قد درسنا في التاريخ الإسلامي أن الجيوش العربية اكتسحت كل الممالك المحيطة بها ولم يبتغوا من ذلك غير الشهادة في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمته. وقد قال لهم الله : " انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ( التوبة 41 ). وفي حديث أنس ابن مالك أن النبي قال: " جاهدوا المشركين بألسنتكم وأنفسكم وأموالكم وأيديكم ". فهل كانت الغزوات فعلاً في سبيل الله ؟
في بداية فترة الرسول في المدينة بدأت الغزوات باعتراض قوافل قريش للحصول على المال اللازم لإقامة دولة المدينة. فكانت غزوة بواط من أول الغزوات، وقال ابن كثير في مختصر السيرة إن الغرض منها كان اعتراض عير قريش التي كان فيها أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير. ثم أتت سرية عبد الله بن جحش فأصابوا أسيرين وعدداً من الإبل، فأعطوا رسول الله الخمس واقتسموا ما تبقى بينهم. ثم سمع الرسول بأبي سفيان قادماً من الشام بأموال قريش، فقال للمسلمين: " هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. " ثم جاء دور اليهود فغزا المسلمون بني القينقاع ثم بني قريظة وبني المصطلق ثم يهود خيبر ووادي القرى. ولم يُسلم من كل اليهود غير خمسة أو ستة أشخاص ليحافظوا على أموالهم. ووضع المسلمون أيديهم على أموال اليهود بعد أن أجلوهم عن المدينة وقتلوا من قتلوا منهم. وكل هذه الغزوات لم تزد عدد المسلمين ولم تنشر دين الله الجديد، ولكنها أثرت المهاجرين الذي أتوا إلى المدينة صفر الأيادي. ويبدو أن المسلمين اكتفوا بما أخذوا من أموال قريش وأموال اليهود ولم تكن شهيتهم للغزوات عظيمة. وقد حثهم الرسول على الغزو غير أنهم تباطؤوا، فأنزل الله عليهم: " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا أثاقلتم إلى الأرض " (التوبة 38). " ألا تنفروا يعذبكم الله عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم " ( التوبة 39). فنرى هنا أن المسلمين الأوائل لم يكن يعنيهم الجهاد في سبيل الله، فقد اكتسبوا مالاً ونخيلاً ومنازلاً كانت لليهود، واكتفوا بذلك. وعندما لم تفلح مساعي الرسول في حثهم على القتال، أنزل الله الآيات التي جعلت القتال فرضاً عليهم، مثل " كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم " ( البقرة 216). وقال لهم الرسول " من مات ولم يغزً مات على نفاق ".
ثم جاء عهد الخلفاء الراشدين وبدأ المسلمون بفتح البلدان المجاورة مثل الشام وبلاد فارس وغنم المسلمون كمية من المال والعبيد لم تكن تخطر لهم على بال. ويقال أن الخليفة عمر لما جاءه المال من بلاد فارس قال للمسلمين: " إنه قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدداً وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً " ( البلاذري: فتوح البلدان ص 505). وفرض عمر لكل رجلٍ وامرأة نصيباً معلوماً من المال، وحتى المولود الجديد فرض له نصيباً. ولما لم تكن هناك حكومة متقدمة تتكفل بنفقات الجيش، بدأ بعض المسلمين باستلاف الأموال لتجهيز نفسه للغزوات، لضمان الرجوع بكميات وافرة من الغنيمة تكفي لسداد الدين وتوفر له ربحاً وجواري، وقد قال المبرد في الكامل في التاريخ إن بكير بن وساج عندما تجهز لغزو ما وراء النهر أنفق نفقة كثيرة واستدان فيها. (الجزء الثاني، ص 286). وكان واضحاً منذ البداية أن الغنيمة كانت هي الدافع الأقوى للاشتراك في هذه الغزوات، فقد ذكر ابن كثير أن أصحاب رسول الله يوم موقعة بدر اختلفوا في الغنيمة، إذ كانت المجموعة التي تحرس الرسول ومنهم سعد بن معاذ، تقول أنها أحق بالغنيمة، والمجموعة الثانية التي كانت تحارب المشركين قالوا إنهم أحق بالغنائم لأنهم الذين أصابوها. وقال عبادة بن الصامت إن آية " الأنفال " نزلت فيهم يوم بدر : " حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله ". وكذلك يوم واقعة " أُحد " عندما أوصى الرسول بعض أصحابه بالوقوف على التل ورمي المشركين بالنبال، وأمرهم ألا يبرحوا مكانهم حتى إن انتصر المسلمون. وفعلاً انتصر المسلمون في البداية وبدأ المشركون بالتراجع، فخشي أهل التل أن تفوتهم الغنائم، فنزلوا من التل يبتغون الغنائم فدارت عليهم الدوائر وانهزموا وهربوا من حول الرسول الذي أُصيب في وجهه بحجر وظل ينزف.
