مكتبة إيلاف (7):

كلمة المؤلف


هذه مجموعة من بين العشرات من مقالاتي المنشورة في صحيفة إيلاف، التي احتلت موقعا خاصا في نفوس فريق كبير من المثقفين اللبراليين العراقيين والعرب. وقد اخترت هذه المجموعة القليلة لتظهر في واحد من سلسلة "مكتبة إيلاف".
لا بد من الإشارة أولا إلى أن هذه مقالات كتبت من عام 2002 وحتى اليوم، وهي تخص الوضع العراقي والقضية الديمقراطية. وبعض هذه المقالات نقلت أيضا في عدد من الصحف العراقية. وهكذا فهي كتابات عن العراق قبل سقوط نظام صدام وبعده. وقد تعمدت إبقاء التواريخ لفهم الظروف التي كتب فيها كل مقال.
لقد تحول الموقف الأمريكي من نظام صدام تحولا جذريا بعد الجرائم الإرهابية 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. فانتقل من سياسة "احتواء صدام" إلى سياسة إسقاط نظامه الفاشي. وكانت المنطلقات والحسابات الأمريكية هي أولا للدفاع عن الأمن القومي الأمريكي، لا حبا بعيون الشعب العراقي ولأسباب خلقية وإنسانية. ولكن الموقف الأمريكي الجديد قد التقى مرحليا مع أهم طموح عراقي للتخلص من جحيم الفاشية الصدامي الذي استمر عقودا من السنين.
لقد قدم الشعب العراقي وقواه الوطنية تضحيات غالية للتخلص من نظام الدم والمقابر الجماعية، والتطهير العرقي، والتمييز الطائفي. وقد أدى نضال شعبنا إلى إضعاف ذلك النظام داخليا ولكن ليس للحد الذي يمكّن الشعب من إسقاط النظام بقواه الذاتية وحدها، خصوصا وكانت الدول والنخب العربية والإسلامية وعدد من الدول الكبرى مع بقاء ذلك النظام بدافع المصالح النفطية والتجارية، وبعضها خوفا من قيام الديمقراطية في منطقة تسودها سياسات القمع والاستبداد والفساد.
لقد كنت من بين المثقفين والساسة العراقيين الوطنيين الذين رحبوا بالتغيير الاستراتيجي للسياسة الأمريكية في العراق. وقد كنت متحمسا لكي تسرع أمريكا بحملتها العسكرية ليتحرر شعبنا المسحوق. وانتقدت بشدة مواقف عدد من دول مجلس الأمن ومظاهرات اليسار الأوروبي وأقصى اليمين تحت شعار " لا للحرب"، وهو شعار لم يكن يعني غير "نعم لبقاء صدام"، وذلك بغض النظر عن النوايا والمنطلقات المختلفة لكل طرف.
لقد بينت التجارب الدولية أن الانتقال من نظام دموي فاشي إلى حكم ديمقراطي ودولة القانون وحقوق الإنسان لا يمكن أن يتم كسلق البيض بمجرد سقوط النظام المعني، لا سيما في بلد متخلف حضاريا ومحاط بدول معادية، كالحالة العراقية. كما أن الديمقراطية لا تعني الفوضى وانتهاك سيادة القانون كما حدث في العراق بعد سقوط النظام الشمولي لصدام. ومن هنا أدنّا بشدة الانفلات الأمني بعد التاسع من نيسان 2003، وأرسلت مع العديد من المثقفين العراقيين مذكرات متتالية إلى بوش وبلير، ثم لمجلس الحكم بعد قيامه، محذرين من الفوضى السائدة، وانطلاق تيارات التطرف الدموية، وما كنا نلمسه من تساهل غير معقول لقوات التحالف مع المجرمين وميوعة مجلس الحكم. وأدنا بشدة جميع مظاهر وتيارات التطرف الديني والمذهبي والطائفية التي لا تزال من أكبر العراقيل أمام المسيرة نحو الديمقراطية في العراق. وإذ أكتب هذه الكلمة فإن العراق يواجه حالة شاذة وخطيرة بسبب تحدي مليشيا مقتدى الصدر وجرائم جيش المهدي المتحالف مع عصابات الزرقاوي وفلول صدام. إنه تحلف الأشرار لتجيير الوضع العراقي لصالح حساباتهم وأهدافهم، بالرغم من أن كل طرف من هذه القوى الشريرة يعادي الطرف الآخر ويتربص به الدوائر في المستقبل.
لا أعرف كيف ستعالج في النهاية الحكومة الانتقالية الفتنة الساخنة التي أشعلها الصدر بتوجيه ودعم إيرانيين صارخين. ولكننا طالبنا مرارا وتكرارا باستخدام الحزم والحسم لمواجهة حرب الإرهاب الصدرية ـ الزرقاوية ـ الصدامية على الشعب العراق، وهي حرب تسندها دول مجاورة وعلى الأخص النظامان الإيراني والسوري، وبعض الفضائيات الحاقدة كالجزيرة.
لقد عنونت هذه المجموعة ب: [ المخاض العسير للعراق الجديد]، قاصدا أن الانتقال لنظام ديمقراطي برلماني وفدرالي في العراق لن يتم بفترة شهور أخرى أو حتى بعام أو عامين آخرين، ولا بمجرد الانتخابات الانتقالية المفترض جريانها في بداية العام الجديد. فالعراقيل أمامنا كثيرة وكبيرة، داخلية وخارجية، ولا سيما ما أحدثه صدام من تشويه ومسخ للتكوين الثقافي والأخلاقي في المجتمع العراقي، والذي نجد أخطر مظاهره ونتائجه في مرض الطائفية وممارسات العنف وضعف الحس الوطني لدى شرائح واسعة من العراقيين في بغداد والوسط والجنوب وحتى بين الساسة والمثقفين. وقد فرضت الطائفية نفسها على المؤسسات السياسية العراقية منذ مؤتمر لندن قبل سقوط صدام، فجرى الأخذ بنظام الحصص الذي يضع الولاء الطائفي والديني والعرقي قبل الولاء للعراق. كما أن قوات الأمن والشرطة العراقية لا تزال ضعيفة إزاء الميليشيات الدموية، وفي بلد يكاد كل فرد فيه يمتلك قطعة سلاح. وعدا الآفات الداخلية، فهناك شراسة وتفاقم تدخل إيران وسوريا في الشأن العراقي الداخلي، ونجاح إيران في خلق جيش المهدي وتسليحه، وفي اختراقها لشرائح واسعة من قوات بدر، وكسب عدد من الساسة الشيعة وحتى بعض من كانوا يعلنون اللبرالية والحرص على قيام الديمقراطية. وزرعت إيران العشرات من مقرات ضباط مخابراتها في أنحاء العراق وخصوصا في البصرة والمدن الشيعية المقدسة، واخترقت النخب الدينية والسياسية الشيعية أيما اختراق.
أجل إن الطريق طويل والمخاض عسير. ولكن فلنؤمن بأن العراق الجديد سيولد قويا في آخر المطاف.

