كوني نشأت في عائلة محرومة الأخت، رغم تضرعات أبي ونذوره الكثيرة، كي يرزقه الله بنتاً يكحّل عينيه برؤيتها، وتزيّن نصف دزينة من أبنائه، أرى من حقي أن أدافع عن كل ما يمت للأنثى بصلة، كالتاء المربوطة، ونون التأنيث وهي وهن والتي واللواتي وغيرها، لأنها لو وجدت هذه الأنثى في عائلتي لقدستها.

وكان، رحمه الله، يخبرنا أنه أخذ أمي إلى أحد الأديرة، فطلب منها الراهب أن تدور حول حجر في وسط الدير، فإذا علق فستانها بالحجر، فتلك علامة بأن المولود سيكون بنتاً لا محالة، وفجأة علق فستان المرحومة والدتي بالحجر، فصاح والدي من شدة الفرح: أشكرك يا رب، ها قد استجيب دعائي.. وراحت أمي تزغرد وترقص، ويرقص الجنين بداخلها. وعندما دقت ساعة الولادة، أطللت أنا برأسي، وضحكتي رطل، كما أخبرتني جدتي، حتى أنني لم أبكِ، رغم ضربي على قفاي عدة مرات، وبدلاً من أن يحزن والدي تمتم وهو يحملني: فلتكن مشيئتك يا رب، وليكن ابني مباركاً.
هذه القصة أوقعتني بجوع شديد إلى الأخت، ورحت أندب حظي وأتساءل: لماذا حرمت من هذه النعمة؟ ألا يحق لي أن أنادي أجمل مخلوقات الله، وأكثرهن حناناً بيا أختي.. فوالله والله لو كان عندي أخت لحملتها على كتفيّ، ونفذت لها جميع رغباتها، مقابل أن أسمع منها عبارة صغيرة: كيف حالك يا أخي؟
فكرت بحرماني هذا، وأنا أقرأ خبراً مفجعاً مفاده أن أباً في إحدى قرى صعيد مصر طعن بناته الصغيرات السبع بالسكاكين، فأردى سحر وفاطمة وزينب وإسراء، وجرح أميرة وإيمان وعائشة، وكلهن تحت سن الخامسة عشر، وفوق الثالثة.
ولكي يبرر الوالد فتكه المروع ببناته، راح يصيح بصوت عالٍ: أنا لا أحب البنات. وبدلاً من أن يهجر الدار كما فعل زميله الشهير بكره البنات (أبو حمزة العيني)، طرد زوجته من البيت لأنها لم تنجب له ذكراً.. فتأملوا! أبي يصلي ويصوم، ويزور الأديرة، من أجل أن يرزقه الله بنتاً، وأخونا (عبد الناصر) يذبح بناته السبع، لا لشيء، إلا لأنهن بنات.. فأين العدل.. بربكم قولوا؟
وقصة (أبي حمزة العيني) مشهورة في التاريخ العربي، فلقد ترك بيته لأن (أم حمزة) ولدت بنتاً، بعد أن أوصاها على (حمزة)، دون أن يأتي.. فجن جنونه، وما أكثر جنون الرجل العربي، وهجر زوجته، حتى أنه لم يرَ وجه ابنته المشرق الجميل، فما كان من زوجته (أم حمزة)، وهي الشاعرة القديرة، وصاحبة اللسان السليط، إلا أن شرشحته، وشرشحت معه كل رجل على شاكلته، فلقد أنطقها الله تعالى بهذه الأبيات الخالدة:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
ظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألاّ نلد البنينا
تا لله ما ذلك في أيدينا
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا

تصوروا كوناً بدون امرأة، وأطفالاً بدون أم، ورجلاً بدون زوجة، وقيساً بدون ليلى، وعنترة بدون عبلة، وروميو بدون جولييت.. ألا تتبشع الرجولة في هذا الكون، وينتفي الحب، وتتقيأ الطبيعة من منظر اللحى والشوارب والأصوات الخشنة المزعجة؟
عندما جاء الإسلام حرّم وأد البنات، أي أنه أعطاهن الحياة بكل ما فيها من مباهج وحرية، بعد أن سلبت منهن ودفنت بالرمال، وما من عائلة مسلمة، إلا ووهبت إحدى بناتها اسم (فاطمة) فلذة كبد نبينا العربي العظيم، وحبيبة قلبه بدون منازع. كما أن اسم السيّدة مريم العذراء، أم سيدنا المسيح، يطلق علىمعظم كنائس المسيحيين، وعلى العديد من فتياتهم والفتيات المسلمات أيضاً. فلماذا نكره بناتنا؟ ولماذا نحلل ذبحهن؟ ولماذا نعتبر المرأة شبحاً مرعباً وكل ما فيها جميل ومبارك؟
لو أنعم الله علي بمولودة أنثى، لانحنيت أمام سريرها، وقبلت جبينها، وأنشدت على مسمعها ما قاله رشدي المعلوف لكل امرأة على وجه الأرض، بنتاً كانت أم أختاً أم أماً أم زوجة:

ربي سألتك باسمهنّه
أن تفرش الدنيا لهن
بالورد إن سمحت يداك

وبالبنفسج بعدهنّ

حب الحياة بمنّتين
وحبهن بغير منّه

فلولاهن لم نرّ الحياة، ولولاهن لم ننعم بالأحضان الدافئة والحنان الغامر، ولولاهن لم نشعر بالسعادة الحقيقية، فكيف نكرههن، وكيف نقتلهن، وبدونهن نحن أصفار يتيمة لا يحسب لنا حساب؟.
فإلى زهرات صعيد مصر البريئات أقول: أبوكن لم يقتلكن، بل قتلكن المجتمع المتخلف الذي يعيش فيه، وجريمتكن، لا تقع عليه وحده، بل على كل من يعتبر المرأة أحط مخلوقات الله، يجب التخلص منها، رغم كونها الوحيدة التي ساواها به بعملية الخلق، وزرع جنة ثانية في أحشائها، ينمو بها الجنين وينعم. وكما قلت في البداية، فلقد حرمت من الأخت، ولكنني وجدتها فيكن يا حبيبات مصر، فأنتن أخواتي وأخوات كل إنسان حر شريف، فإن رفضكن والدكن، فقد قبلتكن الجنة وفتحت لاستقبالكن ذراعيها، فطبن بلقاء الوالد الأكبر، فبكنفه تتساوى مخلوقاته، ويندثر الظلم ويتلاشى.