لو جرى استفتاء حقيقي في قطاع غزة، [ هل أنتم مع عودة الاحتلال ]، لأجاب أكثر من نصف السكان : نعم. هذا على صعيد الافتراض والتجريد، أما على صعيد الواقع، فأظن أنّ نسبة من يؤيدون عودة الاحتلال، لن تكون أقل من سبعين في المئة، إن لم تكن أكثر وأكثر بما لا يخطر على بال مراقب أو محلل سياسي أو حتى مهموم بالأمر !
فكيلُ المليون والنصف من البشر، في هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة، قد طفح فعلاً لا مجازاً. ليس بسبب الاقتتال الداخلي فقط، وإنما قبل ذلك : أيام فساد السلطة السابقة. فلا هذه السلطة حققت لهم الحد الأدنى من آمالهم، ولا مّن جاء بعدها، من قوة أصولية وعدتهم بالتغيير والإصلاح، فإذا هو الحصار والموت وفقدان اللقمة والأمن.
إنّ الأحداث الدامية الأخيرة في القطاع، لن تنتهي، حتى لو حدثت هدنة بين الطرفين، فتح وحماس. فهي هدنة مؤقتة سرعان ما تذوب، ليتجدد القتال، على نحو أكثر ضراوة بعدها. فالنار تحت الرماد، وثمة مستفيدون من تأجيجها، بين الفينة والأخرى.
لذا فالناس تنتظر عودة البرابرة، إذ هم quot; الحل quot; لا نوعاً من الحلّ كما قال الشاعر اليوناني كفافيس في قصيدته الشهيرة. على الأقل، بعودتهم، لن يقتتل الأخوة، وسيكون هناك واجب أخلاقي وقانوني على المحتل بتوفير العمل والطعام للواقعين تحت الاحتلال ! وهو الأمر غير الموجود حالياً مع حُكم الأخوة الأعداء. الأخوة الأعداء الذين يروّعون الآمنين، والذين فشلوا أيما فشل في توفير الخبز للمواطنين وإدارة شئون زنزانتهم الصغيرة.

أتألّم وأنا أكتب هذا الكلام. أتألّم مرتين : مرة لأني سمعته من عوام الناس، وأخرى لأني سمعته من مثقفين محترمين، عُرفوا بوطنيتهم وبتضحياتهم في سجون الاحتلال. لقد طفح الكيل حقاً، وما عاد فيها من متسع للصبر والانتظار : فإما حياة محترمة في سلطة محترمة، وإما احتلال يعود ويتحمّل مسئولياته. أما صراع الديكة على سلطة تلفظ الأنفاس، وعلى كراس منهارة، ويكون ثمن هذا الصراع، خراباً على كل الأصعدة، فلا وكلا، وألف كلا.
فتح وحماس أوردتا شعبنا مهاوي التهلكة. وفتح وحماس ستوردانه إلى مهالك ألعن. فتح وحماس لم تتفقا ولن تتفقا. والذي يدفع الثمن هم الناس العاديون : هم غالبية هذا الشعب. وغالبية هذا الشعب كلّت وملّت. فلا اتفاق مكة نفع ولا غيره بنافع. فما هو الحل ؟ إنّ كل الحلول التي جُربت لم تنفع مع هذين الفصيليْن. ويبدو أنها لن تنفع. إذ لا أحد منهما يؤمن بالشراكة السياسية حقاً. وكل منهما يريد إقصاء الآخر عن السلطة. فلا مكان، كعادة العرب، لرأسيْن في سلطة واحدة، حتى لو كانت هذه السلطة منهارة وتلفظ أنفاسها الأخيرة.
لن نتكلّم عن الإساءة الكبرى التي يلحقها الطرفان بتاريخنا ومأساتنا. فالطرفان في الواقع لا يهمّهما هذا الأمر. والطرفان في الواقع استكلبا في محاولة القبض على امتيازاتهما وصلاحياتهما [ هذه الامتيازات والصلاحيات المضحكة ] لذا من الصعب أن توجد في المستقبل حلول. فما يصلح مع غيرنا من البشر الطبيعيين، لا يصلح معنا نحن البشر غير الطبيعيين.

وماذا بعد؟
لا أحد يعرف. يتفق أبو مازن مع مشعل، ويصدرا أوامرهما، فلا ينفذها أحد ! أمراء الحروب هم الموجودون في أرض الميدان، وهم الذين يقررون لا عباس ولا مشعل. هذه هي الحقيقة المرة : الصراع في جوهره هو صراع على سلطة منهارة. والأمراء يريدون اقتسامها، فإذا لم يرض طرف أشعلها خراباً وموتاً، يدفع ثمنه الناس وأبناء الناس.

أحد المثقفين قال لي بأنّ البرابرة هم كل الحل الآن. ونحن في انتظارهم. فلا حلول أخرى ! ليكن.. غير أنّ البرابرة لن يعودوا. فهم غير راغبين، وفي عودتهم خسرانهم. ما لهم هم وطنجرة الضغط هذه ؟ لقد ارتاحوا من مشاكل وأعباء غزة ولن يعودوا إليها. قلتُ له، فقال تكون مصيبة ! فماذا سنفعل حينها ! فلا نحن مرتاحون مع سيدي ولا مع ستي. يا رجل دعنا نأمل بعودة البرابرة، وأرجوك لا تُفشّل هذا الأمل !