عزيز الحاج

ـ باريس ـ 26 آب ـ أغسطس ـ 2004

في مأزق الفكر العربي


يمكن الاتفاق مع الرأي القائل إن الفكر العربي، ومنذ العقود الأخيرة، في محنة كبرى وفي مأزق حقيقي.

فالفكر العرب، وبكل فروعه، من سياسي وديني واجتماعي وثقافي، ليس فقط متخلفا عن مسار العصر ومتطلبات حضارته، وإنما قد تراجع إلى وراء وتردى حتى بالمقارنة مع ما كان عليه في النصف الأول من القرن الماضي، حيث ظهر مفكرون ومصلحون وكتاب وعلماء متنورون بالعشرات، من أمثال علي عبد الرازق وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وعبد الرحمن بدوي وشبلي شميل ومنصور فهمي وعلي الوردي و رئيف خوري و جبران، والمصلحين من علماء الدين كمحسن الأمين وكاشف الغطاء والسيد أبي الحسن، وشعراء التجديد، وآخرين وآخرين؛ بل حتى الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر كان الأكثر تقدما فكريا واجتماعيا[ النظرة للمرأة والغرب]. وإذا كان موضوعنا هنا ليس تشخيص عوامل الظاهرة والظروف التي أفرزتها وطورتها، [كالفقر والجهل، وفشل مشاريع التنمية والمشاريع القومانية المفخمة، والإحباط الناجم عن العدوان الإسرائيلي المستمر، وغير ذلك ]،فإنني أتناول هنا ما أراه من بين أهم معالم هذه الظاهرة و تجلياتها: من سيادة ثقافة العنف بكل أشكاله،والتعصب الشديد لحد التطرف أحيانا كثيرة، ورفض التحليل العقلاني والمعاينة النقدية للأمور والأحداث والمواقف والتجارب السياسية مع إلقاء التبعات على "الآخر"، [سواء كانت أمريكا ـ والغرب عموما ـ أو إسرائيل، أو كان الآخر سياسيا عربيا مخالفا أو مثقفا منافسا]،و الانكفاء على النفس والماضي باسم الأصالة ومكافحة الغزو الثقافي، والازدواجية المغالطة في النظر للمشاكل وفي اتخاذ المواقف العملية. وهذه الازدواجية السائدة في الساحة قد تنجم عن دوافع إيديولوجية وسياسية او عن عقد ومواريث التخلف الاجتماعي والثقافي، وأحيانا بحسابات حزبية وشخصية.
ان ثقافة العنف بل والتمجيد الغوغائي للموت المجاني، ومنطق التخوين والتكفير والتفسيق، [وهذه الظاهرة تسود العالم الإسلامي كله مع صعود تيارات التطرف الديني والتطرف السياسي المتبرقع بالدين ]هي المهيمنة اليوم، وبكل أسف، بين النخبة والجمهور الواسع معا. صحيح أن هناك أقلاما وأصواتا عربية شجاعة حرة ومتنورة، تقف في وجه الغزو العنفي للفكر والممارسة السائدين. ولكن هذه هي أصوات وأقلام الأقلية المحاصرة، بل والمضطهدة والمهددة سواء، من الأنظمة القمعية الفاسدة أو من أدعياء الدين، أو من القيادات والنخب الثقافية المتشنجة التي تعتقد باحتكارها للحقيقة المطلقة، والتي ترفض الحوار والتسامح واحترام الآخر والإقرار بنسبية الحقيقة وجدليتها المتطورة والمرنة. ونعرف مثلا ما حل بفرج فودة، والاعتداء على نجيب محفوظ، وقرار المحكمة المصرية بالتفريق بين حامد أبي زيد وحرمه، ومطاردة رواية قديمة لحيدر حيدر.كما نعرف مجازر الجزائر " الإسلامية !؟" والاعتداء على الأقباط في مصر، والاعتداء على الكنيس اليهودي في تونس، وغيرها و غيرها من
وقائع وأحداث وممارسات دموية.أما المرأة فلا تزال في العالمين العربي والمسلم الضحية الاولى لعقلية التخلف وثقافة العنف التي تهين الكرامة وتحتقر حقوق الجنسين. وانه لمن المرعب أن يصبح نموذج البطل القدوة أمثال ابن لادن وأبي نضال وأبي سياف وطاغية بغداد ومن لف أمثالهم من حكام او قادة كتل وأحزاب وجماعات تنتهج العنف الدموي سبيلا لتحقيق غايات سياسية هي الوصول للسلطة والتشبث بها. وما شعار " الدولة الإسلامية الكبرى " إلا المثال الصارخ للشعارات البراقة التي تستعمل اليوم [ من بين شعارات أخرى ] لتحقيق المشاريع المذكورة.
لقد أشار عدد من الباحثين إلى دور الإيديولوجيات الحاسم في غلبة ثقافة العنف وعقلية "المؤامرة"، ورفض الآخر حد الرغبة في تحطيمه جسديا إن أمكن، وإلا فمعنويا واجتماعيا. ولعل هذا التفسير له مبرراته وشرعيته، فضلا عن مواريث الخلف الحضاري المزمن في مجتمعاتنا. وسواء كان " المؤدلج " المتعصب قوميا أو يساريا او إسلاميا، فإن جوهر العقلية مشترك. ولذلك نجد شيوعيين سابقين يتحولون من إيديولوجيا لأخرى دون أن يجدوا في الأمر غرابة، ذلك لان هذه الإيديولوجيات كليّانية ومغلقة ما لم يخرج أصحابها من الدائرة المغلقة ويعترفوا قولا وفعلا بنسبية الحقيقة وعدم عصمة القيادات والأفكار والأحزاب والنخب والأفراد. والعنف في أقصى مداه سكين وخنجر أو مسدس ورشاشة وتفجيرات، وهو في أشكاله الأخرى فرض الحجاب تحت وطأة الضغط الاجتماعي و العائلي بل وبالقوة، أو التشهير والاتهامات المجانية ومحاولة اغتيال المخالف معنويا.
إن الإيديولوجيات المغلقة لا تطيق الاعتدال والحلول الوسطى للمشاكل إذ لا ترى غير الأبيض أو الأسود،وتلجأ للمغالطة لتبرير شرعية مواقف حامليها السابقة منها والراهنة. وهكذا نجد من يرون إعادة النظر في التجربة الناصرية خيانة، أوأن انتقاد أخطاء الشيوعيين "مؤامرة إمبريالية لشق الصفوف"، أو أن فضح الفتاوى الدينية التافهة والدعوة للفكر العلمي والنقدي " كفرا " و"إلحادا"، والغزل الشعري والنثري والأفلام العاطفية والاستعراضية " فسقا " و" انحلالا"، الخ.. ومنذ سيادة النخب " المؤدلجة "على الميدان السياسي والثقافي والاجتماعي صار القتل المجاني للنفس " استشهادا"، وقتل الآخر فرضا مقدسا. وهكذا مثلا انتهت القضية الفلسطينية من مأزق لآخر، جراء انتشار عقلية رفض التفاوض والتسوية السلمية، تحت شعار "إنهاء دولة إسرائيل" و"إبادة اليهود ". وحتى القيادة الفلسطينية المعتدلة فضلت اللعب مع العواطف والمناورة الضارة بمجاراتها للمتطرفين العدميين. وهذا ما يريده شارون وزمرته من غلاة الصهاينة العنصريين التوسعيين. ويقتل شارون فلسطينيا فترفع فورا دعوات " الثأر " ولكن ليس من الجيش المعتدي والرموز المعتدية بل من الطفل والمرأة والشيخ ومن التلاميذ ورواد المطعم وركاب الحافلات! وبهذه العمليات الانتحارية التي صارت ثقافة وطقسا، ينتصر شارون ويبرر جرائمه المتكررة.إن الفلسطينيين ومعظم النخب السياسية العربية لم تفهم أن العالم انتقل من عهد لعهد بعد أحداث سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وان شارون يوظف العمليات الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيلين توظيفا مكيافيليا بربطها بالحرب الدولية على الإرهاب. وبذلك خسر الشعب الفلسطيني الكثير من العطف الدولي على قضيته. كما تهمش دور دعاة السلام وقواه في إسرائيل. إن القضية الفلسطينية هي دولية وفلسطينية معا، بل هي دولية أكثر من كونها عربية، وذلك بمعنى أن القيادة الفلسطينية الرسمية والدول العربية تطلب من واشنطن نفسها التدخل لإرغام شارون على التراجع عن سياسة العنف والعودة للمفاوضات السياسية. إن نبذ العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين والتفجيرات العشوائية لا يعني أبدا وقف النضال الفلسطيني العادل من أجل قيام دولته المستقلة. فللنضال التحرري أشكاله المجدية ولم نعرف أن المقاومة الفيتنامية مثلا وضعت في تكتيكها قتل الأمريكي أيا كان وأينما كان. لقد دفعت الشعوب العربية و بلدانها أثمانا باهظة للقضية، واستثمر أكثر الحكام هذه القضية لتغييب الديمقراطية وهدر الحريات ولتبذير المال العام على التسلح العقيم، كما الحال مثلا مع عراق اليوم الذي يرفع حكامه المتسلطون صرخاتهم المخادعة باسم نصرة فلسطين لتغطية قمعهم الدموي الوحشي للشعب وقواه الوطنية، ولتبرير هدر المال واستنزاف الثرة الوطنية وبذخ النخبة الحاكمة وحاشيتها وأجهزتها القمعية، وللتغطية على مسئوليتها عن وصول العراق لما وصل إليه منذ كارثة غزو الكويت والعقوبات المترتبة عليه، والمناورات المستمرة مع مجلس الامن الدولي، مما يعطي مزيدا من الحجج لبقاء الحظر الاقتصادي. فالنهج الخاطئ والخطر للقيادات الفلسطينية المتطرفة يسئ لا للشعب الفلسطيني وحده بل ولشعوب المنطقة العربية أجمع. ولكن من لا تقل مسئوليتهم هم النافخون من بعيد في النار، الداعون لاستمرار العمليات الانتحارية وهم وراء مكاتبهم الفارهة في العواصم العربية او الغربية، ومن الفضائيات المتشنجة واعمدة الصحف والمنابر المختلفة. إن هؤلاء يشجعون المتطرف الفلسطيني على اعتبار الانتفاضة هدفا بحد ذاتها، وان الانتفاضة لا تعني غير عمليات تدمر الفلسطينيين أضعاف ما تؤذي إسرائيل وهي تديم الاحتلال وليس العكس. إنهم يغذون عقيدة أن الموت غاية الغايات وسبيل السعادة والمجد وليس ان كل نضالنا هو من أجل حياة سعيدة وكريمة وحرة على كوكبنا. وتقديس "الشهادة" بأي ثمن ليس حكرا على المتطرف الإسلامي بل هو عقيدة ومزاج أيديولوجيان نجده لدى الستاليني، والقوماني المندفع، وكل مؤدلج سياسي آخر.

