عندما اكتشفت موقع (إيلاف)، تماماً كما اكتشف كريستوف كولومبس أميركا، أو الكابتن جايمس كوك أستراليا، لـم أكن أعرف من هم المشرفون عليه، وما زلت لا أعرف، ولكنني ارتحت له من النظرة الأولى، كي لا أقول أحببته. وقررت معاودة الكتابة من على صفحاته، بعد سنين طويلة من الاستراحة. ولكن خبرتي في الاتصال الإلكتروني صفر، فكيف العمل؟. حاولت، بادىء الأمر، أن أفتح بالموقع بريداً إلكترونياً، ففشلت، رغم محاولاتي الكثيرة، التي كنت، في كل واحدة منها، أستعمل إسماً مختلفاً لتسجيل بريدي الموعود. ولم أكن أدري أن على الخط الآخر في عاصمة الضباب رجلاً يشعر بي، وبمحاولاتي الفاشلة، فإذا به يرسل لي أربع كلمات سر، لجميع الأسماء التي أرسلتها، وحسبتها ضاعت في فضاء الإنترنيت اللامتناهي.
جرّبت كلمات السر التي زوّدني بها الرجل الخفيّ المنقذ، دون جدوى، فأرسلت له رسالة أخبره بها أن مغارة علي بابا ستفتح بكلمات سرّه، أما بريدي الإلكتروني فلا. فلم ييأس، بل أرسل لي كلمة سريّة جديدة هي (صندوق البريد). أف، تمتمت في سري، هل سيفتح صندوق بريده هذا صندوق بريدي؟ فجرّبت، وجرّبت، حتى ضجرت مني آلة الكومبيوتر، وقررت التوقّف عن العمل من شدّة الإرهاق.
ورغم الخجل الذي اعتراني من تكرار فشلي، فلقد أحسست أن (منقذي) على الخط اللندني لن يتأفف مني، ولن يتبرّم من أسئلتي الكثيرة، فعاودت الكرّة، وأخبرته باندحار جيوشي الإلكترونية في المعركة، وباستسلامي لمشيئته، فما كان منه إلا أن طلب مني اختيار كلمة السر التي أريد، وفجأة، هللت السماء والأرض، وتم افتتاح بريدي الإلكتروني، وسط تصفيق زوجتي المتواصل، ونباح كلبتي المدللة (ليلي).
صديقي الخفيّ المنقذ اسمه سرجون اسحق، وأسأل الله تعالى أن يكون اسماً حقيقياً، لا يتغيّر ككلمات السر التي أرسلها لي، كونه الوحيد الذي أعرفه في الموقع، بعد ثلاثة أشهر من الكتابة فيه. أما لماذا أسميته (المنقذ)، فإليكم الحكاية:
كما تعلمون، هناك فرق بالوقت بين سيدني ولندن، فعندما نتأهب للعمل في سيدني، يتأهب عمال لندن للنوم، ولكن عاملاً واحداً لا ينام، إنه سرجون، فلقد راسلته في منتصف الليل، فأجابني بعد لحظات، وراسلته عند ساعات الصباح الأولى، فأجابني بسرعة البرق.. إنه (الحاضر الناضر) على مدار الساعة.
إذا حصلت معي مشكلة في بريدي، يسرع سرجون في حلّها، وصدقوني إذا قلت: إنه الوحيد الذي بإمكانه أن يدخل إلى بريدي ويقرأ محتوياته، ويلفت انتباهي إلى الجراثيم الإلكترونية العالقة بأذياله، وعلى قلبي أحلى من العسل.. يكفي فقط أن أستنجد به برسالة سريعة يكون عنوانها: أين أنت يا سرجون باشا، حتى يطل من الأحرف الضوئية صارخاً: شبّيك لبّيك، سرجون بين يديك.
مرة، أراد موقع إلكتروني في كندا أن يعيد نشر مقالي (هؤلاء هم الأبطال يا مفجّري الجوامع والكنائس)، فوجدت أن من الواجب إعلام رئيس تحرير إيلاف بذلك، وكنت أجهل من هو، فجاءني الرد معنوناً باسم الاستاذ عثمان العمير، فسررت لمراسلة هذا الصحفي الكبير لي، ولكنني عندما وصلت إلى آخر الرسالة، وجدتها موقّعة باسم سرجون اسحق، فضحكت وصحت: أأنت عثمان العمير يا سرجون؟!. ألم أقل لكم إنه (حاضر ناضر) كرجال المخابرات في البلاد العربية، ولكن الفرق بينه وبينهم، كالفرق بين الثريا والثرى: هم يدمّرونك ويقتلونك، وسرجون يساعدك ويعضدك ويحميك.
عندما أصدرت مجلة (ليلى)، وهذا اعتراف أبوح به للمرة الأولى، فتّشت عن مراسلين لها في البلدان التي زرتها، فلم أوفّق، فبدأت أكتب مقالات بأسماء وهمية، أدعي وصولها، من عثمان الأحمدي ـ الجزائر، أو من لويس حنّا ـ باريس، أو من أمادو عبود ـ إيطاليا، إلى أن أتخمت صفحات المجلّة بكثرة المراسلين، الذين هم أنا أولاً وأخيراً، وبدأ القراء يشيدون بهم وبأدبهم الرفيع، كما أن شاعراً زجلياً مهجرياً راح يطرّز قصائد المديح لهم. سامحني اللـه، أردت أن أكون في كل مكان وزمان، كما يفعل سرجون اسحق.. أنا أركب الطائرة البليدة المملة المتعبة للوصول إلى مدينة ما، وهو يركب الأجنحة الإلكترونية التي تربط العالم، من مشرقه إلى مغربه، بآلة صغيرة إسمها الكومبيوتر، ففشلت أنا ونجح هو.
طلب أخير يا منقذي، لقد نشر موقع (google) العالمي معلومات مفصلة عن شخصي الفاني، قرأت منها أربعة أسطر فقط، وعجزت عن اكتشاف الباقي، فأرجوك أن تدخله تحت اسم (charbel baini)، وأن تخبرني ماذا قالوا عني، ولك مني، إذا جئت أستراليا، هدية: حيوان (كنغرو) حي، أنا أهرّبه لك عن طريق (المراكب) من أستراليا، وأنت أدخله إلى بريطانيا كهدية لجلالة الملكة.
أخبرتكم قصّتي مع سرجون، لأرطّب الأجواء المحمومة، وألهيكم عن الأخبار التي تسم الأبدان، وأنقلكم من الأدب السياسي الموجع، إلى أدب الفكاهة والتواصل والحياة.
إذا كنتم لا تملكون في مواقعكم الإلكترونية "سراجين" نشيطين كسرجون اسحق، استعيروا من ديوجين شمعته، وفتّشوا عنهم، لعلكم تجدونهم بين ضباب لندن.

أستراليا
[email protected]