ الجبل كان يستخدم تعبيرات شائعة في أوروبا جاءت من سوريا لا من فارس، فالمصادر العربية والفارسية على السواء تدل أن كلمة حشاشين كلمة سورية محلية، كانت تعني فحسب إسماعيلية سوريا وليس إسماعيلية فارس أو أية دولة أخرى"(نفسه). فلو كانوا يتناولون ورق القنب المعروف بالمخدر آنذاك ما فات الغزالي ولا ابن الجوزي وغيرهم من ذكر هذا المثلب الخطير. إضافة إلى أن عمليات الإغتيال والتدريب تحتاج الصحوة والإنتباه، ومعاينة دقيقة للمكان، ورصد حركة المغدورين، فهم عادة من أرباب السلطة والجاه تحيطهم الحراسة، وكل هذا لا يتوفر لمتعاطي المخدرات.
شاعت تسمية الحشاشين (Assassin) بأوروبا، حتى أخذت تطلق على كل مَنْ يمارس الإغتيال من أهل الجبل أو غيرهم. وردت التسمية في جحيم دانتي عندما تحدث عن الحشاش الخائن، ووردت في رسائل العاشقين، مثل: "أنتِ تسيطرين عليَّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين"، و"كما يخدم الحشاشون سيدهم بإخلاص لا ينضب كذلك أحبكِ بولاء لا يكل"، و"أنا حشاشكِ الذي يتمنى أن يحظى بفردوسك عن طريق تنفيذ أوامرك"(نفسه).
مخيال الفردوس
الرعب من الحشاشين كان أبلغ من الرعب من أي جيش من الجيوش الجرار، لأنه الفتك سراً، كان لهم قدرة عجيبة على التمويه والتستر ما يمكنهم الدخول إلى غرف النوم، لذا حذر القس الألماني بروكاردوس ملك فرنسا فيليب السادس من أساليبهم، قال: "لا ينبغي السماح باعطاء وظائف القصر الملكي، أو أية خدمة فيه مهما كانت صغيرة أو مختصرة أو متواضعة إلا للمعروفين تماماً، كما لا ينبغي السماح لأحد بدخول القصر إلا لهؤلاء الذين تعرف بالتحديد دولتهم، وحكامهم، ونسبهم، وحالتهم. أي ينبغي بإختصار أن يكون الشخص المسموح له بالاقتراب من الملك معروفاً"(نفسه). فأول قتيل أوروبي بخناجرهم هو أمير القدس كونراد أوف (1192م).
إن فسر ابن الجوزي إندفاع الحشاشين إلى الموت بسبب غبائهم، وإستحواذ ابن الصبَّاح عليهم بمواد تبسط أدمغتهم، فسرها الرحالة ماركو بولو في تقريره حولهم بشراء أو نيل الجنة. قال واصفاً جنتهم التي شيدها لهم ابن الصبَّاح في وادي مغلق بين جبلين: "حوله حديقة فيحاء، أكبر وأجمل حديقة يمكن أن تقع عليها العين، وملأها بكل أنواع الفواكه، وأقام فيها قصوراً ومقصورات من أروع ما يمكن تخيله، وجميعها مغطاة برسوم فاتنة، ومموهة بالذهب، وجعل فيها جداول تفيض بالخمر واللبن والعسل، وأقام على خدمة الحديقة فاتنات من أجمل نساء العالم يجدنَّ العزف على مختلف الآلآت الموسيقية، ويغنينَّ بأصوات رخيمة، ويؤدينَّ رقصات تخلب الألباب، ذلك لأن شيخ الجبل كان يريد أن يوحي لشعبه بأن هذه هي الجنة الحقيقية، ولذا فقد نظمها بالوصف الذي جاء به محمد للفردوس كحديقة جميلة تفيض بأنهار الخمر واللبن والعسل والماء، ومليئة بالحور العيّن، ومن المؤكد أن المسلمين في هذه الجهات يعتقدون أنها الجنة حقاً"(نفسه). أضاف ماركو في تقريره حول كيفية إستلهامهم الجنة قوله: "يشربون مخدراً معيناً يسلمهم إلى نعاس عميق ثم يأمر برفعهم وحملهم إلى هناك، وهكذا فأنهم ما أن يستيقظوا يجدون أنفسهم في الجنة"(نفسه).
لم يشاهد الرحالة ماركو فردوس الحشاشين، لأنهم جماعة سرية دائمة الارتياب والحذر من الغرباء، كذلك لا تبدو القصة خالصة من إختلاق مخيلته دون السماع من حشاش أو قريب منهم، تحدث إليه عن جنة الآخرة لا جنة الدنيا، ثم ركب ماركو الوصف على وادٍ مغلق بين جبلين ترتفع فوقه قلعة ألموت، وجعل منها عرشاً إلاهياً في أسفله الجنة. إن تمكن ابن الصبَّاح من شق جداول ماء وغرس فاكهة وأعناب فماذا عن الخمر واللبن والعسل وغيرها من المرغبات، والمعروف عن ابن الصبَّاح أنه كان متديناً شديد الورع، قتل ولده لشربه الخمر!
صحيح ما قاله ماركو حول شراء الحشاشين الجنة مقابل عملياتهم الإنتحارية، فهذا ما مارسه المسلمون الأوائل، وما يعتمد الجهاد الإسلامي عليه، وقد أشرنا إلى نماذج معاصرة قامت بعمليات إنتحارية مقابل الجنة. هذا من جانب ومن جانب آخر تحولت النزارية أو الباطنية إلى عقيدة هيمنت على عقول الأتباع ليكونوا فدائيين من أجلها. ما يكذب معلومة ماركو حول مادية جنة الحشاشيين هو أن مكان وادي الفردوس المزعوم يجتاحه الشتاء وبرده القارس شمال إيران، فيحوله إلى أرض غير ذي زرع "سبعة أشهر في العام"(الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي)، فكيف يكون فردوساً عامراً.
إن تلقين المنضمين إلى تنظيم الحشاشين، وهم حسب ابن الجوزي ينتقون من الجُهلاء، بمفاهيم الشهادة وشراء الجنة والتبسط في الحديث عن نعيمها وملذاتها الدائمة هَيَّأهم للقيام بالعمل الإنتحاري دون وجل. ينقل المؤرخ الحنبلي المذكور صورة من صور هيمنة أمير الإنتحاريين على أتباعه: قال لجماعة من أصحابه أمام رسول ملك شاه السلجوقي إليه: "أريد أن أنفذكم إلى مولاكم في قضاء حاجة، فمَنْ ينهض لها؟ فأشرأبَّ كل واحد من