ولننظر أيضا في المواقف العربية الراهنة من القضية العراقية، سواء عنينا الحكومات او النخب المثقفة والسياسية غير الحاكمة. فباستثناء أقلية محدودة العدد من المثقفين العرب، نرى، مع الأسف، دفاعا مستميتا عن نظام تعارضه النسبة الكبرى من الشعب وقواه الوطنية، التي تنشد الخلاص من الديكتاتورية الشمولية، وترميم السيادة الوطنية المتصدعة، وتعزيز وحدة العراق ووحدة شعبهن وقيام نظام ديمقراطي علماني فدرالي. غير أنه، ومع ازدياد الحديث عن التغيير الجذري القريب في العراق والتحركات النشيطة في هذا السبيل نجد، في الوقت نفسه، ازدياد تحامل المنابر الإعلامية العربية على الوطنيين العراقيين ولصق الاتهامات الباطلة بهم، والتخويف من التغيير العراقي المطلوب ـ سواء بالتخويف من انفصال كردي موهوم أومن قيام دولة شيعية غير موجودة إلا في مخيلة هؤلاء المدافعين الزائفين عن شعبنا و العراق، بينما لا يقصدون غير بقاء النظام العراقي. وأسباب هذه المواقف متعددة فمنها الإيديولوجي والسياسي المحلي، ومنها الحسابات التجارية والاعتبارات الشخصية، وخوف البعض من التحول الديمقراطي في العراق، الذي عند تحققه سيؤثر لا محالة على مسار الأحداث في كل المنطقة ـ وهذا مما سيحرج بعض الأنظمة والقيادات السياسية الأخرى.

وفيما تصدر الفتاوى التبريرية لبقاء النظام لا نجد غير أصوات قليلة تدافع عن الشعب وتدين الممارسات القمعية التي بلغت في العقد الأخير حدا لم يشهده تاريخ العراق الحديث، وإذ تحولت طبيعة الدكتاتورية نفسها لتنتقل إلى حكم الفرد والعائلة، ومن ورائهما قرية بعينها لم تعرف حضارة بغداد ولا تشعر بأي تعاطف حقيقي مع بقية سكان العراق المتعددي الألوان الدينية والمذهبية والعرقية. ومن الحكام العرب من يعبرون لواشنطن عن " القلق " على مواطنيهم المقيمين في العراق في حالة سقوط النظام من دون أن يعربوا يوما عن التعاطف مع محنة شعبنا بسبب القمع ونهج التعذيب، وحملات الاعتقال و الإعدام الجماعية، وقطع الأعناق، و صلم الآذان، ووشم الجباه، وتعريب المناطق الكردية والتركمانية، وتهجير مئات الآلاف، وغيرها وغيرها من الممارسات ذات الطابع الفاشي والطائفي والعنصري.

