آخر النكات المضحكة حد البكاء، أطلقها داعية من هيئة الدعوة والإفتاء السلفية في بغداد، فلقد حرّم على المسيحيين العراقيين الترشيح للانتخابات، كما أنه، في حال استلامه الحكم سيفرض الجزية عليهم، فاضحكوا يا ناس.. اضحكوا من إنسان لا يبشر إلا بالموت، ولا يدعو إلا إلى التفرقة، كما أنه لم يتعلّم من ماضيه، ولم يتعايش مع حاضره، وكل ما يجري حوله من تبديلات جذرية وتاريخية لا تعنيه. إنه كالضفدع ينق طوال النهار، وكأن لا عمل له إلا كره المسيحيين، وكأن لا عمل لنا إلا الاستماع لنقيقه، والرد عليه.
إسرائيل، عدوة العرب الأولى، تسمح للعرب المقيمين فيها، مسلمين ومسيحيين بدخول برلمانها اليهودي، وبالمشاركة بالقرارات الصعبة، وبمناقشة أعمال حكومتها، وبالمطالبة بحجب الثقة عن رئيس وزرائها، وبحمل جوازات سفرها، وبالاقتراع لكل من يعتقدون أنه الأفضل. لماذا؟.. لأنها دولة ديمقراطية، قد تتخلى عن يهوديتها ولا تتخلى عن بند واحد من قانونها الديمقراطي.
والهند الهندوسية، أعتق ديمقراطيات العالم، لم تمانع أبداً في أن يرأسها مسلم، كما يحصل الآن، رغم المناوشات الطائفية العديدة بين الهندوس والمسلمين، فالديمقراطية، متى وجدت، ساوت بين الجميع، وأخضعت الجميع لقوانينها، فهي الحل لكل مشاكلنا الطائفية في الوطن العربي، وبدونها سنظل نذبح بعضنا البعض على الهوية، ونكفّر الآخرين باسمه تعالى.
الدول الغربية المسيحية (الكافرة) كما يتشدق البعض، تعطي جنسيتها ومسكنها وأمانها وخيراتها لكل من يحتمي بها، حتى أصبحت ملاذاً آمناً لملايين المسلمين، الذين تأقلموا وتعايشوا وتزوجوا من السكان الأصليين، وأصبح منهم اللوردات والنواب ورؤساء البلديات، دون أن يرشقهم أحد بوردة، وقد لا أذيع سراً إذا قلت إن العديد من إخواني المسلمين في أستراليا تبوأوا رئاسة بلديات مدن أسترالية، تفوق ميزانية أصغر بلدية منها، ميزانية دولتين عربيتين مجتمعتين، ومع ذلك لم يتأفف أحد من الأستراليين أو يشكك بدينهم أو يسألهم عنه، أو لا سمح الله، يجبرهم على تغييره، وخير دليل على صحة ما أقول قصة ابن بلدي المحامي شوكت مسلماني، شقيق الشاعر شوقي مسلماني، الذي ينشر قصائده في (إيلاف، فقد انتخبه الشعب الأسترالي رئيس أشهر وأكبر بلدية في سيدني، رغم اسم عائلته الواضح ( mouslemani ) الذي يدل دلالة مباشرة على دينه الإسلامي الحنيف، ومع ذلك لم يهتم الناخب الأسترالي باسمه، ولا بدينه، بل ببرنامجه الإنتخابي الرائد، فأعطاه ثقة عمياء، أوصلته إلى رئاسة البلدية، وقد توصله، وهذا أكيد، إلى مجلس شيوخ ولاية نيو ساوث ويلز، ومنه إلى الوزارة.. فهل أجمل وأسمى من الديمقراطية؟ لا والله.
لقد تبرعنا للجماعات الاسلامية السلفية كي تشتري كنيسة مهجورة تحولها فيما بعد إلى جامع، يؤمه المصلون للعبادة، دون أن نفكّر، ولو للحظة واحدة، أنهم سيلقون بنا في البحر، هم إخواننا، وأهلنا، هربنا معاً من جور الحكم في بلادنا العربية كي ننعم بالحرية الدينية والسياسية والاجتماعية التي توفّرها لنا ديمقراطية أستراليا، وهذا حق مقدس لكل مخلوق على وجه الأرض، من يحرمه منه كافر، ومن يسلبه إياه مجرم.
مسيحيو العراق ليسوا بحاجة إلى من يدافع عنهم، فتاريخهم الحافل بالأمجاد يتكلم عنهم، وحجارة بابل وأشور تنحني أمام إرثهم الحضاري، وما من أحد على الإطلاق يقدر أن يقتلعهم من جذورهم الضاربة في أعماق العراق، والمغذية لكل ما هو جميل وإنساني في الوطن العربي، فكيف يتجرأ فخري القيسي أو غيره على سلبهم حقوقهم المشروعة، التي خلقت لهم ومن أجلها يخلقون؟ ألم يسمع آيات أعظم رجل دين إسلامي اسمه علي السيستاني، عندما حثهم على التصويت والمشاركة بإعداد دستور البلاد؟ ألم يعلم أيضاً أن هذا السيّد الجليل، الذي ينضح عقله قداسة وإنسانية، لا يعارض أن يكون رأس الدولة مسيحياً؟ لأن سماحته يعلم علم اليقين أن المسيحي الذي يصل إلى رئاسة العراق، سيكون إنساناً مميزاً ورائداً، لم تنجب الأمهات مثيلاً له، ولو لم يكن أهلاً لها، لما اختارته الأغلبية المسلمة لتبوء هذا المركز الحساس.
هكذا يجب أن يفكّر رجال الدين، وهكذا يجب أن يحصل في عالمنا العربي، علنا نخلّص أجيالنا القادمة، من حروب طائفية ذقنا أهوالها، ورمتنا خارج أوطاننا، وقضت على الملايين منا، بينما العالم المتحضر ينعم بالسلام الحقيقي، ويسرع، إثر كل فتنة طائفية يفتعلها لسان جاهل في بلداننا العربية، إلى تقديم المساعدات الإنسانية لنا، فكفى، بربكم، كفى.. وحلّوا عن ظهر المسيحيين.