منذ صغري وأنا أسمع الناس يحذرون كل مسافر إلى القاهرة من (نشّالي مصر)، حتى أن بعض الأقرباء عندما عرفوا بسفري إلى مصر منذ سنوات، همسوا في أذني، وهم يلتفتون يمنة ويسرة كالخائفين: انتبه يا شربل من نشّالي مصر، إنهم كالبرق، ما أن تراهم حتى يختفوا. ولكنني، وبعد زيارتي لإيطاليا، ولمدينة فلورنسا بالذات، حيث حاولوا نشلي، تغيّرت مفاهيمي ورحت أردد: الصيت للمصريين والنشل للإيطاليين.
وفلورنسا هذه مشهورة جداً بملابسها الجلدية، لذلك نجد أن السيّاح يأتون إليها من أجل شراء ما يلزمهم من الألبسة الجلدية المتينة، بعد أن يكونوا قد متّعوا أعينهم برؤية تمثال داود (دايفيد) الذي نحته وهو في السادسة والعشرين من عمره ابن فلورنسا الفنان الخالد مايكل أنجلو.. واستغرق نحته مدة 3 سنوات، من عام 1501 ولغاية عام 1504.
منذ عدة سنوات تناقلت وكالات الانباء العالمية خبر الإعتداء على التمثال، إذ دخل رجل مهووس إلى متحف فلورنسا وبيده مطرقة، وراح يشبع التمثال ضرباً، فترك خدوشاً كثيرة في جسم التمثال (الحي)، تمكنّوا، والحمد لله، من إصلاحها.. وقديماً قالوا أن (خالقه) مايكل أنجلو أمره أن يتكلّم، وعندما لـم يتكلّم ضربه بالإزميل وصاح: تكلّم يا داود.
من أبناء فلورنسا المشهورين أيضاً الشاعر دانتي (1265ـ 1321)، كاتب الكوميديا الإلهية التي تحتوي على مشهد للجحيم يعتبر من أشد المشاهد تأثيراً. و(غاليلو) الذي اعتذرت من روحه الطاهرة الكنيسة الكاثوليكية لأنها لـم تفهمه في ذلك الوقت، ونكّلت به كما تنكّل الحكومات والجماعات المتطرفّة في دولنا العربية برموزنا الفكرية الرائدة، لأنها لـم تستوعب أفكارها النيّرة المتعارضة مع تزمّتها.
ومسكين من يعتقد أن فلورنسا هي مدينة الكنائس الأثرية فقط، بل أن (السيناغوغا) المعبد اليهودي الذي بناه المهندسون ماريو فالسيني، ماركو تريفر، وفينسو ميتشالي يعتبر من أشهر معالـم فلورنسا الأثرية.. قببه ملبّسة بالنحاس، وشبابيكه مزيّنة برسوم زجاجية رائعة.. وقد استغرق بناؤه سنتين وأكثر. من 1872 ولغاية 1874. وما عليكم سوى زيارة فلورنسا لتعرفوا مدى عظمة هذا المعبد.
أهالي فلورنسا طيّبون للغاية، ولكنهم يعانون، كما نعاني نحن في أستراليا، من التفكّك العائلي.. فلقد نشرت مجلة (بوردا) أن إيطالياً من أصل خمسة يطلّق زوجته لأنها لا تشبه أمه، لا من ناحية المنظر والمظهر، ولا من ناحية الطبخ والكلام. وأن 23% من النساء الإيطاليات يبتعدن عن أزواجهن لأنهم مملّون للغاية. بينما اشتكت 10% من (خيانتهم لهن)، و13% من (غيرتهم المفرطة). كما رفضت 11% منهن التحوّل الى (ربّات بيوت) وفضّلن الاستمرار في العمل والإبتعاد عن أزواجهن (ضغفاء العقول)، والمضحك حقاً أن 4% من هؤلاء النساء لجأن إلى وكالات التعارف على رجال جدد.. وقد تعرّفن من خلال الوكالة على أزواجهن السابقين.. أي من تحت الدلفة لتحت المزراب.