إن النخب العربية هي التي تضخ الدعايات المدافعة عن النظام العراقي وضد وطنييه، وإن الشارع العربي المصدوم بالعدوان الإسرائيلي وبأخطاء وخطايا السياسات الأمريكية، والذي يعاني معظم أفراده من الأمية، يصدق مندفعا وراء دعوات النخب ودعاياتها التي تتعكز على المغالطة، وتشويه الحقائق. وتستغل النخب هنا، [وكما في القضية الفلسطينية ]، مشاعر الكراهية السائدة [ عن حق وعن باطل] نحو الأمريكان لتبرير وشرعنة كل ما هو باطل وضار من مواقف.فهل كراهية سياسة أية دولة كبرى تبيح الدفاع عن مظالم هذا الحاكم العربي أو ذاك ؟! ولماذا تجريم الحوار مع سادة الورقة العراقية منذ حرب الكويت [الأمريكان]، وطلب العون الدولي لغرض إبدال النظام بنظام ديمقراطي برلماني فدرالي مسالم مع الجيران ومنكب على إعادة البناء وترفيه الشعب المسحوق؟! وكيف يجوز الطلب من واشنطن عونها في القضية الفلسطينية ولا يجوز ذلك لقوى شعب تعرض،كالفلسطينيين، للمظالم والدمار، إن لم يكن اكثر ؟!وهل عراق صدام موحد حقا لكي يعرب المزايدون عن خوف مصطنع من تمزيقه لو حصل التغيير الديمقراطي ؟!أم إن سياسة حكامنا ونهجهم العنصري والطائفي قد صدعا الوحدة الوطنية والسيادة الوطنية العراقية بعد ان صار العراق بعد حرب الكويت تحت الوصاية الدولية.
لقد وجدنا العجائب في هذه المواقف العربية المناصرة لنظام دموي والخاذلة لشعب ذي تاريخ مجيد ولبلد كان له ثقله ودوره الكبيران على الساحة الإقليمية.كما نعجب من غرائب ردود الفعل العربية على أحداث 11 سبتمبر، وهي ردود كشفت للعيان، وأكثر من أي وقت، أمراض الفكر والممارسة العربيين السائدين، تلجأ إليه أكثرية النخب من مغالطات ومداورات ولعب بالحقائق وتشويه للمعلومات. فمنذ اللحظات الاولى انطلقت الهلاهل على نطاق الشارع العربي كله تشفيا بما حل بأمريكا من خسائر كبرى، وانبرى دعاتنا ومتفلسفونا بأكثريتهم الساحقة للتفسير و التبرير قائلين إن تلك التفجيرات كانت نتاج السياسات الأمريكية الظالمة ولاسيما لمناصرتها لإسرائيل. ولم يخف الكثيرون انبهارهم بدقة العمليات و"حسن تنظيمها" وتوقيتها. غير انه في الوقت نفسه، وبموازاة ذلك، جرى الترويج لنظرية " مؤامرة أمريكية ـ صهيونية " من وراء الحدث!!! هؤلاء العباقرة لم يسائلوا انفسهم كيف يرقصون طربا لحدث هو من صنع" مؤامرة معادية محاربة العرب والإسلام " !! وبالرغم من اعترافات بن لادن وشركاه، الصريحة منها وغير المباشرة، بمسئوليتهم وتهديدهم بالمزيد من أعمال الإرهاب الوحشية، فإن أصحابنا الأفذاذ راحوا يغالطون ويحاولون عبثا تبرئته. ومنهم من إذا أحرج قال في المجالس إن بن لادن كان صنيعة أمريكية دوما وهو جزء من اللعبة. وقلت لبعضهم :" ولم لا تكتبون ذلك علنا؟" فأسقط في أيديهم.ولكن المغالط يخرج من مغالطة لأخرى دون أن يرق له جفن !ومؤخرا وجدوا ورقة قش في كتاب فرنسي [ تثار تساؤلات حول ظروف ودوافع صدوره !] يتلاعب ببعض الجوانب الفنية الدقيقة للتفجيرات، والتي لا يفهمها أكثرية القراء الساحقة أو ببعض النقاط التي لا تزال تفاصيلها غير واضحة للعلن، ليحاول هو الآخر البرهنة،[كما يتصور ]، على نظرية المؤامرة.فرأينا مثقفين من اتجاهات مختلفة يرددون مغالطات الكتاب كحقائق مسلمة متجاهلين عشرات الادلة الدامغة على مسئولية القاعدة، ومنها اعترافات زعمائها أنفسهم.
لقد دمغت "القاعدة " نفسها بالعمليات الإرهابية التي أساءت للعرب والمسلمين أكبر إساءة والأكثر فداحة وسوء عواقب. لم تكن دوافعهم فلسطينية أو لصالح الشعب العراقي، وإنما سعيا للسلطة في إمبراطورية إسلامية متخلفة وهمجية على نمط الطالبان، حيث المرأة مجرد رقيق، والناس محرومون من وسائل الثقافة والحضارة ومن الحريات الشخصية ومن كرمة الإنسان.وهذه الزمر المتطرفة تكفّر لا اليهود والمسيحيين والهندوس وغيرهم من غير المسلمين وحسب، بل وتعتبر جميع المسلمين الآخرين كفارا [ المسلمين غير المتّقين كما عبر سيد قطب ]، وهم يحاربون أمريكا لأنهم اعتبروها عائقا أمام قيام إمبراطوريتهم المنشودة.ودعا شركاء بن لادن علنا من الفضائية القطرية المعروفة إلى قتل كل أمريكي وأينما كان! ومؤخرا ينزلق رجل دين لبناني ليدين حوار المعارضة العراقية مع أمريكا " الكافرة " كما وصفها !!
إن أصوات الكثيرين من الكتاب والدعاة و"أمراء " الدين ترتفع بصخب ضد ما تعتبره حرب الغرب على الإسلام والمسلمي. ومنذ ان أصدر فوكوياما وهننغتون دراساتهما عن صراع الحضارات زادت هذه الأصوات الهائجة صخبا وهيجانا، علما بان مفكرين غربيين هم أول من تصدوا لنظرية هننغتون وأفكار فوكوياما. وإذا ليس مستطاعا إنكار وجود تيارات متعصبة وعنصرية في الغرب، فإن الصحيح أنها ليست بالتيارات السائدة في المجتمعات الغربية، في حين ان الدعاة الحقيقيين لحرب الأديان هم المتطرفون من الإسلاميين الذين يكفّرون غير المسلمين ومخالفيهم من العرب والمسلمين. وعندما يدعو مساعدو بن لادن علنا لقتل كل أمريكي فكيف لا يؤثر ذلك على مشاعر الأمريكي البسيط والمسالم ؟
