عام 1993 رن جرس هاتفي البيتي، وما أن رفعت السماعة حتى انساب إلى مسمعي صوت أنثوي بشّرني بسماع صوت شاعر العروبة الخالد محمد مهدي الجواهري:
ـ هل بإمكاني أن أتكلم مع شربل بعيني؟
ـ شربل بعيني يكلّمك.. من معي؟
ـ معك الجواهري من سوريا..
أهي مزحة أم حقيقة؟ لم أعد أعرف ماذا أفعل، وكيف سأنتقي كلماتي، وبأية طبقة صوتية سأكلّم القائل عام 1950، يوم تأبين الزعيم اللبناني الراحل عبد الحميد كرامي، أي قبل أن أولد بعام واحد:
تنهى وتأمر ما تشاء عصابة
ينهى ويأمر فوقها استعمارُ
خويت خزائنها لما عصفت بها
الشهوات والأسباط والأصهارُ
واستنجدت، ودم الشعوب ضمانها
ورفاهها، فأمدّها الدولارُ

وفجأة أطل علي صوت الجواهري كغمامة مثقلة بالمطر لترطب صحراء غربتي وتنعشها:
ـ الأخ شربل بعيني
ـ أيوه.. أيوه.. شاعرنا العظيم
ـ أحب أن أشكركم على منحي جائزة جبران العالمية..

ـ هذا أقل من واجب.. نريد أن نقول لك: شكراً، فأرجو أن تقبله منا.
ـ بارك الله فيكم.. لقد أرسلت قصيدة بالبريد إلى عنوانك، أرجو أن تصلكم في الوقت المناسب، لتلقى نيابة عني في احتفال تسليم الجائزة.
ـ ستكمل فرحتنا أكثر لو ألقيتها أنت بنفسك.. وسنقوم نحن باستضافتك وبالتكفّل بكل مصاريف الرحلة..
ـ صحتي لا تسمح لي بالسفر يا أخ شربل..
ـ انتبه لصحتك أرجوك.. أطال الله في عمرك.

ـ سلامي إلى جميع الأخوة في رابطة إحياء التراث العربي.. وألف شكر مجدداً على الجائزة.
تذكرت هذه المكالمة التاريخية وأنا أقرأ قصيدة أهداها الجواهري للوزير العراقي السابق جواد هاشم، نشرها على غلاف كتابه (مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام) ليكحل بها عيني القارىء قبل الولوج إلى أحداث الكتاب المسرودة بأسلوب شيّق وجذاب، لتغطي حقبة طويلة من السياسة العراقية امتدت من عام النكبة 1967 إلى العام 2000.

يبدأ الجواهري قصيدته الحائية بمخاطبة (أبي جعفر) كما يخاطب الأخ أخاه:
يا أبا جعفر عدتك اللواحي
من أخي نخوة وضو سماح
ورضي الطباع يهتز لطفاً
للندى في غدوه والرواح

فمن غير رضي الطباع يهتز لطفاً للندى؟ ومن غير الجواهري بإمكانه أن يأتي بصورة كهذه، تحبب القارىء بممدوحه دون أن يراه أو أن يتعرّف عليه؟ خاصة وأنهما طبعا معاً على جبين الصباح قبلة الفجر:
سعدت ليلة طبعنا عليها
قبلة الفجر في جبين الصباح
من صميم الدجى أطل علينا
سحر ساجر بَليل الجناح

فتصوروا معي كيف أطل هذا الساجر المبلول الجناح على أناس أسكرتهم سجعة الشعر قبل أن تعزف رنتها الأقداح، وقبل أن ينتشي البحر من الوجوه الجميلة.
تتهادى فيها الأحاديث تقفو
سجعة الشعر رنة الأقداح
نشوة الكأس تستدير عليها
نشوة البحر في الوجوه الملاح

وما أصدق الجواهري عندما يقسم بالحب، خاصة إذا كان طاهراً، فما من قدرة على الأرض ستمنعه من تحقيق قسمه، خاصة إذا كان خله الوفي مسامحاً وكريماً وصريحاً وصادقاً كجواد هاشم:
يا أبا جعفر وأقسم بالحب
طهوراً يرف رف الأقاح
لَلصديق الصدوق عندي أغلى
من أعز المنى، وأعلى الطماحِ
ولذكرى، منه تعن، شفاء
من عنائي، وبلسم لجراحي
ولإلمامة تعاود منه
هي أحلى طيف يحل بساحي
ولأنت الخل الذي سوف تبقى
صور الحسن منه في ألواحي
أجل يا شاعر العروبة، ستبقى صور الحسن التي رسمتها بأناملك الذهبية في ألواح الخلود، وسيبقى ذكرك خالداً ما بقيت حياة، وابتل ساجر، وانتشى بحر، ورنت أقداح، وتناثرت قبل.. وأعتقد جازماً أن جواد هاشم سيتخلى عن جميع الألقاب والمناصب التي تبوأها في رحلته الطويلة في خدمة عراقه والعالم، ولن يتخلى عن حرف واحد من قصيدة مدحته بها، لا لتسعده هو شخصياً، بل لتسعدنا نحن بما جادت قريحتك. وها أنا قد سعدت حقاً.. فألف شكر لأبي جعفر على كتابه الهدية، وألف شكر لروحك الخالدة لأنك بلسمت جراح غربتي الطويلة بقصيدة أقل ما يقال فيها إنها.. جواهرية.

[email protected]