واستمرت الغزوات فغزا عمرو بن العاص مصر سنة عشرين هجرية وغنم أموالاً طائلة وسبايا، وحاول عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزو النوبة ولم يفلح فحالفهم على أن يعطعوا المسلمين عدداً من العبيد كل عام. وغزا عبد الله بن سعد شمال أفريقيا وغنم مالاً كثيراً وسبايا حتى أن الرجل من المسلمين كان نصيبه ألف دينار إذا كان راجلاً وثلاثة آلاف إذا كان فارساً ( شذرات الذهب للدمشقي). وأعطى عثمان بن عفان لعبد الله خمس الأنفال من أفريقيا، وهو الخمس الذي فرضه الله للمساكين. واستمرت غزوات المسلمين حتى نهاية الدولة العباسية فدخلوا السند والهند وبلاد فارس وجنوب الصين، فاجتمعت لهم ثروات كان يصعب عليهم استيعاب مقدارها، وحتى صحابة الرسول الذين حرّم الله عليهم كنز الأموال حينما قال " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يُحمى بها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " كنزوا الأموال الطائلة، ففي طبقات ابن سعد وهو أحد أوثق المصادر في تاريخ صدر الإسلام، بلغت ثروة الزبير بن العوام اثنين وخمسين مليون درهم من النقد وكانت له أملاك في مصر والإسكندرية والكوفة والبصرة والمدينة. وكان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثين مليون درهم ومائة وخمسين ألف دينار. وترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة حصان ومزرعة تسقى بعشرين ناضح ( دابة لسقي المزارع) وذهب مصبوب في سبائك، يقول المسعودي إنه أخرج بعد وفاته إلى مجلس عثمان وكوّم على الأرض فحال بين الجالسين لارتفاعه عليهم. وكانت غلة طلحة من العراق وحده ألف درهم في اليوم وقد ترك من الأموال والعقار ثلاثين مليون درهم. وهؤلاء الأربعة من العشرة المبشرين بالجنة وهم من قادة الصحابة. وينقل صاحب العقد الفريد أن ابن عباس كان يرتدي الرداء بألف درهم ( من قاموس التراث، هادي العلوي ).