إن ثمة ازدواجية مثيرة في منطق المؤدلجين من مختلف المدارس في الموقف من الغرب. فالملايين من العرب والمسلمين لاجئون في امريكا وبقية الدول الغربية، ويتلقون، مع عائلاتهم،مساعداتها الاجتماعية السخية، وهم يشتغلون ويتجنسون. وثمة آلاف جديدة في كل يوم تحاول الوصول بكل طريقة إلى لندن أو باريس أو السويد أو هولندا أو أمريكا وكندا، وغيرها. ومع ذلك فنحن
نشتم هذا الغرب نفسه الذي نتنفس فيه بحرية في حين تنقضّ اكثر الأنظمة العربية على حرية المواطن وكرامته. ويهاجم متطرفونا ومعظم مثقفينا العولمة بوصفها غزوا واستعمارا أمريكيين، بينما يتمتع الجميع ببركات هذه العولمة نفسها، ويستخدمها الإرهابيون للتدمير ولإبلاغ العالم رسالتهم الجاهلية الظلامية الدموية باسم الإسلام. إنهم يستخدمون الفضائيات والانترنيت والحاسوب، ويركبون الطائرات، بل ويدلون بتصريحاتهم من الشاشات الغربية نفسها؛ ومع ذلك يشتمون، ويبشعون، ويخوّفون، ويحذرون !!ولابد هنا من التمييز بين الشرائح المحتجة على العولمة في الغرب وبين دعاة الحرب عليها من أسرى الإيولوجيات المغلقة. ففي الغرب، ورغم نشاط فئات من الفوضويين والعنفيي وتشنج بعض اليسار بكراهية أمريكا، فإن أكثرية المحتجين يدعون للعدالة والى التوازن والعدل في توزيع ثمار التقدم التقني الهائل.
إن العولمة لا تقاوم لأننا نعيشها كل يوم وساعة ودقيقة، ونشربها، و نتنفسها. ولكن المطلوب هو العمل لنشر العدل الاجتماعي في هذه العولمة ومساعدة البلدان النامية الأكثر فقرا، ورفع مستويات معيشة الشغيلة في البلدان الغربية نفسها، والمطالبة بواجبات واحدة للدول الكبرى في مواجهة مشاكل البيئة والجريمة وديون العالم الثالث وأنظمة الإبادة العرقية والفاشية، وغيرها من كبريات مشاكل اليوم. إن هذه الازدواجية في التعامل مع الغرب مثال للازدواجية السائدة بين النخب العربية المهيمنة على وسائل الاتصال وعلى السلطة السياسية. ومثال صارخ آخر هو تباكي الدعاة والعديد من الحكومات على معتقلي الطالبان والقاعدة، بينما يتجاهلون المعتقلين والسجناء السياسيين الذين يعذبون في زنزانات الأنظمة العربية والمسلمة وهم بمئات الآلاف.وكان الأستاذ عبد الرحمن الراشد على كل الحق في التنبيه إلى هذه الازدواجية المرائية جدا.
ان النخب الفكرية في المنطقة العربية تضل الطريق وتتنكر لرسالتها إذا اعتبرت أن واجبها هو تشجيع الغوغائية وأنظمة الاستبداد ومجاراة غرائز الناس الطيبين المحبطين. بل إن المفكر والمثقف بوجه عام سيقعان أسرى تثقيفهم ودعايتهم عندما يستحوذان على مشاعر وأفكار الجمهور الواسع. فغالبا ما نجد مثقفين يزايدون على أنفسهم وعلى الشارع المتخلف والمتحمس والملتهب عاطفيا، فتصبح العلاقة بين النخبة الفكرية والجمهور في دوامة لا تنتهي من التأثير والتأثر. وحماس الجماهير لا يصلح دائما معيارا للصواب والخطأ. ونعرف جميعا أن الشارع الألماني الشعبي هو الذي حمل للسلطة هتلر. كما نذكر حماس الشارع العربي لهتلر وفتوحاته العدوانية وذلك نكاية بالسياسة البريطانية عهد ذاك. ولكن هل كان ذلك الحماس مبررا؟؟ وهل كراهية سياسة الدولة التي كانت تستعمرنا تبرر التصفيق والتهليل للوحش النازي الضاري الذي لم يكن يكنّ للعرب غير التظاهر المرائي بالعطف ؟ وهل فعلت قيادة الحاج أمين الحسيني خيرا بالتحالف مع النازية والفاشية الإيطالية ورفض المشروع البريطاني [ 1937 ـ 1939 ] بالموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة مع منح اليهود حكما ذاتيا، على أن لا يزيد عددهم عن العشرين بالمائة من مجموع السكان ؟
إن من السهل للنخب الفكرية والسياسية تملق عواطف الجماهير جراء الإحباط المبرر وذلك بحثا عن شعبية مؤقتة ومهزوزة. غير ان واجب النخب، والفكرية منها بالذات، هو إرشاد الجماهير وتوجيهها الصحيح، والتفكير في مصالحها البعيدة الأمد لا في تغذية وتأجيج الحماس وحسب إلا إذا كان حماسا لقضية عادلة ولموقف عقلاني مناسب للمقتضيات ولموازين القوى ومجمل الأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية.لقد أخطأ الكثيرون منا في تبني شعارات ومواقف سياسية متهورة ألحقت الضرر الكبير. كما عانت الحياتان السياسية والثقافية كثيرا جدا من سيادة ثقافة العنف ورفض الحوار والتسامح، والنقد الهادئ والمبرر،ومن عقلية " المؤامرة " إياها.
إن في مقدمة الظروف المخففة للأخطاء والخطايا والمفسرة لها هو حرمان البلدان العربية من الحياة الديمقراطية الصحيحة بسبب تسلط الأنظمة،خصوصا ذات الشعارات القومية المفخمة التي كانت سبيلا لقيام الشموليات العربية، وفرض نظام الحزب الواحد والقائد الواحد. وإذا كان وضع الفكر العربي الراهن، بفروعه [السياسي والديني والاجتماعي والثقافي ـ الفكري] بائسا ويبعث على الرثاء وعلى الكثير من الإحباط، فإن وجود شرائح من النخب الثقافية الشجاعة والمتنورة قد يكون بصيص الضوء في العتمة القاتمة.