جرائـم السرقة في فلورنسا أقل بكثير من روما.. وإن كانت موجودة بشكل كثيف، تصوّروا أن أحدهم وضع يده في كيس كبير للملبوسات كنت أحمله، وراح يفتّش فيه عن شيء يسرقه، ولو لم أشعر بثقل الكيس، لما أدركت أن نشالاً إيطالياً يغزوه، فصحت بالإنكليزية: ماذا تفعل؟ فتابع سيره وهو يضحك وكأن شيئاً لم يكن.
هذه الحادثة ذكرتني بما أخبرتني إياه إحدى السيدات اللبنانيات يوم زارت الفاتيكان للمشاركة بتطويب القديس نعمة الله الحرديني، وكيف سطا أحد النشالين على حقيبتها بينما كانت تضعها قربها وهي تصلي داخل الكنيسة، ولو لم يسعفها الوفد المرافق مالياً لبقيت بدون مأكل أو مشرب، فلقد سطا (المصلي التقي) على كل ما حملت من مال دفعة واحدة، فتصوروا عظمة إيمان هذا السارق!.
كما أخبرني أحد الأقرباء، أنه أثناء تجوّله في شوارع روما، اقترب منه رجل محترم لا يشك به أحد، وأخبره أنه تعرّض لمحاولة نشل، وأنه جائع وبحاجة لبعض المال كي يشتري (بيتزا) يأكلها، فأشفقت زوجة قريبي على الرجل، وطلبت من زوجها مساعدته، كي يرد الله الضربات والمصائب عن أطفالها، حسب اعتقادها، وما أن سحب قريبي محفظته من جيبه حتى نتشها الرجل من يده وراح يعدو بسرعة الغزال، وزوجة قريبي تصيح: بوليس.. بوليسيا.. وما من مجيب.
أما القصة الأجمل فقد حصلت أمامي في فلورنسا، عندما طلبت سيدة عجوز أسترالية من إحدى الفتيات المارات في الساحة أن تلتقط لها صورة أمام البوابة الذهبية، وما أن أعطتها آلة التصوير حتى اختفت الفتاة بين الجموع، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها.. وعبثاً حاولنا التفتيش عنها بين الناس، بغية إرجاع الكاميرا إلى العجوز المسكينة التي أطلقت لدموعها العنان حزناً على (الفيلم) التاريخي الذي صورته في إيطاليا، وليس على الكاميرا كما قد يتبادر للذهن.
عندئذ بدأت أتساءل: لماذا يتهمون المصريين بالنشل؟ ولماذا يدّعون أن نشالي مصر أشطر من غيرهم في هذه المصلحة، إذ أنني أمضيت أسبوعاً كاملاً في مصر ولم ينشلني أحد، بل نشلوا قلبي، لكثرة ما أحببتهم وأحبّوني. أما في إيطاليا فقد حاولوا نشلي في اليوم الأول لوصولي، فتصوروا.
حوادث السير لا حصر لها، وخاصة دهس الناس على الممرات المخصصة للمشاة. فالسائق الإيطالي لا يعير اهتماماً لا للضوء ولا لممر المشاة.. ولذلك نجد أن سيارات الاسعاف تعمل على مدار الساعة، يسمع الناس زماميرها أكثر مما يسمعون أجراس كنائسهم الكثيرة عندما تقرع.
إذا زرت إيطاليا، في يوم من الأيّام، إيّاك أن تحمل مالك كله في محفظتك، أو أن تتوقّف، ولو للحظة واحدة، وأنت تقطع الشارع، لأنك بذلك تكون قد اشتريت آخرتك، ونفّذت المثل القائل: الحق على الطليان.. حماك اللـه من النشالين ومن السائقين المسرعين، وإلى اللقاء.