يكاد المتتبّع للأمور السياسيّة في العراق أن يصاب بالجنون، نظراً لوساخة الأحداث المتلاطمة كالرياح، والمتفجرة كالبراكين، وقد توافقونني الرأي إذا قلت: منذ بدء التكوين لم تشهد كرتنا الأرضية أحداثاً مقرفة للغاية، كالتي يتعرّض لها شعب مثقّف ومسالم، أوقعه سوء طالعه بين أنياب حفنة من الذئاب الجائعة للدم وللمال في آن واحد.
لقد قاوم الفلسطينيون الإحتلال الإسرائيلي مقاومة شريفة، فكانوا يردّون على كل هجوم يقوم به بهجوم مماثل، ورغم التفجيرات البشرية، ورغم هدم المنازل والمخيمات وتشريد أصحابها، ورغم اغتيال القيادات الفلسطينية وملاحقتها، بقيت الحرب حرباً، والمقاومة مقاومة حسب المفهوم العام والصحيح، ولم تعرض السبايا للبيع، أو تقطع رؤوس العمال الأجانب والصحفيين، أو تبيح المحرمات، كما يحصل الآن على ضفاف دجلة والفرات.
ولقد تحارب اللبنانيون على قطعة سمائهم أكثر من عشرين سنة، فهدموا كالثيران الهائجة كل ما بنوه بألفيْ عام، وقسّموا الوطن كانتونات طائفية ضيقة ومعتمة وبغيضة، وشردوا مواطنيهم في كافة أصقاع الأرض، ولكنهم لم يتاجروا بالرهائن، ولم يعرضوا أجساد من جاؤوا لمساعدتهم في سوق النخاسة، وبعد انتهاء الحرب عادت المياه إلى مجاريها، وعاد الجار لمعانقة جاره وكأن شيئاً لم يكن.
أما الشعب العراقي البريء فقد كان بلاؤه أبعد ما يكون عن التصوّر الحيواني، كي لا أقول الإنساني. وآخر صرعات (رجال مقاومته) هي بيع رهائنهم لبعضهم البعض كما تباع السجائر والمعلبات والشاطر والمشطور والكامخ بينهما. مجرمون يخطفون الأبرياء، ومجرمون يدفعون ثمنهم، والله يعلم أين تتم عملية استلام البضاعة البشرية، وبأي عملة يقبضون ثمنها، وكيف تتم عملية تصريفها في سوق الإرهاب الدولي؟.
لقد باع هؤلاء المقاومون ضمائرهم، وخسروا آخرتهم، وكفروا بربّهم، وكرّهوا أمتهم العربية بهم، من أجل حفنة من الدولارات، قد لا تغني عن جوع. وها هم يعرضون للبيع الرهينتين الإيطاليتين، اللتين جاءتا لمساعدة أطفال العراق، دون أن يأبه أحد منهم بتظاهرات الصغار أو بصراخهم الدامع. ومن يدري فقد يبيعون معهما أيضاً صديقهما الدكتور العراقي رياض علي عبد العزيز الذي يعمل معهما في نفس المؤسسة الخيرية.
(على أونا، على دوا، على تري)، دلّل أيها الدلال، كما كنت تفعل بالعبيد والمماليك والسبايا، أيام الهمجية السوداء، ولا يهمك حكم التاريخ، فتاريخنا العربي لا يدوّن، وإن دوّن فسيلحقه التزوير.

وها هي إحدى الأمهات تخطف ابنتها ـ أجل ابنتها ـ بمساعدة أبنائها الآخرين، من أجل طلب الفدية من زوجها، دون أن يرف لها جفن، أو أن يتشفّع قلب أمومتها بطفلتها المسكينة. إنها موضة الخطف في العراق، وأرجو أن لا يقلّدها أحد ما على وجه الأرض، كي لا ينكر الله مخلوقاته، إذا كان هؤلاء حقاً منها.

المقاومة، يا رجال أبي لهب، تجعل الشعوب تتباهى فخراً، والأكف تلتهب تصفيقاً، والقلوب تنبض حباًً، والأعين تبكي فرحاً، والشعر يغني ملاحمها، والتاريخ ينحني أمام أبطالها ويقبّل الثرى. أما مقاومتكم أنتم، فكيف سنتغنّى بها، إنها كوكتيل من الجهل، والعهر، واللعنة، والنقمة، والحقد، والطائفية، والموت الحرام، والتجارة المشبوهة، والرقيق الأبيض.

وليكن بمعلومكم أن (دولة طالبان) غير مسموح بها في العراق عالمياً وعربياً وإسلامياً ولو محوتم الناس قاطبة، وعودة (دولة صدّام) غير مسموح بها عالمياً وعربياً وعراقياً وإنسانياً وقانونياً ولو فتحتم كل أبواب الجحيم.. فخافوا الله، إذا كنتم قد سمعتم به، واتركوا هذا الشعب العظيم يبني دولته على أسس متينة من الرفاهية والتعايش والمحبة والديمقراطية، لأن هذا ما سيحصل رغم أنوفكم، كونكم غير قادرين على خطف وبيع وقتل 25 مليون عراقي، أرادوا الحياة و(لا بد أن يستجيب القدر).

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف