عيناي، يقولون، حدقتا زمن مخضوضر الجوانب، ووجهي التماع ضوء على بلور قصر. ربة آلهة.. من يدري؟ فالأساطير تزخر بحكايات الحسان ذوات القدود المياسة والعيون الناعسة.
سحرت النواظر وفتنتها، فتهافت علي العشاق المتيمون، هذا يستدر عطفي، وذاك يعرض على بساطي بضاعته الماسية المسيلة للعاب، فرفضتهم جميعاً، وأبى خافقي الإنصياع إليهم، فأنا لا أُشترى إلا بنجمة وكوكب.
غرفة نومي تعشقها الشمس، وتأبى إلا أن تشاطرني سريري، تصحو معي كل صباح على صياح ديك أرعن، وتنام، حين أنام، على زقزقات عصافير آيبة إلى قرميدي بعد نهار شاق وطويل.
ولدت في ليلة القدر، فزغرد الكون لمجيئي وهلل. إن انفرجت شفتان عن ابتسامة اعجاب، تأكدوا أنها لي، فلا الزمن يكرّ وينقضي إلا بإشارة مني، ولا مجتمع يقوم ويزدهر بدوني. أنا هي سلمى، ابنة المليونير وجيه بك، فساتيني مستوردة من لندن وباريس وروما، وجواهري صنعت في هونكونغ. جميلة ومثيرة وشقية، ولكنني لم أمارس الجنس مطلقاً، ولم يقبل فمي غير أمي، التي ماتت وأنا بعد مراهقة، لم أقطف من السنين إلا سبع عشرة زهرة، فأحسست بفراغ رهيب يحيط بي، ويحاول خنقي بيديه الضجرتين، فلجأت إلى الكتابة والقراءة والموسيقى حتى شلّع النسيان طيف أمي.
ـ تعالي يا سلمى، جأر أبي، ذات ليلة، وكان في حالة سكر شديد.
ـ ما بك يا أبي؟
ـ تعالي نستلقِ معاً..
ـ ماذا تقول يا أبي.. نم، أرجوك؟
ـ قلت لك تعالي، ما بك جامدة كأبي الهول؟ أود أن أطفىء لهيبي في بئر جاذبيتك، أنت الحورية التي أحببت وانتقيت، أنت الصورة التي رسمت في خيالي مذ كنت طفلاً، اقتربي يا أميرتي، ففراشي دافىء وحرارتي مرتفعة.
ـ اسكت يا أبي، أرجوك، اتقِ شرّ الفضيحة..
وصفقت باب غرفته، ورحت أعدو باتجاه غرفة الاستقبال، ظناً مني بأنه لن يلحقني إلى هناك، إلى الكنبة المزدوجة، حيث افترسني بضراوة، غير عابىء ببكائي وأنيني، أو بالدماء المسفوحة على فخذيّ.
أبي لم يرتوِ بعد.. إنه يطلب المزيد، وكأنه يلعق ثدي امرأة اشتراها بماله. أنا ابنته، ما هم. أنا عشيقته، ما هم. أنا أم طفله الجنين، أنا أم أخي.. أواه، ماذا أفعل؟ أأنتحر؟ أأتقدم بشكوى ضد والدي صاحب المركز الاجتماعي والسياسي والمالي المرموق؟ أأهرب منه، وما لي غير مسكنه مسكناً؟ أم ماذا؟ أنا ضائعة، ضائعة، أعني يا رب وارحمني.
الساعة الثامنة مساءً تعلن قدومها، وقلبي يدق، يخفق ويرتعش، وكأس الويسكي تقترب من شفتيّ أبي، وأبي يقترب مني ببطء مقرف. ها هو يحضنني، يعصرني بزنديه، ويحملني إلى فراش اللعنة:
ـ لا تفتعل بي يا أبي، أنا ابنتك سلمى، إنك تؤذيني، تؤلمني، تبكي عينيّ اللتين تغزّلت بهما في طفولتي. أنت مجرم، ظالم، سفّاح، قم عني وإلاّ خنقتك، أحذّرك، ستدفع ثمن هذه الرعشة التي تعتريك الآن، خذ..
قتلت أبي، وسلّمت نفسي للعدالة، وطلبت من المحقّق أن تُجرى لي عملية إجهاض سريعة، ومحاكمة سرية، كي لا ألطخ سمعتي وسمعة والدي، نظراً لمكانته الاجتماعية، فوافق، شرط أن أدعوه إلى قصري، بعد انتهاء التحقيق، لارتشاف فنجان من القهوة الحلوة، على حد تعبيره.
وكم كانت دهشتي عظيمة حين قرأ عليّ تقريراً، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، فلقد ادعى أن لصاً دخل القصر، وسرق بعض المال والجواهر، وعندما تصدّى له أبي قتله اللص بسكين جلبها من المطبخ. عندئذ أدركت أنني اشتريت براءتي بفنجان قهوة.
المحقّق العجوز يدلف عتبة قصري، ورائحة الطيب تنبعث منه كما تنبعث من شعر عانس، طيّبته لتلفت أنفاس الرجال إليه:
ـ كيف حال حوريتي الجميلة؟
ـ أجب على سؤالي في الحال؟
ـ لم أتلقَّ السؤال بعد؟
ـ لماذا أطلقتني حرة؟
ـ لأنني حر..
ـ لا تراوغ.. قل لي: ماذا تريد؟
ـ أريدك أنت..
ـ هكذا، بكل وقاحة..
ـ الحرية مكلفة يا عزيزتي.. مكلفة جداً..
ـ أخاف أن لا ترتوي بليلة واحدة..
ـ فلنجرّب..
ـ تعال غداً..
ـ الآن..
ـ إذن، إخلع ثيابك، أسرع.. أجل هكذا.. حقاً إنك لعجوز شاب، ارتجف، ارتجف أكثر، ولكن إياك أن تقذف بداخلي، فطهر أحشائي لن يدنّسه رجل بعد اليوم.
في الصباح، حزمت حقائبي وغادرت ذكريات مشينة ومؤلمة، كان بعثرها أبي في زوايا القصر، حاولت أن أتخلص منها، أن أدوس عليها وأمشي، ولكن المحقّق أعاد بعثرتها من جديد، فقررت الهرب من بلد أبوّته ظالمة، وعدالته ظالمة، والارتماء في المجهول، علني أحظى بلذة البراءة.