ان شعوب المنطقة العربية ستظل هامشية وفي آخر الموكب العالمي في مختلف النواحي ما لم تمتلك نخبها المنقاة جرأة الدفاع عن الصحيح ورد موجة التجهيل الظلامي وثقافة العنف والتعصب والتقوقع، التي تغزو العالمين العربي والإسلامي. ولا تقدم ولا مكانة فاعلة لهذه الشعوب من دون إزاحة أنظمة القهر والفساد، و سيادة الديمقراطية، وروح الحوار والتسامح، والاحترام الصارم للمواطن وحقوقه وكرامته، وغرس ذلك في ثقافتنا وسلوكنا منذ الطفولة وفي برامج التعليم على مختلف
المستويات. وهذه في رأيي هي المعايير التي تحدد اليوم لدينا معاني ومصطلحات الوطنية، والأصالة، والتقدم، مقابل الموميائي الموروث من العصور الحجرية الأولى!
(أواخر آب 2002 )

الدولة الديموقراطية علمانية..
(إيلاف: الاثنين 13 يناير 2003 )

تعرض مفهوم العلمانية في العالم العربي إلى تحريف وتشويه كبيرين. ولا تزال مختلف مدارس الإسلام السياسي تعمل على عملية التحريف والتشويه هذه. إنها تعرض العلمانية كمبدأ وتطبيق في الحكم وكأنها طمس الدين ومحاربته. إنها تدعي أن مصطلح العلمانية، لكونه غربيا، يمثل" تآمرا "غربيا لطعن الإسلام وتحطيمه. ومن أجل البرهنة على صواب تفسيرهم يعرضون لإسلام بوصفه دينا ونظام حكم.
والحال، إنه إذا كان المفهوم غربيا[ شأنه شأن مفاهيم الديمقراطية البرلمانية وحقوق الإنسان]، فإن هذا بحد ذاته لا يعني لا "مؤامرة " ولا "غزوا "فكريا وسياسيا. إنه كشأن مفاهيم صالحة أخرى صالحة للبشرية على اختلاف البلدان والظروف والأديان والملل، دون نفي لتنوع سبل وصيغ التطبيق. وكما أن الإسلاميين لا يجدون غضاضة في استخدام آخر منجزات الغرب في الحقلين العلمي والتكنولوجي، دون أن يؤدي ذلك إلى التخلي عن الهوية الثقافية أو الانتماء الديني. ونجد الإرهابيين أنفسهم يرسلون شفراتهم وتعليماتهم السرية من خلال الأنترنيت الذي ليس اختراعا إسلاميا ! فالاستفادة المرنة من تجارب الديمقراطية الغربية وما قامت عليه من أسس فكرية، لا يساوي التبعية أو الذوبان في الآخرين.
إن العلمانية تعني ببساطة فصل السلطتين الدينية والسياسية، مع ضمان احترام جميع المعتقدات الدينية والهويّات الثقافية والروحية للشعوب والمجتمعات. إنها تعني أن الدولة هي دولة قانون واحد يسري على جميع المواطنين حقوقا وواجبات بصرف النظر عن الدين والطائفة والعرق. إنها دولة المواطنة والمواطن، لا دولة مواطنين بدرجات [مسلم وذمي وكافر!] إنها الدولة التي تكتب على بطاقة هوية مواطنها جنسيتها دون تخصيص دين من الأديان أو طائفة ما.
لقد كان الفرعون المصري، والإمبراطوران الساساني والروماني يضفون على أنفسهم وتسلطهم الاستبدادي صبغة دينية "إلهية" لضمان تثبيت التسلط وقمع الصوت الآخر وغزو الشعوب. وهكذا أيضا فعلت كنيسة القرون الوسطى في اوروبا حتى عشية الثورتين الإنجليزية والفرنسية. وباسم الدين نصبت محاكم التفتيش للمفكرين والعلماء بحجة محاربة الإلحاد، ونكلت بالنساء بتهمة السحر! وكانت الكنيسة تدعو إلى " تنصير" العلوم والآداب والفنون كما يفعل إسلاميو اليوم من خلال دعوة "الأسلمة ". وباسم الدين شُنت الحروب الصليبية التي كانت تبيد لا المسلمين وحدهم، بل وكذلك المسيحيين الشرقيين واليهود. كانت حروبا تمزج البعدين السياسي والديني من مواقع شهوة الفتح والتعصب الديني الأعمى. وقد سار الخلفاء الأمويون والعباسيون على نمط حكم مماثل، مستندين إلى فقهاء الدين من وعاظ الخلفاء، وإلى قصائد شعراء المديح من المرتزقة والملوثين بالتعصب، السياسي أو الديني أو المذهبي.
وقد تعرضت نزعات ومدارس الخلط الإسلامية بين السلطتين الدينية والسياسية إلى نقد المفكرين العرب التنويريين الشجعان، أكثر من ذلك فقد تصدى لها بالنقد الجريء رجل دين مصري هو المفكر والعالم علي عبد الرازق في كتابه الفريد " الإسلام وأصول الحكم " الصادر في أواسط العشرينات الماضية. فقد فتح الكتاب بوضوح علمي وشجاعة فكرية وأخلاقية ملف تخطئة الادعاء بان الإسلام دين ودولة، مؤكدا وبالأدلة على أن الخلافة كانت خيارا بشريا لا إلهيا، وعلى أن القرآن لم ينص على شكل معين من أشكال الحكم والسلطة السياسية. وقد تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة ضارية من علماء الأزهر ومن الكتاب والساسة المحافظين، وعزلوا الشيخ المؤلف من كل وظائفه وشهروا به [وإن لم يقتلوه، ولله الحمد، كما قتل فرج فودة وغيره بعد عقود من السنين وفي مصر نفسها.] وكانت حيثيات قرارات الأزهر وأفكار رشيد رضا من أسس انطلاق الحركة الأصولية السياسية، أي الساعية لأخذ السلطة السياسية تحت شعار الدين. وتمثلت الحركة في تنظيم "الإخوان المسلمين" الذي تأسس في أواخر العشرينات من القرن الماضي. وتفرعت من حركة الإخوان مع سيد قطب والدعاة مثله مدارس التعصب الديني الجامح والعنفي الإرهابي، التي تكُفر جميع المجتمعات والدول غير المسلمة، بل وتكفر المجتمعات العربية نفسها داعية إلى تطهيرها من "المسلمين غير المؤمنين "!!
وثمة مدارس تشدد ديني أخرى قامت قبل الإخوان في جزيرة العرب. ومن بين مختلف هذه المدارس الإسلامية المتعصبة نشأت بعض الجماعات والتيارات الأكثر تطرفا، والتي تمارس العنف الدموي لتحقيق هدف "قيام الدولة الدينية الكبرى" أو "دولة الخلافة الإسلامية" بطرق القتل والذبح والتدمير. وما حركة بن لادن ـ الظواهري وشبكاتهما الإرهابية التي تزرع الموت في كل مكان إلا التجسيد الأعمى لما يمكن أن يؤدي إليه التطرف الديني النازع لأخذ السلطة السياسية. وقد ابتلى العرب و العالم الإسلامي وخارجه بهذه المدارس الدموية التي تقدس الموت في نفوس الشباب الضائع، مسيئة للدين نفسه ولسمعة المسلمين في العالم، و ناشرة راية الإرهاب والابتزاز، ومدعية أنها الناطقة باسم الله وأن من عداها كفار يجب اجتثاثهم اجتثاثا. وهم يستغلون لمآربهم السياسية المتسترة قضايا عربية عادلة كالقضية الفلسطينية التي يرون حلها بإبادة يهود العالم وفلسطين معهم !
