من أين تأتي‮ ‬هذه التّفجيرات الّتي‮ ‬بدأت تضرب الأحياء في‮ ‬بعض المواقع اللّبنانيّة؟ وهل هنالك خيط‮ ‬يربطها بما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬العراق؟‮ ‬قبل أن‮ ‬ينشر تقرير فيتزجيرالد عن ملابسات اغتيال الحريري،‮ ‬كنت قرأتُ‮ ‬في‮ ‬الهيرالد طريبيون في‮ ‬الطّائرة الّتي‮ ‬أقلّتني‮ ‬من برلين إلى فرانكفورت في‮ ‬طريق عودتي‮ ‬إلى الوطن في‮ ‬الأسبوع الماضي،‮ ‬عن المحادثة الّتي‮ ‬تمّت بين الحريري‮ ‬والأسد،‮ ‬تلك المحادثة القصيرة الّتي‮ ‬هدّد فيها الأسد بتحطيم لبنان على رأس الحريري‮ ‬ورأس جنبلاط،‮ ‬إنْ‮ ‬لم‮ ‬يذعن اللّبنانيّون لكلمته وسياساته‮. ‬هل في‮ ‬هذا التّهديد إشارة ما إلى الأيدي‮ ‬الّتي‮ ‬قد تكون من وراء التّفجيرات اللّبنانيّة،‮ ‬بدءًا باغتيال الحريري‮ ‬وانتهاءً‮ ‬بما‮ ‬يجري‮ ‬اليوم على السّاحة هناك،‮ ‬وما جرى ويجري‮ ‬من تفجيرات في‮ ‬العراق؟‮ ‬وهل بدأ أركان البعث الشّامي‮ ‬يفهمون أن أيّامهم معدودة؟‮ ‬
هذا السّيناريو الّذي‮ ‬أعرضه في‮ ‬هذه المقالة لا‮ ‬يستند إلى وثائق،‮ ‬وإنّما هو من بنات الخيال‮. ‬ولأنّنا نحن العرب عادةً‮ ‬ما كان‮ ‬يتّهمنا الغرب بأنّنا ذوي‮ ‬مخيّلة شرقيّة بينها وبين الواقع بون شاسع،‮ ‬فها أنا أسمح لنفسي‮ ‬بإطلاق العنان لهذه المخيّلة عارضًا أما القرّاء هذا السّيناريو المتخيَّل،‮ ‬كما لو كنتُ‮ ‬مسؤولاً‮ ‬عن وضع استراتيجيّات العالم الغربي‮ ‬فيما‮ ‬يتعلّق بالشّرق الأوسط‮.‬
لقد جاء‮ ‬يوم ‮١١ ‬سبتمبر بمثابة القشّة الّتي‮ ‬قصمت ظهر البعير فيما‮ ‬يخصّ‮ ‬العلاقة الأميركيّة والغربيّة على العموم بهذه المنطقة من العالَم‮. ‬الضّربة الكبرى الّتي‮ ‬أنزلت على نيويورك هي‮ ‬من مخلّفات الانهيار الأكبر الّذي‮ ‬مني‮ ‬به الاتّحاد السّوڤييتي،‮ ‬بعد هزيمته في‮ ‬أفغانستان‮. ‬وفيما‮ ‬يخصّ‮ ‬هذه المنطقة من العالم،‮ ‬فإنّ‮ ‬انهيار الاتّحاد السّوڤييتي‮ ‬شبيه بانهيار الامبراطوريّة العثمانيّة،‮ ‬ومثلما رسمت‮ "‬سايكس بيكو‮" ‬حدود هذه المنطقة من العالم بين نفوذ بريطانيا وفرنسا،‮ ‬فإنّ‮ ‬السّياسة الأميركيّة الجديدة،‮ ‬وهي‮ ‬البديل الاستعماري‮ ‬لبريطانيا العظمى،‮ ‬سترسم الحدود الإثنية داخل الحدود السّياسيّة لهذه المنطقة بينها وبين فرنسا إيّاها‮. ‬
