من المستحيل أن ينام نزلاء الفنادق الفخمة في القاهرة قبل منتصف الليل. فزفّة العروس ليلة (دخلتها) تبدأ عند الساعة العاشرة والنصف ليلاً، ولا تنتهي إلاّ قرابة الثانية عشرة.صحيح أن الضجّة لا تصل إلى غرف النوم، ولكن النزلاء، وخاصة السيّاح الأجانب والعرب، ينزلون إلى البهو الكبير في الفندق لمعاينة أجمل عرس شاهدوه على الإطلاق.ولا يعتقدن أحد من قرّاء (إيلاف) ان الأعراس في القاهرة تتمّ في عطلة الأسبوع فقط، كما يحصل في أستراليا والعديد من الدول الغربية، بل أن الأعراس المصرية تزيّن كل يوم من أيام الاسبوع.

ولأنني كثير الحشرية، قرّرت الإنتقال من فندق الشيرتون الذي أنزل به إلى فندق آخر لأرى إذا كانت الأعراس تدور فيه أيضاً، فاستمتعت هناك بأجمل عرس، قد لا يحصل للامراء، وعندما عدت إلى فندقي كانت الزفة على وشك الانتهاء، فمشيت وراء العروسين حتى باب المطعم.

هذه الأعراس الرائعة كنت عاينتها وتنعمت بها يوم دعيت إلى بغداد للإشتراك بمهرجانات المربد الشعرية عام 1987، فلقد كنت أترك ندوات الأدب والشعر لأحلّق مع الطبّال والزمّار وهما يعزفان أجمل الألحان أمام باب الفندق. كانت الزفّة تبدأ خارجاً، عكس زفّات القاهرة، وكانت الزغاريد تملأ الأجواء، وكان العراقيون يلهبون شوارعهم رقصاً، وكم أتمنى اليوم أن تعود تلك الأعراس، وتلك الزغاريد إلى منازل العراقيين الأحباء الذين فتحوا لي قلوبهم قبل بيوتهم، وغمروني بمحبّتهم خلال إقامتي القصيرة بينهم. وإن أنسى لا أنسى تصفيقهم الحار يوم ألقيت قصيدتي المربديّة (أرض العراق.. أتيتك) التي طعّمت فصحاها الصارمة بالفلكلور اللبناني، وبتلك الهيهات التي ختموا بها معظم نشراتهم الإخبارية لمدة أسبوع:

هيهات يا بو الزلف

عيني يا موليّا

بغداد هيَّ القلب

ولبنان عينيّا

فرقة (الزفة) المصرية تتألف من عشرين عازفاً على أقلّ تقدير، يصحبهم راقص أو راقصة، يصطفّون على جانبي الممشى المؤدي إلى المطعم. معظمهم يحملون الدفوف والدربكات، وواحد فقط يعزف على الزمّور البلدي.معزوفاتهم معروفة، كثيراً ما نسمعها في الأفلام العربية، خاصة تلك التي تقول:

إتمخطري يا حلوه يا زينه

يا وردة حلوة في جنينة

وقد تتعجبّون إذا أخبرتكم أنهم يغنّون الأغنيات، رغم المسافات التي تفصلهم عن بعضهم البعض، بصوت واحد رائع وجميل!

تنزل العروس على درج الفندق، فيستقبلها عريسها، ويصحبها بخطوات بطيئة إلى حيث تصطف الفرقة. ويبدأ العزف والغناء. ويبدأ الرقص.. ويبدأ العرس.. وتبدأ قصّة جديدة من قصص ألف ليلة وليلة.. سرعان ما تنتهي، رغم بقائها في البال، واسترجاعها كل ليلة كما تسترجع الأحلام.

ولكي أرضي زوجتي المندهشة جداً جداً بالزغاريد والأغنيات والموسيقى، كونها حُرمت من كل هذا عندما تزوّجتها، همست في أذنها ما يلي:

لو لم أزرْ مصرَ

لمل تمكّنت من فهم جمالكِ.

النيل عيناكِ..

وضفّتاه شفتاكِ..

والنخيلُ شعرك..

والأهراماتُ ارتفاع العفّة فوق صدرك..

أما لؤلؤ ثغركِ،

فلقد وجدته يتراقص بإباءٍ على أفواه المصريين.

آه.. كم أنت جميلة يا ليلى!

نصيحتي لزوّار القاهرة. لا تدفعوا قرشاً واحداً من أجل حضور حفلات الطرب.. فأعراس الساعة العاشرة والنصف ستغنيكم عن كل هذا.. ولوجه اللـه.

[email protected]