مصيبة البعض منّا أنهم يقرأون بعواطفهم وليس بعقولهم، والقراءة العقلية أهم القراءات على الإطلاق، إذ أن صاحبها يملك زمام الفهم والتلقي والإدراك منذ اللحظة الأولى لملاقاة النص واستيعابه. أي أنه يفكّر، ويحلل، ويراجع ما يقرأ، قبل أن يدلي بدلوه في انتقاد النص أو إطرائه. أما القراءة العاطفية فتعمي صاحبها، وتحجب عنه الرؤية الذكية، وترميه في حفر شتى، هو الذي حفرها وهو الذي أوقع نفسه بها، كما أنها تخذله وتحجّمه وتشككه بنفسه وبطاقاته متى عاد إلى عقله. ومن مراجعة الردود التي تنشر بين الحين والآخر تحت مقالات الكتّاب، نجد أن الكاتب في واد وبعض المحتجين عليه أو الموافقين معه في واد آخر، وأخشى إذا قمت بجردة بسيطة لتلك الردود، أن تقوم القيامة علي، وأن يتهموني بالشذوذ والنفاق والعنصرية والبله.
جميل جداً أن نقرأ، ولكن الأجمل منه أن نفهم ونستوعب ما نقرأ. فلا يجوز استبدال كلمات انتقاها الكاتب بتأن ووضوح من أجل تبسيط الموضوع وتفسيره للقارىء، بكلمات جهّزتها عواطفنا، وأمرتنا أن لا نحيد عنها، وكأننا مسيّرون ولسنا مخيّرين.
مرّة، طلبت من شاعرة أسترالية أن تراجع قصيدة مؤلفة من عشرة أسطر فقط، كان ترجمها لي أحد الأصدقاء، فراحت تقرأ وتقرأ وتقرأ، وأنا أتطلّع بها، وأتمتم في سري: ألم تشبع قراءة بعد؟.. وبعد نصف ساعة من القراءة العقلية الحكيمة التي أخبرتكم عنها، تطلعت بي وقالت:
ـ هل بإمكاني أن أترك النص معي، لأنني بحاجة لقراءته مرّات ومرّات، كي أعطيك تقييماً يرضي أدبي قبل أن يرضيك أنت.
وبعد أسبوع، أرسلت لي عبر الفاكس النص والتعليق، فعملت بكل ما ارتأت، لأنني أدركت منذ القراءة الأولى لتقييمها أنها قرأت بعقلها وليس بعاطفتها التي قد تخذلها كوننا أصدقاء.
منذ أيام، كتبت مقالاً بعنوان (لبنان في خطر..)، فاهتز البر والجو والبحر، والتهب بريدي وهاتفي، وراح البعض يتهمني بالعنصرية ومحاربة الغرباء، خاصة اللاجئين الفلسطينيين، الذين كتبت عنهم وعن قضيتهم الدواوين والقصص والمقالات، ويكفي أن أذكر قصيدة واحدة من ديواني (يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط) الذي لم تبقَ صحيفة لبنانية إلاّ ونشرته عام 1969، والذي حولت بعض قصائده إلى ملصقات في الشوارع، لتدركوا مدى تعاطفي معهم:

لم يقتلوا طفلاَ إخواني
أعرفهم، حتماً، أعرفهم
فالرحمة هم
والرأفة هم
وليسمعْ كل إنسانِ
لولا عدالة ثورتهم
لفقدت بالعدل إيماني

ولم ينتبه، إلا القليلون الذين قرأوا بعقولهم، أنني أتحدّث عن المهاجرين اللاشرعيين، الذين تهربهم شركات خاصة مشبوهة، وتعاملهم كالخنازير، وقد عاينت ذلك بأم عيني، والله يشهد على ذلك.ولأبسّط الأمور أكثر، سأذكّركم بضحايا ذلك المركب (العجوز) الذي غرق في المياه الإقليمية الأندونيسية، وأغرق معه عشرات اللاجئين العراقيين، الذين رماهم لصوص تلك الشركات في البحر بعد أن قبضوا، أو بالأحرى، سرقوا أموالهم، بغية الوصول إلى الوطن الحلم أستراليا، دون أن يأمّنوا لهم مركباً (فتياً) يقدر على شق اليم، وتكسير رؤوس الأمواج. همهم فقط الربح، ورحم الله من يموت من زبائنهم الأبرياء.
ومن منا لا يذكر الباخرة (تامبا) التي أنقذت أرواح المئات من اللاجئين، بعد أن غرق مركبهم أيضاً في المياه الإقليمية الأسترالية، ومن يدري فقد يغرق معه في الانتخابات القادمة رئيس وزرائنا جون هاورد، بعد أن اتهمه البعض بالكذب بشأن تلك الحادثة.

فلولا تدفّق الأغراب إلى فلسطين لما ترك الفلسطينيون أرضهم، ولولا تلاعب الأغراب بأحلام العراقيين لما سمعنا بهجرة الملايين منهم، ولولا تغلغل الأغراب في شوارع وبيوت اللبنانيين لما كتبت لكم من أستراليا.

فوالله والله، لو جاء لبنان، في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها العراق، ملايين اللاجئين العراقيين لفتحنا لهم قلوبنا قبل بيوتنا، تماماً كما فعلنا مع إخواننا الفلسطينيين، وإخواننا الأرمن، ولكنت أول من قدّم بيته لاستقبالهم.

فما دخل المهاجرين اللبنانيين المنتشرين في العالم بطريقة قانونية ومشرفة، وما دخل اللاجئين الفلسطينيين الذين يعانون أكثر مما نعاني من تدفّق الغرباء اللاشرعيين على أرض رموهم بها قسراً وقهراً، ففرص العمل كانت متاحة لنا ولهم، أيام زمان، في وطن صغير كلبنان، أما الآن، فكلنا سنصبح عالة على منظمة الإنروا.

لقد فرحت كثيراً عندما أحسست أن العديد من الناس قد قرأوا مقالي، ولكنني حزنت أكثر عندما أدركت أن البعض منهم لم يفهم ما قصدت إليه.

علينا أن نقرأ وأن نفهم، وإلاّ كان الله في عوننا جميعاً.

[email protected]