وهكذا،‮ ‬فبعد حرب العراق هي‮ ‬الخطوة الأولى في‮ ‬هذا المخطّط‮. ‬فبعد القضاء على دكتاتوريّة البعث السنّيّ‮ ‬التّكريتي‮ ‬في‮ ‬العراق،‮ ‬صارت أيّام البعث العلوي‮ ‬الشّامي‮ ‬معدودة‮. ‬صحيح أنّ‮ ‬أميركا لم تعثر في‮ ‬العراق على أسلحة دمار شامل،‮ ‬وفي‮ ‬الحقيقة لم تكن ثمّة حاجة للبحث عن هذا السّلاح تحت الأرض أو في‮ ‬المخابئ،‮ ‬فقد كان موجودًا على سطح الأرض وفي‮ ‬الحكم‮. ‬فالبعث التّكريتي‮ ‬هو سلاح الدّمار الشّامل الّذي‮ ‬أحدث دمارًا شاملاً‮ ‬في‮ ‬المنطقة،‮ ‬ناهيك عن تدمير العرّاق وأهله‮. ‬وبما أنّ‮ ‬ما آل إليه الوضع في‮ ‬العراق الجديد الّذي‮ ‬سيسير بلا شكّ‮ ‬في‮ ‬طريق شبه ديمقراطي،‮ ‬وأقول شبه ديمقراطي‮ ‬لأنّنا ما زلنا نحن العرب بعيدين عن هذه المرحلة الدّيمقراطيّة الحقيقيّة،‮ ‬فهي‮ ‬تحتاج إلى ثقافة تنغرس فينا لأمد طويل قبل الحديث عن ديمقراطيّة حقيقيّة،‮ ‬فما زلنا قبائل وملل ونحل ولاء‮ ‬غالبيّتنا إلى هذه الحلقات الطّائفيّة قبل أن‮ ‬يكون إلى دولة المواطنين المدنيّة‮. ‬
وفي‮ ‬حالة العراق،‮ ‬فمن الواضح أنّ‮ ‬الأغلبيّة الشّيعيّة فيه هي‮ ‬الّتي‮ ‬ستكون في‮ ‬مركز السّلطة،‮ ‬وحسنًا تفعل هذه الأغلبيّة إن هي‮ ‬فتحت الباب بحقّ‮ ‬وحقيق للطّوائف الأخرى،‮ ‬من سنّة وأكراد وآخرين،‮ ‬إلى المشاركة الفعليّة،‮ ‬وليس الكلاميّة،‮ ‬في‮ ‬حكم العراق لصالح جميع أهله‮. ‬لأنّها إن لم تفعل ذلك،‮ ‬فإنّ‮ ‬مصير العراق إلى تقسيم بلا أدنى شكّ‮. ‬
ومن هذا المنطلق،‮ ‬ليس الأمر محض صدفة أن‮ ‬يأتي‮ ‬الاتّفاق الفرنسي‮ ‬الأميركي‮ ‬بشأن القضيّة اللّبنانيّة‮. ‬ففي‮ ‬نظري،‮ ‬لقد تمّ‮ ‬الاتّفاق بين الإدارة الأميركيّة والفرنسيّة على إسقاط نظام البعث العلوي‮ ‬في‮ ‬الشّام‮. ‬ومع سقوط البعث الشّامي،‮ ‬فإنّ‮ ‬الطّريق إلى حكم الأغلبيّة السنيّة في‮ ‬سوريّة سيكون مفتوحًا،‮ ‬ليشكّل توازنًا لما جرى في‮ ‬العراق من تغليب الدّور الشّيعي‮ ‬على السنّي‮. ‬وكجائزة على الدّعم الفرنسي‮ ‬لأميركا في‮ ‬هذه الاستراتيجيّة،‮ ‬فإنّ‮ ‬الإدارة الأميركيّة ستفتح الباب لفرنسا من أجل الدخول إلى لبنان ثانية وإبقائه‮ ‬يدور في‮ ‬الفلك الفرنسي‮. ‬بذلك تصيب عصفورين بحجر واحد‮. ‬فمن جهة،‮ ‬تؤمّن الوجود المسيحي‮ ‬في‮ ‬لبنان،‮ ‬ثمّ‮ ‬تقوم برسم حدود شبه ديمقراطيّة إثنيّة طائفيّة في‮ ‬المنطقة من الجهة الأخرى‮. ‬وهذه الخطوات من شأنها أن تهدّئ الغليان في‮ ‬هذه المنطقة المستعرة الّتي‮ ‬تهدّد السّلام العالمي‮.‬
هذه هي‮ ‬الخطوط العريضة لرسم حدود الدّيمقراطيّات الطّائفيّة والإثنيّة،‮ ‬والّتي‮ ‬ستشكّل تكملة لحدود‮ "‬سايكس بيكو‮" ‬السّياسيّة،‮ ‬في‮ ‬هذه المنطقة للمرحلة القادمة‮. ‬هل هذا السّيناريو هو من بنات الخيال؟‮ ‬
السّنوات القادمة ستكشف لنا الكثير الكثير‮.‬