كشفت شركة (إير باص)، منذ مدة، عن طائرتها العملاقة (إيه ـ 380)، التي اعتبروها علامة مميزة في عالم الأجنحة الحديدية. ولكي تلهبنا وسائل الإعلام اشتياقاً إلى الطائرة، راحت تصفها بأنها أوسع من زميلتها 747 بخمسة عشر متراً، وأعلى بأربعة أمتار، وأثقل بـ 118 طناً، وهي تشبهها كثيراً ولكن طابقها العلوي ممتد حتى الذنب كالطابق السفلي تماماً.

وأخبرتنا أيضاً أن الطائرة الجديدة تضم حجرات للبليارد، وركناً للمشروبات، ومكتبات، وكبائن للإستحمام، ومنطقة مخصصة لنوم طاقم الطائرة، دون أن تأتي على ذكر المسافة بين المقاعد، أو عرض الممرات، أو كم تبعد المراحيض عن مقاعد الركاب، وهل بالإمكان الإستدارة داخلها، أم أنها ما زالت كعلبة السردين، الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود.

أثناء رحلتي الأخيرة إلى الوطن، حصلت مشاجرة بين أحد الركاب الذين أوصلهم سوء طالعهم للجلوس قرب المرحاض، وبين طاقم الطائرة، كادت تطور إلى الهبوط الاضطراري لولا تدخل الزوجة والأصحاب، واقتناع الراكب، على مضض، بأن لا مكان في الطائرة، حتى يتم نقله إليه.

بعد خمس ساعات من إقلاعنا من مطار سيدني، بدأ الركاب بعبور ممرات الطائرة الضيّقة جداً جداً، بغية الوصول إلى المرحاض، واحد مصاب بالإسهال، وآخر بوجع البطن، وواحدة تعصف الرياح الوسخة ببطنها، لتخرج منها وتلوث الأجواء، خاصة شهيق وزفير ذلك الراكب المسكين الجالس كالناطور على باب المرحاض. لقد تحمل أخونا كثيراً دون أن يفتح فمه، ولكن ما أن دخل أحدهم المرحاض دون أن يقفل الباب، حتى جن جنونه، وراح يصيح بصوت عالٍ كأنه الرعد والمضيفة تهدىء من روعه دون جدوى:
ـ خفّف صوتك أرجوك.. إنك تزعج الركاب..
ـ تعالي اجلسي في مقعدي وتنعمي بالروائح الكريهة قبل أن أسد (بوزي). لقد دفعت آلاف الدولارات لأتنعم برحلة شيّقة ومريحة إلى الوطن الأم لبنان، فإذا بي أجلس قرب المرحاض وأتنشق الروائح المميتة.. أرجوك انقليني إلى مقعد آخر..
ـ لا يوجد أي مقعد شاغر في الطائرة لأنقلك إليه..
ـ هذه ليست مشكلتي بل مشكلتكم أنتم، ومشكلة شركات الطيران الجشعة التي تصمم طائرات تجارية مزعجة بهذا الشكل.
وما هي إلا لحظات حتى أطل قبطان الطائرة، وبدأ يكلمه بهدوء، دون أن يتزحزح عن مطلبه، ألا وهو نقله من مقعده. ولكن أنى له ذلك والطائرة محشوة بأجساد الركاب، وخالية من المحسنين الذين يستبدلون مقاعدهم الصحية بمقعد موبوء قرب المرحاض، وصدقوني، لو كان مقعدي أفضل من مقعده بكثير لقدمته له على طبق من ذهب، ولكني أصبت بما أصيب، وتنشقت السموم كما تنشق، ومع ذلك كتمت غيظي.

مشاجرة أخرى حصلت بين راكبتين، الأولى أحبت أن ترجع مقعدها إلى الوراء لترتاح أكثر، وهذا من حقها طبعاً، فإذا بالمقعد يرتطم برجل الراكبة الثانية، فصاحت من شدة الألم، وراحت تشتم جارتها بصوت عالٍ:
ـ يا سافلة.. يا منحطة.. رجلي خضعت لعملية جراحية، وأنت ترجعين مقعدك إلى الخلف، لقد ارتطم بها وهي تؤلمني الآن كثيراً..
ـ لم يخبرني أحد بذلك.. ثم هذا من حقي وما عليك سوى الانتقال لمقعد آخر..
المشاجرة الثالثة، حصلت بين راكبين، أرجع أحدهم مقعده إلى الوراء، فإذا به يرتطم بكتاب يحمله الراكب في المقعد الخلفي، فيطير من بين يديه، ويصدمه على صدره، لتطير الشتائم على صاحب المقعد الأمامي، بسبب ضيق أفق مصممي الطائرات، وجشع شركات الطيران اللامحدود.

قبل أن تخبرونا عن ارتفاع الطائرة وطولها وعرضها وسعتها، بشّرونا بأن المسافة بين المقاعد أصبحت أوسع، وأن المراحيض قد تم عزلها وشقت الممرات بينها، ليتمكن الركاب من بلوغ المرحاض الشاغر قبل أن يفرغوا ما بطونهم من هواء ضار يزكم الأنوف، ويحدث ثورة داخلية يقودها راكب ثائر تنسينا الثورات العربية على مر العصور.. وإلاّ صمموا طائرة بدون مرحاض.. وعلى الله الإتكال.

[email protected]