خطاب القسم الشهير الذي ألقاه الرئيس آميل لحود يوم توليه الرئاسة هو الذي شجعني على العودة إلى لبنان عام 1999، فلقد ارتحت إليه وآمنت به، وشعرت أن وطناً جديداً مستقلاً سيولد من رحم المأساة، نقدر أن نعيش به أحراراً، نتفاعل معه ويتفاعل معنا، دون خوف أو رعدة. ومع الأيام بدأ الإعجاب يضمحل، والارتياح يتململ، والإيمان يندثر، خاصة بعد أن قبل بتمديد ولايته، فأدركت للحال كم هو ضعيف أمام المنصب، تماماً كباقي الرؤساء العرب، الذين يتمسكون بكراسيهم إلى أن يتذكرهم عزرائيل ويريح شعوبهم منهم، ولكن، وللأسف، يرثهم أبناؤهم وسط هتافات الجماهير الغفيرة لهم بطول العمر، دون أن يرف لهذه الجماهير المسحوقة التعيسة جفن أو يردعها ضمير، وكأن الأوطان مزارع لحكامها، وكأن مواطنيها أجراء عند هؤلاء الحكام المتحفزين دائماً وأبداً للشر، وللقتل، ولسحق طموحاتنا.

خطأ الرئيس لحود الأول أنه لم ينفذ بنداً واحداً من خطاب القسم، وبدلاً من أن يشعر بالذنب، راح يفاخر بهواياته، وبأنه يسبح مسافة كيلومتر في اليوم، لدرجة أن شعبه اتهمه بأنه سبح يوم تشييع الرئيس رفيق الحريري. ولقد أخبرتني الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن، أن الرئيس لحود لم يسألها، حين زارته، إلا عن أماكن الغطس في أستراليا، وهذا من حقّه طبعاً، ولكن ليس على حساب خطاب القسم الذي كان من المفروض أن يأخذ معظم وقته، وان يغطس بمواده مادة مادة حتى ينتهي منه، ويرميه بين أيدي شعبه لآلىء ولا أجمل.
وطالما أن الرئيس لحود يستعمل كلمة (رذالة) إثر كل حادث جلل، أخبره أن قبوله بتمديد ولايته كان رذيلة الرذائل، أوقعت الوطن في دوامة من الفوضى قد تجره إلى حرب أهلية ثانية، لا سمح الله، فإذا كانت مدة الست سنوات لم تروِ غليله في الحكم، فثلاث سنوات إضافية لن تبل ريقه، وجريمة أن يحرق الوطن من أجل البقاء على كرسيه أمداً لا يعرف غير الله مدته، قد يستمر أسابيع، ويطيح به الشعب، وقد يمتد لسنوات وسنوات إلى أن يصبح الأخضر يابساً، والتراب رماداً، والمواطنونجثثاً متناثرة من أجل لقب تافه، ومركز تافه، وسلطة تافهة، وبدلاً من أن يناديه الشعب: فخامة الرئيس، سيرفع بوجهه اليافطات الناقمة، كما رفعها البارحة، وقد كتب عليها: يا رذيل.. فتصوّروا!.

لو كنت الرئيس لحود لاستقلت حالاً، ولاعتذرت من أبناء وطني على عدم تمكني من حمايتهم، وتأمين لقمة عيشهم، وتنفيذ خطاب القسم الذي أقسمت على تنفيذه.. وتخليصهم من احتلال مخابراتي بدأ يقلقهم ويقض مضاجعهم وينهب ثرواتهم، عندئذ أتحول من إنسان مكروه من قبل شعبي، كما كان تشاوشيسكو، إلى إنسان محبوب أقر بأخطائه فنال احترامه.. كما فعل الرئيس بشارة الخوري.

قال لي أحد الموارنة المتشددين: لو خيّرت بين الحريري السني رئيساً للجمهورية ولحود الماروني لاخترت الأول، لأنه كان لبنانياً حتى العظم، همّه الأول والأخير لبنان، بينما لحود فهمّه الأول منصبه، وهمّه الأخير.. السباحة.

لقد أضاء الرئيس لحود شمعة في ليل غربتي، يوم آمنت بطروحاته، وبابتسامته، وبقسمه، ولكنه، وللأسف، أطفأها، وأعادني وأعاد الوطن إلى ظلمة حالكة من أجل ثلاث سنوات عجاف لن يبقى له منها غير صرخة شعب ثائر: يا رذيل.. متى تستقيل!

[email protected]