لم أفكر، في يوم من الأيام، أن أطرق موضوعاً واحداً أكثر من مرة، فأنا بطبعي أحب التنويع في الكتابة، تارة أحلق في الفضاء، وتارة أغوص في السياسة، وطوراً أدافع عن المرأة أو أطرّز لها قصيدة حب، مخافة أن يضجر القارىء من مقالاتي. ولكنني أجد نفسي مجبراً على فض غشاء بكارة الكلمات مرة ثالثة وأخيرة، كرمى لأعين فتياتنا العربيات الموزعات تحت كل سماء. منذ عدة أسابيع نشرت في (إيلاف) مقالاً بعنوان (غشاء البكارة = الموت)، ألحقته بمقال ثانٍ بعنوان (غشاء البكارة.. مرة ثانية)، ولكن القراء، وخاصة الجنس اللطيف منهم، أبوا إلا أن أعود إليه.. منهم من أخبرني أنه قرأني في صحف ومجلات عربية أخرى، مع العلم أنني لا أكتب إلا في (إيلاف)، وكل ما ينشر لي في غيرها سيكون حتماً منقولاً عنها، ما عدا القصائد المكتوبة باللهجة اللبنانية.
ورغم احتجاب مقالي المذكور، وانطوائه في الصفحات الداخلية للمجلة، ما زالت الرسائل تردني بكثرة حوله: الرجال يشتمونني، ليس كلهم بالطبع، والنساء يمدحنني. وها هي (لمى) الصحفية في أميركا، تعتبر أنني قمت بعمل جيّد، وأنها كتبت عن (جراثيم الشرف)، وتعتقد أن العقل العربي بحاجة إلى تحديث، لأنه ما زال يعيش في القرون الوسطى.
أما (زهراء)، فقد أخبرتني أن الله منّ على أبويها بخمس بنات، فاعتبر البعض أن مصيبة كبرى قد حلّت بعائلتها، وأن هذا العدد من البنات كثير جداً على عائلة واحدة، وأقسمت أن لا فرق بين البنت والصبي، كونها تدير أعمال أبيها بنجاح ملحوظ، وما على العالم العربي إلا التفكير الإيجابي تجاه البنت، وعدم التمييز بين الذكر والأنثى، لأن الله لا يميّز بين خلقه ذكوراً كانوا أم إناثاً.
هدى.. تمنت لو بإمكانها أن ترسل لي باقة من الورود تقديراً لمقال سلّط الأضواء على حالة المرأة المزرية في العالم العربي، ومن يدري، فقد يدفع الرجل الى احترامها أكثر.
يسر.. حيتني من العراق الجريح، وهنأتني على المقال الرائع، وسألتني سؤالاً أحرجني، كوني لا أعرف الجواب عليه، وما علي سوى الاستنجاد بدكتور (إيلاف)، فلقد كتبت: (لدي سؤال.. كل أعضاء البشر لها فائدة، القلب، الشرايين، الكلى.. إلخ، فما فائدة غشاء البكارة؟ طالما أن عدم وجوده لا يتسبب بأي ضرر للمرأة، فما سبب وجوده إذن؟ ولماذا؟). الحقني يا دكتور خالد، ولك مني نصف وردات هدى.
مسك الختام سيكون لأختي في الله (مسك)، كما أحبت أن تعرف بنفسها، فلقد أخبرتني في رسالتها أن عمرها 24 سنة (مغتربة، ومقيمة في الأردن، زرت دولاً عربية وإسلامية وأوروبية كثيرة بحكم عمل والدي، وأدرس علم النفس المرحلة الأخيرة. أعجبتني جداً جداً كل طروحاتك، والله يشهد على ما أقول، فكم نحن بحاجة لمثل هذه الكلمات تنير لنا دربنا، كي ننعم بالسلام الحقيقي مع أنفسنا، قبل أن ننعم به مع العالم أجمع).
