الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة من أحداث العنف في فرنسا نتابع ماقدمناه في الحلقة السابقة بعد إيجاز سريع لأهم النقاط أدناه : تجربة ينبغي أن تستفيد منها الدول، بعض المخاوف من إنتقال موجة العنف الى دول أخرى، العمل على تعديل القوانين التي تحد من إنتشار أعمال العنف، علاقة أحداث سبتمبر بما يجري في فرنسا، الحملات المستمرة ضد الإسلام، الفشل في التعددية، الجماعات المهاجرة وإنخراطها في المجتمعات، مدى الصعوبة في دمج الثقافات، فكرة إنشاء مرجعيات دينية وماترتب عليها، الحرب على الفقر وعلاقته بالأحداث، الآثار السلبية والإيجابية لأعمال العنف، ضرورة صياغة سياسة أمنية أوروبية موحدة لمواجهة التحديات.

ويمكن تقسيم توجهات وسياسات بعض أعضاء الحكومة الفرنسية الحالية الى نوعين من التوجهات بعضها منظور والبعض الآخر غير منظور أما التوجهات المنظورة فهي تطهير فرنسا من المهاجرين ومايتبع ذلك من ترحيل وسجن وإعتقال الخارجين عن القانون أما التوجهات غير المنظورة وهي تطهير بعض الأحياء من العصابات وتطهير بعض الأحياء من الفقراء.

بعض الوزراء يحتقر المهاجرين ويحاول تطبيق سياسات لترحيلهم وإبعادهم عن البلاد وهي عنصرية بغيضة إذا ماقتلت في مهدها قد تكون مقدمة لحرب أهلية واسعة النطاق ليس في فرنسا فحسب بل قد تشمل القارة الأوروبية بأكملها، كما أن هناك أخطاء أرتكبت من قبل الحكومة بعدم تبني سياسات دمج المهاجرين في المجتمع وكذلك إهمال أبناءهم دون تعليم ودون عمل ودون مأوى وهي تتشدق بالحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية.

على الرغم أن جيل الشباب الغاضب هم من الجيل الثالث والجيل الرابع من أبناء المهاجرين فقد جرى تهميشهم وهذه جاهلية القرن الواحد والعشرين التي تتبنى سياسة التمييز العنصري والكيل بمكيالين ولاتلقي بالاً للبطالة ولاتعمل على محاربة الفقر والجهل والمرض على مستوى العالم أجمع بحجة الإيمان بإختلاف الطبقات بين البشر دون المساعدة على تبني سياسة التقارب والتعاون والتكافل الإجتماعي.

أقر رئيس الحكومة الفرنسية بالتمييز وقال أن هذا التمييز حرم فرنسا من كفاءات مهمة كما ويغذي الشعور بعدم الإنتماء للمجتمع لهذا تبنى طرح مبادرات إقتصادية وإجتماعية من شأنها تحسين أوضاع الضواحي الفقيرة وأكد الرئيس الفرنسي على ذلك بالقول لابد من إنشاء منشآت ذات طابع رياضي وإنشاء منشآت ذات طابع ثقافي ولكن أولوياتنا أن نعيد النظام والقانون وهذا يحتاج الى وقت.

بعد الأحداث إتضح أن تحسين أوضاع جميع الضواحي الفقيرة التي تبين أن الحكومة كانت مقصرة في ذلك أيما تقصير ولهذا طلبت الحكومة مزيداً من الوقت لتبذل مزيداً من الجهد وبدأت تطالب الجميع بالعمل على مبدأ التسامح الديني والإجتماعي وبدأت تتبنى سياسات لمكافحة كل أنواع التفرقة.

وعودة الى المهاجرين نجد أنهم من جماعات وأصول وجنسيات وديانات مختلفة فمنهم ذوي الأصول العربية سواء كانت مغاربية أوغيرها أو من ذوي اصول إسلامية أو إفريقية التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة وما أثار المشكلة حقاً هو تصريحات وزير الداخلية الذي وصفهم بالحثالة وهنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي، هل المهاجرين مرتبطين بالبلد الأصل ؟ إن الإرتباط لابد منه ولهذا دعا رجب طيب أردوغان الأتراك المقيمين في فرنسا عدم المشاركة في أعمال العنف وكذلك دعا د.يوسف القرضاوي المسلمين بعدم المشاركة في أعمال العنف وحث على التفاهم لحل المشكلات ومعالجة أسبابها الحقيقية.

ومن ينظر الى الأحداث بنظرة ثاقبة يتضح له أن ما يحدث في الضواحي والمدن بأنها أعمال تخريبية وإجرامية لا تستند إلى مرجعية دينية أو سياسية أو فلسفية، ولكن هذا لايعني تجاهل المشاكل التي تعاني منها الضواحي المهمشة نتيجة غياب مؤسسات الدولة والمرافق الفاعلة مثل المعاهد الكبرى والمؤسسات التعليمية المتخصصة، ولذا نستشهد بما قاله رومانو برودي زعيم المعارضة الإيطالية :quot;لدينا أكبركانتونات أجنبية في محيط العاصمة الإيطالية، وهي عرضة للانفجار في أقرب وقتquot;.

