موضوعٍ (التخيير والتسيير) زئبقي المواد، ناقَشه السابقون، وأُناقشه أنا الان، ولَسوف يناقشه اللاحقون، دون التوصل إلى نتيجة قَاطعة وثابتة، ولكن هذا لن يمنعنا، لا الآن ولا غداً، من تشغيل العقل وتسخيره لبلورة الأمور التي تعنينا في الصميم، إذ أَن لا طَاقَةَ توازي طَاقَةَ العقل، فمنه تبدأ الأشياء الدينية والإجتماعية وغيرها، وبه تنتهي، أوَ لم يقل الشّاعر صالح بن عبد القدّوس:
إذا تم عقل المرء تمت أُموره
وتمت أَمانيه وتم بناؤه
أعمى المعرة اعتبر أن لا إمام إلا العقل، ومن يأخذ إماماً غير عقله، كالسائر في الظلمة، يرتطم بالأشياء أنى اتجه:
كذب الظن لا إمام سوى
العقل مشيراً في صبحه والمساء
أما سيد الشعراء.. المتنبي، فلقد اعتبر أن العقل هو الذي يميّزنا عن الحيوان، وكأنه يؤنب كل من أغلق أبواب عقله ونوافذه، ومنع رياح المدنية من الدخول إليه:
لَولا العقول لَكان أَدنى ضيغم
أَدنى إلى شرف من الانسان
إذن، من العقلِ يجب أَن نبدأَ، وبالعقلِ يجب أن ننتهي..
ولهذا أَعتقد أن الانسان مسيّر ومخيَّر في آن واحد: مسيَّر في ولادته وجنسه ومرضه ومماته.. ومخيّر في كلِّ شيءٍ ما عدا ذلكَ.
صحيح أَنَّ البعض منّا يرمي باللائمة على القضاء والقدر.. وأن اللـه يحضِّر لهم كل شيء، فَإذا انتحرَ أَحدهم قالوا:
ـ هكذا اللـه أراد..
وإِذا وقعت طائرة لـم تنل صيانةً كافية، كما حصل لطائرة كوتونو، صاحوا:
ـ هذا حكم اَللـه
في وقت تكون به شركات التأمين في أَسوإِ حالاتها..
ويتناسى هذا البعض تماماً أنَّ اللـه وهبهم عقلاً وإحساساً يهديانهم الى الخير، فَلَو أَنَّ المشيئةَ الالهيةَ تسيِّرنا من البداية الى النِّهاية دون إدراك منا، لسقطت معظَم تعاليمنا الدينيّة، وخاصةً تلكَ التي تخبرنا بأَنَّ اللـه يبعث النّاس يوم القيامة، ويحاسبهم على ما فعلوا في الحياة الدنيا، ثم يكافئهم أَو يعاقبهم في جنة أَو نار.
قال أَرِسطو: إن الفلسفةَ هي العلم بالأسباب القصوى، أَو العلم بالموجود من حيث هو موجود.."
وقال أَفلاطون: إن الفلسفةَ هي العلم بالحقائقِ المطلقَة المستترة وراء ظواهر الأشياء.."
لذلك حاول اليونانيون التقيُّد بالعقل في جميع أحكامهم، وخاصة على الاشياء، فقالوا إن حوادثَ الكون ظواهر تخضع لقوانين يستطيع العقل البشري أن يدركها بنفسه، وأن يحيط بِأسبابها، قريبة كانت أو بعيدة. ولو فهمت الكنيسة الكاثوليكيّة مدى حجم عقلِ غاليلو.. لقالت قولَه بأنّ الارض تدور على نفسها، ولَجنَّبت نفسها
الاعتذار من روحه العظيمة بعد عدة قرون من عدمِ الاستيعاب والمعرفة.
في بعض الحضارات تميل كفّة الميزان مع العقل ضد النقل.. أو مع الروح ضد المادة، أو مع الدين ضد الدنيا، أو مع الذوق الصوفي ضد كلّ من العقلِ والنقل على السواء ، أو قد يكون الميل الى العكس والنقيض
قلت في بعض الحضارات كي لا أقول في بعضِ المذاهب الدينيّة تجنّباً لوجع الرأس، إذ أنَّ مذاهبنا الدينيّة المتعدِّدة الاّراء والفتاوى، هي التي رمتنا في دوّامة من الحيرة قد لا نتخلص منها إلا بالمجابهة العقلية،
أوَ لَم يقل النبيّ العربي العظيم: لا دين لمن لا عقل له.
ولَقَد علَّمونا في الدينِ المسيحي أَنَّ اللـه خلَق الانسان على صورته ومثاله، فبِئس من لا يقول قول عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.. ومن هذه الحريّة تَكَلَّمت.

[email protected]