ولكي تطمئنني من أن ما كتبته في رسالتها صادر عن إيمان عميق بالله تعالى، وعن تمسكها بدينها الحنيف، قالت: (أنا مسلمة، والحمد لله، لكنني لست محجبة، مع العلم أنني أؤدي الفروض الخمسة من صلاة وزكاة والتزام حدود الله. لا أحب النميمة، ولا الغيبة، وأحترم البشر، كل حسب إنسانيته، لا فرق عندي بين مسلم ومسيحي، فأعز صديقة لي هي من الطائفة الأرثذوكسية. وصدقني أنني رأيت العجب ببلادنا الإسلامية، رأيت جامعاً يبعد 100 متر فقط عن بار للمشروبات الروحية، ورأيت محجبات لا يمتن بصلة للحجاب، يرتدين البناطيل والشورتات، ويغتبن الناس، كما أنهن لا يصلين على الإطلاق، هن ملتزمات أمام الناس فقط. نحن، وللأسف الشديد، نعيش حالة من الصراع النفسي والتناقض الإجتماعي، وأستغرب كيف يعاديك البعض، حالهم كحال النعامة. ديننا صريح وبسيط جداً، ورمز للتسامح والإخاء.. دين حق وترغيب، وليس دين قتل وترهيب. تناقضات أتعبتني جداً).
وبعد التناقضات المتعبة التي تواجهها (مسك) كل يوم، انتقلت إلى التعايش بين الناس، وأعلنت مقتها لكل من يكفّر إنساناً آخر، لا لشيء، إلا لأنه من طائفة أخرى، وإليكم ما قالت: (لي في الجامعة صديقات فلسطينيات وأردنيات، واحدة منهن مسيحية، وهي المقربة لقلبي، لأنها من طينتي، أفكارها تتطابق مع أفكاري، وأتأسف إذا أخبرتك أن العديد من صديقاتي ينبذنها، وينعتنها بالكفر، وعندما أناقشهن بذلك، وأقول لهن إنها من بلدكن ومن جنسيتكن، ودينها حق كديننا، لها كتاب ونبي، فكيف تكون ملحدة وهي تعترف بالله؟ غرابة ما بعدها غرابة!)..
أجل يا (مسك)، غرابة ما بعدها غرابة، جعلت أعمى المعرّى يصرخ بأعلى صوته: ليت عمري ما الصحيح؟! بعد أن رأى، وهو الأعمى، ما عجز الأصحاء عن رؤيته، حتى في القرن الحادي والعشرين، من تطاحن ديني مقيت، وقتل وتكفير باسم الله تعالى.
وفي الختام، تخبرني (مسك) أن تثقيف الفتاة، إنسانياً وتربوياً وجنسياً، يساعدها على النجاح، وعلى التنعم بحياة زوجية سعيدة، تمنع الأزواج من الانزلاق في مهاوي الخيانة، فكتبت ورائحة المسك تفوح من كل كلمة من كلماتها: (زمان، كنت أتابع كتابات الدكتورة نوال السعداوي، فلقد كانت جريئة جداً، تكتب من أجل إنارة طريقنا، ومع ذلك حوربت ونبذت، لكنها صمدت وواصلت مشوارها، ودعتنا إلى أن نعزز ثقتنا بأنفسنا، وأن نقرأ ونتعلم كي ننجح بحياتنا الزوجية، ونمنع هروب أزواجنا إلى مهاوي الخيانة).
ولكي تشد من عزيمتي أكثر قالت:(أعتذر للإطالة، ولكنني معجبة بطرحك عن غشاء البكارة، وأتمنى أن أرى مواضيع أخرى أجرأ وأجمل، واعلم أن كل الذين يشتمونك هم من أشد المتابعين لمقالاتك، وهذا ما يدل على نجاحك ورقيك بالتفكير بغية توصيل تجاربك للجميع، واعلم أن الاسم اللامع هو الذي يُهاجم، لأن له متابعين يسجلون ويدققون بكل كلمة تصدر منه قد لا تتطابق مع تفكيرهم المتخلف).
هذه الرسائل، ورسائل أخرى كثيرة لم آت على ذكرها، بعضها طلبت من صاحباتها إرسالها إلى (إيلاف) كونها وصلتني كمقالات جاهزة للنشر، تثبت أن هناك حالة مرضية قاتلة في وطننا العربي تعاني منها الفتاة، وتشل قدراتها، وتحد من إبداعها، يجب إنقاذها منها، وهذا لن يتم إلا عن طريق منحها حريتها، ومدها بنسغ ثقافي، اجتماعي، علمي، وجنسي رائد، يعطيها ثقة بالنفس تحولها من امرأة جاهلة إلى امرأة ذكية، ومن أم أَمَة إلى أم أُمّة، ومن زوجة خائفة ومذبذبة إلى زوجة وفية وناضجة ومتفهمة، وإلاّ.. سيتواصل انهمار رسائلهن المعذبة والمتأففة إلى كل من يدعو لإنقاذهن من براثن الجهل والعذاب.. وديكتاتوريّة الذكر.