صحيح أن مدارس الإسلام السياسي ليست واحدة في الممارسة السياسية والاجتماعية، وهو ما يجب عدم إغفاله، وأقصد أن هناك المعتدلين الذين يعلنون قبولهم بالبرلمانية وبخيار الاقتراع الشعبي. غير أن القاسم المشترك الأعظم بين مختلف مدارس الإسلام السياسي وتياراته هو الاعتقاد بوحدة الدين والسلطة السياسية، مع تباين التكتيك للوصول لذلك الهدف. وبهذا الصدد يقول المفكر المصري محمد أحمد خلف الله إن القرآن لم يستخدم كلمة "دولة" ولا كلمة حكم بمعنى السلطة السياسية التي تدار بها شؤون الحياة في المجتمع. ونفى القرآن أن يكون النبي ملكا وأصر دوما على كونه النبي الرسول. وقد انتهى ذلك الوضع مع وفاة الرسول الكريم "، وليس هناك من رجعة " كما يقول الكاتب. أما نظام الخلافة فقد " كان نظاما مدنيا أنتجه العقل البشري "ومن حق هذا العقل أن ينهيه، وأن يختار نظاما آخر يحل محله.... إن الوقائع والأحداث هي التي توحي بالنظام الذي يحل المشكلات ويرتفع بمستوى الحياة إلى ما هو أفضل.. " [محمد أحمد خلف الله ]. وقد جرى زج السياسة بالدين منذ زمن عثمان فالإمام علي وهو ما أدى للكوارث في التاريخ العربي ـ الإسلامي. أما الخلفاء الأمويون والعباسيون وغيرهم فقد اضطهدوا، مدعومين بفريق من رجال الدين] مفكرين أحرارا كانت لهم اعتراضات على أساليب الحكم. وقد سجنوا وأعدموا بتهمة "الزندقة ".
إن إقحام الدين بشؤون الدولة يؤدي إلى ضرب حق الشعب في خياراته لإدارة حياة مجتمعه ويشجع على التمييز الديني والطائفي والعرقي، ويخرس بالقوة المعارضين والمخالفين بحجة أنهم يشذون ومارقون عن الدين. إن الخلط بين السلطتين ومؤسساتهما يسيء لكلتيهما. فالمعتقدات الدينية أمور خاصة بالفرد المواطن الذي يجب أن يمارس معتقده الديني بحرية تامة كحق من حقوق المواطنة، ولابد من احترام المؤسسات الدينية لتقوم بوظائفها الدينية بين الناس، لا كما فعل الاتحاد السوفيتي وسائر الدول الاشتراكية السابقة بمطاردة ومنع رجال الدين والمؤسسات الدينية. فالدول الغربية التي تفصل السياسة عن الدين لا تلغي الدين ومؤسسات الكنيسة التي تمارس في بعضها نفوذا كبيرا بين المواطنين. ومن رجالات الدول الديمقراطية الغربية أناس مؤمنون ويحضرون القداس بانتظام. والحديث هنا هو عن علمانية حقيقة غير مبتورة أو ناقصة مشوهة كما يحدث في بعض الدول العربية والإسلامية، مثلما تُمارَس أحيانا ديمقراطية شكلية وصورية، وهو ما يستخدمه الإسلام السياسي للطعن في الديموقراطية والعلمانية. إنه لا يجب محاسبة
العلمانية على أخطاء التطبيق وتشوهاته. ففي تركيا توجد العلمانية ولكنها غير ديمقراطية، فالعلمانية الحقيقية يجب ان تكون ديمقراطية. وقدتقع أخطاء أو انتهاكات في الدول الديمقراطية العريقة نفسها، ولكنها تعالج لوجود الشفافية ولدور المجتمع المدني وحريات الصحافة والتعبير والنشر، ونظرا لما وصل إليه المواطنون من وعي بحقوقهم وإمكان محاسبة الحكومات أمام البرلمانات التي تنتخب بحرية، ولوجود السلطة القانونية المستقلة ـ وهذا وضع يختلف تماما عن أوضاع دول الدكتاتوريات العسكرية والشمولية وعن الدول ذات الحكم الإسلامي كما في السودان مثلا، وبالأمس في أفغانستان. بل حتى في دول عربية أخرى لا تعتبر نفسها دولا دينية بل مدنية، نجد أنه عندما يتدخل رجال الدين في شؤون الثقافة والتعليم والحياة الاجتماعية، يختنق التعليم، وتضطهد المرأة بقسوة، وتحارب الثقافة العلمية، ويداس على حرية المواطن. ولدينا من الأمثلة الحديثة حالات فرج فودة ونجيب محفوظ ونصر حامد أبي زيد، وسلسلة من الروايات الإبداعية والكتب الأدبية الحديثة والقديمة التي أدانتها فتاوى دينية متزمتة وظلامية بدلا من أن ينشر علماء الدين هؤلاء مفاهيم التسامح وقيم الحرية، وأن يأخذوا من التراث الإسلامي جملة من التعاليم النيرة [مثلا " لا إكراه في الدين"، "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر "، و" جادلهم بالتي هي أحسن "، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وغيرها من آيات وأحاديث وحكم نيرة.] إن الفتاوى الدينية هي التي شجعت فئة من الشباب الجاهل الملغوم فكريا بالترهات على اغتيال فرج فوده ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ. كما أدت الفتاوى الظلامية إلى مظاهرات طلبة الأزهر احتجاجا على رواية سورية نشرت ووزعت قبل الضجة بعشرين سنة، رغم أن أيا من المتظاهرين، وكما نشرت الصحف في حينه، لم يقرا تلك الرواية. أما الحاكم التفتيشي المصري فقد قضى بالتفريق بين المفكر أبي زيد وزوجته بسبب آرائه الاجتهادية.
إن التطرف الديني السياسي يتطور إلى ممارسة اعتيادية للعنف تجاه الآخرين وإلى الإرهاب بمختف أشكاله. وفي العام الماضي صدر في مصر كتاب عنوانه "الدنيا أجمل من الجنة ـ سيرة أصولي مصري ـ" يتضمن اعترافات "أمير" ثانوي من "أمراء" الجماعات الإسلامية المتطرفة هو خالد البري المولود في أسيوط. وهذا الكتاب يلخص تجربة المؤلف منذ بداية شبابه، ويسرد كيفية تجنيده في الجماعات المتطرفة وصولا لمنصب "أمير" بين الطلبة. ففي البداية راح أفراد "الجماعة "من الطلبة يؤلبونه ضد السينما والتلفزيون وضد قراءة كتب غير دينية. ثم تطور وضعه الفكري والأخلاقي إلى ممارسة العنف في المدرسة والجامعة والحي ضد اختلاط أي طالب أو شاب بطالبة مثله، ولو كانت شقيقته هي التي تسير معه في الشارع. كما يسرد المؤلف كيف كانوا يكبتون حرمانهم الجنسي بممارسة العنف ضد المرأة إذا قرروا هم أنها لا تراعي الحشمة الإسلامية. كان ما يتلقونه هو ان الدين جلباب قصير وتحته السروال، وهو اللحية والتمسك بالجزئيات من