والغريب أن كل البلاد التي فتحها المسلمون عنوة، قتلوا رجالها وسبوا نساءها ولم يساوموهم على الإسلام وإعلاء كلمة الله. وقيل أن أبا بكر كان قد أوصاهم أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلاً فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وانهبوا ( الكامل في التاريخ، ج2، ص 217). ويقال إن ابن عامر لما فتح أصطخر قتل فيها مائة ألف ( فتوح البلدان للبلاذري، ص 423) ومحمد بن القاسم قتل 26 ألف هندي في يوم واحد (نفس المصدر ص 487). أما البلاد التي استسلم أهلها دون قتال، فرضوا عليهم الجزية والخراج وأخذوا منهم الجواري، ولم يشترطوا عليهم دخول الإسلام. ولكن الجزية والخراج أرهقاهم. وعندما ولى الخليفة هشام أشرى بن عبد الله السلمي على خراسان ونادى بسقوط الجزية عن من يسلم، سارعوا للإسلام وانكسر الخراج ( البلاذري ص 475). وقد أغضب هذا الخليفة هشام لأن الخراج والجزية كانتا المصدر الرئيسي لأموال الخلفاء العباسيين الذين أصبحت ثرواتهم تفوق الوصف، وحتى ثروات قضاتهم ونسائهم. ويقال إن الخليفة المعتصم غضب على وزيره الفضل بن مروان فأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار ونفاه ( شذرات الذهب للدمشقي). والجزية كانت أهم من نشر الإسلام فقد خطب عمر بن الخطاب فقال: " ومن نعم الله عليكم نعمٌ عم بها بني آدم، ومنها نعمٌ اختص بها أهل دينكم، ثم صارت تلك النعم خواصها وعوامها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم وليس من تلك النعم نعمة وصلت إلي امرئ خاصة إلا لو قُسّم ما وصل إليه منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها، إلا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله، فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتان: أمة مستعبدة للإسلام وأهله، يجزون لكم، يُستصفون معايشهم وكدائحهم ورشح جباهم، عليهم المؤونة ولكم المنفعة، وأمة تنتظر وقائع الله وسطواته في كل يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبا، فليس لهم معقل يلجؤون إليه، ولا مهرب يتقون به( الطبري، ج2، ص574). فالخليفة عمر يقول للمسلمين إن شعوب العالم الباقية إما تظل تكدح وتعرق لتدفع لكم الجزية، وأما تفتحوها عنوة وتقتلونهم ولذلك هم في خوف مستمر. ولم يقل الخليفة عمر للمسلمين هلموا وانشروا الإسلام في بقية دول العالم. ولأهمية الجزية عند المسلمين، صرف الحجاج بن يوسف على غزوة ابن عمه محمد بن القاسم للهند ستين ألف ألف ووجد ما حُمل إليه عشرين ومائة ألف ألف‏.‏ فقال‏:‏ شفينا غيظنا وأدركنا ثأرنا وازددنا ستين ألف ألف درهم‏.‏(فتوح البلدان). فلا الحجاج ولا محمد بن القاسم حاول إدخال الهنود في الإسلام لأن ذلك يفقدهم الجزية والخراج.
فلو كانت الغزوات في سبيل الله لماذا قتل المسلمون أسراهم ولم يحاولوا إدخالهم في الدين الجديد. ولماذا سبوا النساء وجعلوهن من " ما ملكت أيمانكم " بدل أن يعلموهن الإسلام ويطلقون سراحهن؟ وحتى الخليفة أبو بكر عندما شن حروب الردة لإرجاع العرب المرتدين للإسلام، أسر الرجال وسبى النساء وجعلهن ملك يمين إلى أن جاء الخليفة عمر فأطلق سراح الرجال ورد النساء إلى أزواجهن وقبائلهن. ولم نقرأ في أي كتاب تاريخ إسلامي أن المسلمين فتحوا بلداً وقرروا تدريس أهله الإسلام عن طريق التبشير. فهم دائماً كان شرطهم الجزية أو السيف. ويتضح هذا من البلاد التي فتحها المسلمون عنوة مثل الأندلس التي اهتم خلفاؤها بتشييد القصور والحمامات ثم الحروب بينهم أكثر من اهتمامهم بنشر الإسلام. وبعد أن بقوا في الأندلس ثمانمائة سنة، رجع أهلها إلى مسيحيتهم عندما انهزم المسلمون. وبلاد شرق أوربا التي فتحها الأتراك وظلوا بها أربعمائة عام، ولم يفلحوا في زراعة الإسلام بها، ما عدا البوسنا وألبانيا. وينطبق نفس الشئ على جزر البحر الأبيض مثل قبرص وصقلية ورودس، كلها رجعت لمسيحيتها بمجرد أن انهزم المسلمون.
وحتى في أيامنا هذه نرى أن المجاهدين عندما يختطفون شخصاً مسيحياً في العراق، لا يطلبون منه اعتناق الإسلام بل يطلبون مبالغاً خيالية من المال يعجز عنها الأفراد. فيبدو واضحاً من هذا السرد أن الغزوات والجهاد لم تكن في سبيل الله ولنشر الدين الجديد إنما كانت للمال والجواري، وانتشر الإسلام بطرق غير مباشرة لتفادي دفع الجزية والخراج.