من الطبيعي عندما تحدث الأزمات تزيد التكهنات والإحتمالات والأطراف العديدة التي تريد أن تستغل الأحداث لصالحها ولهذا لا نستبعد محاولات البعض من الربط بين أعمال الشغب والإرهاب والبعض الآخر يركز على الأخطاء الحكومية لأغراض إنتخابية وكثيرة هي الفئات التي تحاول أن تستغل الأحداث لصالحها رغم تفاوت ردود الأفعال إزاء اضطرابات الضواحي بين متفهم لأسباب الانفجار في أوساط أبناء المهاجرين وبين مطالب بتبني الخيار الأمني.

لايمكن أن نختم الحديث عن أحداث العنف في فرنسا دون أن نتطرق الى إستراتيجيات الإندماج وما تحتاجة من ميزانيات ضخمة وبرامج إقتصادية وبرامج ثقافية وبرامج إجتماعية وبرامج دينية وقوانين جديدة ترسخ العدل والمساواة بين طبقات المجتمع ورسم سياسات جديدة تساعد على الإندماج والإنخراط في مجتمع واحد متعدد الثقافات على الأرض الواحدة وترسيخ مباديء التعايش السلمي بين هذه الطبقات كما ينبغي وضع سياسة إصلاح شاملة في مناهج التعليم لتعمق أواصر الوحدة وإنصهار الثقافات ومبدا قبول الطرف الآخر وعدم التمييز بكل أشكاله.

كذلك لابد من الحديث عن معالجة الخلل في التوزيع السكاني وتحسين العلاقة مع الجاليات الأجنبية على الرغم من أنها تتطلب وقتا وخططا ومناهج تربوية بعيدة المدى، وأن تحرص هذه الخطط على تبني سياسة عدم إبعاد الطلبة الأجانب بل تحرض على دمجهم حتى يتم الإنصار الكامل في المجتمع وتتلاشى الفوارق الطبقية في العرق والجنس واللون والدين.

بعد أن هدأت الأحداث صدرت العديد من التقارير التي إستبعدت وجود أي تورط للإسلاميين في الاضطرابات التي شهدتها الضواحي الفرنسية خلال ثلاثة أسابيع، وتم التأكيد في هذه التقارير على أن الأحداث كانت شكلا من أشكال التمرد غير المنظم مع إنبثاق ثورة شعبية بدون زعامة ولا برنامج بشكل محدود في عدد من الأحياء كرد فعل لبعض التصريحات.

وركزت بعض التقارير على أن شبان الأحياء الشعبية كان لديهم إحساس كبير بالانتماء إلى هوية لا تستند فقط إلى أصولهم العرقية أو الجغرافية بل أيضا لأوضاعهم الاجتماعية المهمشة في المجتمع الفرنسي التي كانت منشغلة كثيرا بتنامي quot;التيار الإسلامي والإرهابquot; إلى حد أنها أهملت مشكلة الضواحي المعقدة كما أقر وزير الداخلية بوجود quot;عنصرية وتمييز وانعدام المساواةquot;، لكنه أكد أنه لن يكون من الممكن النهوض بالضواحي quot;طالما تهيمن عليها المافياتquot;.

السياسة الفرنسية الداخلية مطالبة بمواجهة الواقع القائم على الأرض وعدم غض الطرف، فالفرنسيون لم يعودوا قادرين على فهم ما يحدث من تدهور أمني، فقد إنطلقت الشرارة الأولى لأحداث الضواحي من كلمات غير موزونة قالها وزير ووصف بها الأحداث الجارية التي تعبر في حقيقة الأمر عن موقف إجتماعي سيئ لأن الشباب يعاني من البطالة والرسوب الدراسي وعدم احترام هويته وشخصيته، فتفجر كل ذلك وأخذ في الانتشار من ضاحية واحدة إلى كل ضواحي باريس ثم إلى مدن أخرى.

وكانت لجنة مكافحة التعذيب التابعة للأمم المتحدة قد وصفت قرار فرنسا ترحيل الأجانب المدانين بالتورط في أحداث العنف التي شهدتها الضواحي الباريسية بأنه إجراء تمييزي، وطالبت بعدم استخدام الترحيل كإجراء عقابي واعتبرت أن إجراء الطرد quot;تمييزاquot; لأنه لا يستهدف فقط الأجانب الذين لا يحظون بوضع إداري شرعي وإنما يستهدف أيضا quot;فرنسيين حصلوا على الجنسية الفرنسية وجردوا منها بقرار قضائي وأجانب مقيمين بشكل شرعي في فرنسا.

مصطفى الغريب

ndash; شيكاغو

الحلقة الثانية