الدين، مغلبين منطق "الحرام والحلال ". كانوا ينقضون على الناس بالجنازير والأسلحة البيضاء وهم يرددون "الله أكبر "! كانوا [وهم غير الفقهاء وغير المتبحرين في علوم الدين] هم الذين يقررون ما هو الحلال وما هو الحرام. إن سيرة خالد البري نموذج للتربية والتثقيف الدينيين المتزمتين اللذين يقودان إلى العنف الفردي فالجماعي. وهذا ما يتجسد بأبشع صوره في شبكات الإرهاب التي قامت وتقوم يوميا بقتل الأبرياء بالجملة : في الجزائر ومصر واليمن ونيويورك وواشنطن وبالي وموسكو، والعاملون على تسميم المدنيين وبلا تمييز بالسموم وقتلهم بالأسلحة الكيميائية. وفي كل يوم حدث وفي كل يوم اعتقالات لعرب جزائريين، ومصريين، وخليجيين، ولمسلمين باكستانيين، وسود، وغيرهم. ومع ذلك ترتفع صرخات النفاق الزاعمة أن العالم كله "يتآمر "على الإسلام والمسلمين ! وينهمك علماء الدين في توسيع دائرة الحرام و"البدع الضالة "لحد تحريم استعمال المرأة المسلمة لكريم الوجه في رمضان حتى ولو تزينت لزوجها. ثم اختلاف في الاجتهاد عن جواز أو عدم جواز الاحتفال بالعام الميلادي الجديد. وصار علماء الفتوى في الأزهر وغيرهم يصدرون الفتاوى بوجوب حيازة الدول العربية والإسلامية على القنبلة النووية في الوقت الذي تجري فيه حملة دولية ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل. فهل عدم حيازة العرب على القنبلة النووية هو سبب الهزائم العربية والضعف العربي أمام إسرائيل والغرب ؟أم الأسباب هي الاستبداد السياسي للأنظمة، وفشل عمليات التنمية، وتهميش المرأة، والأمية العربية التي تبلغ اليوم سبعين مليونا من السكان، والتخلف الحضاري والإصرار عليه باسم "الأصالة "، والتشبث باعتبار الماضي كاملا ويجب العودة إليه باسم "الدولة الدينية "أو" دولة الخلافة الإسلامية "، وما تحويه مناهج التعليم الديني من روح التزمت والتعصب، ونشر ثقافة التكفير والعنف وعدم التسامح واحترام الرأي الآخر والمعتقد الآخر، ومحاربة الفكر العلمي النقدي ؟؟ وفي ما يخص دور الأنظمة العربية وخنق أكثرها لحقوق الشعب وحرياته، وتغييبها للمجتمع المدني فهو ليس بحاجة لمزيد من التوضيح لان هذه الأنظمة تشجع في بعض الأحيان رجال الدين على التدخل في شؤون الدولة لكسب غوغائية الشارع، وأحيانا قد تتعمد حكومات بعينها تصدير الجماعات المتطرفة لخارج بلدانها. وقد أدى فشل التجارب القومية والتيارات الماركسية في الوطن العربي، إضافة للاستبداد السياسي للحكام إلى نشوء مناخ ملائم لنمو وانتشار المدارس الإسلامية المتزمتة والمتطرفة في ظروف استمرار الصراع العربي ـالإسرائيلي. ونذكر كذلك دور السياسة الأمريكية في أواخر السبعينات وفي الثمانينات في تشجيع الإسلام السياسي في وجه قوى اليسار المحلية وفي خلق المصاعب للسوفيت في أفغانستان. وبينما يقوم علماء الغرب كل يوم بمنجزات علمية وتكنولوجية مذهلة يواصل علماء الدين المسلمون انصرافهم لأمور الحلال والحرام، ولمسائل اللبس والزينة والحيض و"الكريم "، وينشر الكثيرون منهم أفكارا عدائية لغير المسلمين باعتبارهم "كفارا"[الكافر عندهم هو غير المسلم]. اما المتطرفون الإسلاميون الفلسطينيون فاهم أولاء يواصلون تدمير القضية يدا بيد مع شارون، الذي يهلل لما يقومون به من عمليات ضد المدنيين تعطيه الحجج لمواصلة القتل والهدم وسلخ الأرض. وكلا الطرفين لا يريد حل القضية سلميا.
إن المزج بين السلطتين الدينية والسياسية يشجع على تعكير الأجواء والعلاقات بين المسلم وغيره، وبين الطوائف الإسلامية نفسها. وقد كان الشيخ عبد الرازق على حق في تأكيده على أن قوانين المجتمع ونظم الحكم هي من صنع الإنسان لا من تعاليم السماء.
إن الديمقراطية العلمانية هي الطريق السليم للحكم بما يسمح لجميع المواطنين على اختلاف الدين والمذهب والقومية والجنس والانتماء السياسي بممارسة حقوقهم كاملة دون تمييز وبلا تعسف، وبما يجنب المجتمعات التصادم والتناحر الداخليين، وبما يفتح أمام البلدان العربية سبل التقدم العلمي، والتقني، والإبداعي. ومن المقومات والخصائص الكبرى لهذا النظام تمتع المرأة بحقوق متساوية مع الرجل ونسف جميع الأفكار التي تقلل من شأن المرأة وتسيء إلى شخصيتها وكرامتها. فالمرأة هي الضحية الأولى للفكر الديني المتعصب وللإرهاب الإسلامي على النمطين الجزائري والطالبان ـ بن لادن. أما خيار تغييب الديمقراطية والتساهل مع أفكار التزمت الديني و تدخل المؤسسات الدينية في مسائل تشريع القوانين والدساتير، فإنه يعني بقاء الضعف والتخلف العربيين في عالم اليوم الذي لا يرحم من يرفضون العلم والتقدم والديمقراطية.
والخلاصة أن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة وتفاصيل حياة الناس، وأنها مقترنة لا محالة بالديمقراطية وإلا كانت علمانية مشوهة.
وأخيرا فأعتقد أن على الحركات والتنظيمات السياسية الإسلامية التي تعلن قبولها للديموقراطية أن تلغي من شعاراتها ومناهجها هدف إقامة " الدولة الدينية الإسلامية "وأن تدين يكل وضوح جرائم الجماعات الإسلامية المتطرفة بلا مجاملة وبكل حزم. ومن الجهة الأخرى، فمن واجب القوى السياسية العلمانية، التي تدخل لأسباب المصالح العليا للشعب، في تحالفات مع القوى الإسلامية [المعتدلة ]، أن تضمن بكل يقظة عدم تقديم تنازلات سياسية تؤدي في المستقبل إلى حدوث الثغرات في النظام السياسي الديموقراطي. ويصدق ذلك خصوصا على الحالة العراقية اليوم. وقد دلت التجارب في بلدان أخرى على أن أحزابا إسلامية كانت تدعي الإيمان بالديمقراطية ومساواة الجنسين قد تخلت عن هذه الشعارات عندما سنحت لها ظروف مناسبة!


من أجل ديمقراطية علمانية
( أغسطس 2003 )

لقد كتبت عدة مقالات عن هذا الموضوع، ولكنني أعتقد أن هناك حاجة ماسة للتكرار وللتذكير أمام تصاعد موجة التطرف الدي