التقيت البطريرك مار نصر الله بطرس صفير مرّتين : المرّة الأولى أبكيته بها، والمرّة الثانية بكينا معاً. عام 1993 زار غبطته أستراليا، وكان من حسن حظي أن أعدّ برنامج استقباله في معهد سيدة لبنان، فدرّبت الطلاب على أجمل الأغنيات الترحيبية، وعندما جاء دور الكلام، ألقيت على مسمعه قصيدة جعلت الدموع تنهمر غزيرة من عينيه، وجعلتني أتوقّف عن الإلقاء، والدهشة تعلو وجهي، هل أكمل أم أتوقّف؟.. فما كان مني إلاّ أن التفت إليه وقلت: نحن هنا لنفرّحك يا سيّدنا وليس لنبكيك. فأشار إلي بأن أكمل الإلقاء، فأكملت باللهجة اللبنانية:

طلّتكْ.. كمشة فرح ودموع

غيّاب.. يا ما تأمّلوا فيها

إيدين.. تحصد زهر، تضوي شموع

وشفاف.. تتمرَّن عَ آويها

وسيدني الْـ صرلا شهر تمشي طلوع

تا تطال "قامِه" الرّب حاميها

نخّت عَ إيدك نخّة الموجوع

تزرع البوسِه.. وتسقيها

يا بطرك المشرق.. بصوت جموع

كلمة "يا أهلا" بحبّ غنّيها

نحنا ولادك.. ناطرين رْجوع

هاك الكنايس صعب ننسيها

قلب الطفل بِـ غربتُو مشلوع

سنينو، لأيّا أرض، يهديها؟!

لبنان حلمُو.. والحلم مفجوع

وسيدني بتعطِي.. وحقّ يعطيها

صلِّي تا نرجع.. مطلبك مسموع

رجوع الرّعيّه همّْ راعيها

بصدورنا.. حبّ الأرز مزروع

وبلادنا.. بالدّم نفدِيها

حامل صليبك.. مقتدي بيسوع

وعتماتنا بالطّهر تضويها

ومهما شبعنا لمخبَزك منجوع

يا سيد بكركي.. يا راعي الشَّرق

وزنات حبَّك.. عار نخفيها!!

وفي السفارة اللبنانية بكانبرا، حاول سفير لبنان السابق الدكتور لطيف أبو الحسن أن يقدّمني لغبطته بعد يومين من إلقاء القصيدة، فتطلع به البطريرك وقال:

ـ لقد بكيت مرّتين، الأولى عندما سار أطفال لبنان بمظاهرة من أجل لقمة الخبز والحرية، والثانية عندما استمعت إلى القصيدة، وهذا ضعف مني، يجب أن لا يتكرّر.

وقد تناقلت الوسائل الإعلامية خبر بكاء البطريرك صفير في أستراليا، وأنه من النادر أن يبكي، فأحسست بذنب لم يفارقني إلاّ عندما زرته في لبنان.

هناك في بكركي، دخلت على غبطته بعد 8 سنوات، وباعتقادي أنه نسيني تماماً، ولم يعد يتذكّر وجهي، وهو الذي يشاهد مئات الأوجه يومياً، وكم كانت دهشتي عظيمة حين قال لي وأنا أسلّم عليه:

ـ إيّاك أن تلقي قصيدة كالتي ألقيتها في سيدني، فأنا لا أريد البكاء.

فتطلعت به وقلت:

ـ أما زلت تذكرني يا سيّدي؟

وكنت يومذاك برفقة الدكتور عصام حداد، صاحب معهد الأبجدية في جبيل، فقال للبطريرك:

ـ ما شاء الله يا سيّدنا، ما زالت ذاكرتك قويّة.

ولأن العبارة التي قالها في السفارة اللبنانية أرقتني طويلاً، وآلمتني طويلاً، سألته ويداي تحضنان يديه:

ـ لماذا اعتبرت بكاءك ضعفاً يا سيّدي، فلقد سمعتك تقول هذا للسفير أبو الحسن، يوم شرّعت السفارة اللبنانية أبوابها لاستقبالك؟.. كنت أعتقد، قبل أن ألتقيك، أن رجال الدين بدون قلوب، ولهذا شتمتهم بمختلف طوائفهم في ديواني (ألله، ونقطة زيت)، إلى أن محت دمعتك الحنونة كل ما كتبت، فالمراكز العالية، يا سيّدي، تحجّر القلوب، أما قلبك فما زال يبكي علينا ومعنا.

هنا، راح يخبرني عن دموع السيّدة العذراء، وكيف بكت تحت قدمي ابنها يسوع المسمّر على الصليب، وأخبرني قصصاً كثيرة أثلجت قلبي، وخففت عني الشعور بالذنب الذي رافقني لسنوات طويلة.

وعندما سألته عن تردّي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والبشرية في لبنان، وماذا سيخبّىء لنا القدر؟ تمتم قائلاً:

ـ لا حياة لمن تنادي، نحن نتكلم ولا أحد يسمع.. كل يغنّي على ليلاه..

وراح يخبرني عن هجرة المسلمين والمسيحيين الجماعية من لبنان، وأن لبنان سيفرغ من سكّانه قريباً، وأن الشعب يرزح تحت ألف عبء وعبء، وأن الوطن على طريق الإفلاس.. وشعرت بغصّة كبيرة في صوته، وبدموع حمراء تتلألأ في عينيه، فدمعت عيناي أيضاً، ولكني أخفيت ألمي عن غبطته، كي لا أزيد فوق همومه هم رجل مغترب، وقد أدخلت معظم كلامه في حوار مسرحية (يا مار شربل) التي مثّلها هذا العام أكثر من 400 طالب وطالبة من معهد سيدة لبنان ـ سيدني.

وبينما كنت أغادر الصرح البطريركي، التقيت على الباب بعائلة طرابلسية مسلمة جاءت لتطلب من غبطته خدمة ما. وقد اعترف لي العديد من الأصدقاء المسلمين أن البطريرك صفير يخدمهم أكثر مما يخدم أبناء طائفته، لدرجة أن أحدهم قال:

ـ إنه بطرك النصارى والمسلمين معاً، إنه بطرك لبنان.

فلماذا احتج البعض وثار عندما قال عنه الدكتور شاكر النابلسي إنه قديس لبنان، فلقد قالها الشعب اللبناني بكل فئاته وطوائفه، وما عليكم إلاّ استفتاء هذا الشعب، لتضعوا إصبعكم على الجرح، فألف شكر لالتفاتة النابلسي الناصعة كقلبه، وألف شكر لقديس لبنان الذي حمل هموم شعبه، مسلمين ومسيحيين، بين أضلعه، لدرجة عجز معها عن إخفاء دموعه الطاهرة.

إما أن يكون رجل الدين، أيّاً كان مذهبه، كهذا البطريرك القديس وإما فليفتّش عن عمل آخر يرتزق منه، كي لا يدمّر الأرض والسماء معاً، ويحرمنا من التمتع بهما.

[email protected]