نعم صديقي.. في العراق " مسيحيون"!!

نزار عسكر من ستوكهولم: منذ عقود والعراق يغلي..!! تتصارع فيه متضادات. تتغير فيه أرقام، تكسو حقيقة الأحداث فيه الآف الأطنان من الرمال!
عقود مرت، و بذرائع، أتخذت مسميات عديدة لها، جرى تغيب ماجرى ويجري فيه، لا بل تشويهه، وتصديره الى العرب خصوصا، والى العالم عموما،

مسيحيون عراقيون يرتلون الصلاة في احدى الكنائس العراقية
مقاسات مفصلة على ذوق نظام شمولي، صَهَرَ الأنسان والمجتمع، وكل مكوناتهما، في دولته التي ما أن سقط، حتى سقطت معه، وأحالت العراق ركاما على أنقاض ما يجري الان، من تقاذف حمم ذاك الغليان!!
منذ 9 نيسان عام 2003، أنفتحت عيون العرب على عراق آخر! مختلف تماما عما عرفوه، او تلقنوه! عراق يقذف نارا!! يتصدر نشرات الأخبار، تتسابق الأحداث المروعة فيه!
أنصدم كثيرون. لكن قليلون أدركوا إن مايجري ليس سوى مظهر من مظاهر أستحقاق غياب صورة العراق الحقيقة عنهم، او تغيبهم عنه!
سألني صديقي المغربي، وهو مندهش من قيام مسلحين في كانون الأول ( ديسمبر ) من العام الماضي 2004، بنسف كنيستين في الموصل، بشمال العراق، قال لي مستغربا: هل هناك مسيحيون في العراق!؟ وهل الكنائس التي أُحرقت قديمة، أم بناها المحتل الأمريكي!! بعد سقوط نظام صدام حسين في نيسان ( أبريل ) من العام 2003؟
كغيره من الأخوة العرب، خاصة الأجيال الجديدة، تبدو صورة الأحداث في العراق، بعيون صديقي المغربي، وغيره الكثير، مشوشة، ضبابية، مغلفة بالكثير من الأفتراءات ولوي الحقائق.
فأفتراض أن يكون المحتل الأمريكي هو الذي بنى هذه الكنائس، أقرب الى خيال وتفكير صديقي، من أن يصدق حقيقة ان الكنائس قائمة منذ مئات السنين في العراق.
هذا المستوى من التفكير، هو أنعكاس لتفكير الأغلبية الساحقة من المواطنين العرب، الذين لم يعرفوا – حتى الآن – انهم هدف منظومة شمولية دكتاتورية، يرعاها مغتصبون للسلطة، تتعمد تجهيلهم وحرف الحقائق عنهم، لان أصحابها يغتنون على جهلهم، ويحكمون بأسمهم، ويصنعون الوهم لهم، وكل ما خالف ذلك هو " مؤامرة أمبريالية – صهيونية"!!
نعم ياصاحبي، هناك مسيحيون كثيرون هم عراقيون أصلاء في العراق!! وهم بشهادة مؤرخين نزيهين، سكان اصليون بنوا هذا البلد، وكان لهم أسهامة هامة في نهضته وعصرنته.
الوجود المسيحي في العراق، غائب عن أغلبية العرب! وما وصلهم او يصلهم يكاد يكون قليلا، إن لم يكن مشوها!
بعد سقوط النظام السابق في العراق، وفي فورة الأوضاع الأمنية الكارثية التي حلت فيه، برز أسم المسيحيين العراقيين على واجهة الأحداث، بعد تعرض كنائسهم في عدد من المدن العراقية الى الحرق والتفجير، وإجبار النساء المسيحيات في الموصل وغيرها التحجب عنوة، إضافة الى قتل أصحاب محلات بيع الخمور، وغيرها الكثير من الأعتداءات التي شملت الخطف والقتل والأبتزاز والترويع!
ويجمع الكثير من المؤرخين والباحثين، على ان المسيحيين العراقيين هم شعب واحد، يتألف من مكونات قومية عديدة، تغيرت أسمائها، على مر الزمن، بفعل عوامل تاريخية وسياسية وأقتصادية واجتماعية، لاحصر لها. وهي ( الآشوريين، الكلدان، السريان).
يشكل هؤلاء بحسب أكثر التقديرات تواضعا، من 3 – 5 % من مجموع السكان في العراق اليوم!
وعلى رغم تدهور أوضاع المسيحيين في العراق حاليا، مع باقي العراقيين، فقد شاركوا في الأنتخابات الأخيرة، سواء في العراق، او في الدول التي جرت فيها في الخارج، لكن بسبب تشتت أحزابهم، وتمزق وحدتهم الداخلية، وحرمان مئات الالاف منهم في سهل نينوى بشمال العراق، من التصويت، حصلوا على نتائج متواضعة.


فبحسب النتائج الرسمية التي أعلنتها المفوضية العليا للأنتخابات في العراق، فأن نسبة ممثلي المسيحيين في المجلس الوطني العراقي، بلغت 2،1 %، في حين وصلت في المجلس الوطني الكردستاني الى 4،5 %، أما نسبة التمثيل في مجالس المحافظات فقد بلغت 0،5 %.
ومعلوم ان هذه النسب لا تعكس تمثيلا مناسبا لهم، حيث تقدر نسبتهم بـحوالي 5 % من مجموع الشعب العراقي، في الداخل والخارج. والذين فازوا في الأنتخابات، هم:

المجلس الوطني العراقي

وجدان ميخائيل ( مستقلة )
جاكلين قوسن زومايا (الحزب الوطني الاشوري )
كورئيل ايشو خامس (منظمة كلدواشور في الحزب الشيوعي الكردستاني)
يونادم يوسف كنا (الحركة الديمقراطية الاشورية)
ابلحد افرام ساوة (الاتحاد الديمقراطي الكلداني)
نوري بطرس (الجمعية الثقافية الكلدانية)

المجلس الوطني الكردستاني

بايزار ملكو روهان (الاتحاد الديمقراطي الكلداني)
كلاويز شابا (الحركة الديمقراطية الاشورية)
اندريوس يوخنا كيوركيس (الحركة الديمقراطية الاشورية)
روميو حكاري (حزب بيث نهرين الديمقراطي)
جمال شمعون ايليا (الجمعية الثقافية الكلدانية)


الادوار التاريخية
ويعتقد البعض ان الوجود المسيحي في العراق يمتد الى حوالي الفي سنة تقريبا. وكان لهذا الوجود دورا بالغ الأهمية في نهضة العراق، قديما وحديثا،

احد الاديرة القديمة
شهادة أهم المؤرخين والباحثين مسلمين قبل مسيحيين! وهناك الكثير من الشواهد التاريخية الماثلة حتى الان تشهد على هذا القدم، منها الأديرة والكنائس القديمة التي لازال قسم منها باق يصارع الزمن، فيما اندثر الكثير منها، وأصبح الان تحت الأرض!
المؤرخ سيّار الجميل: " إنهم من قدامى العراقيين والمسيحيين في العالم "..!!
سألت " إيلاف " الدكتور سيّار الجميل، وهو مؤرخ وأكاديمي معروف: " كمؤرخ عراقي مسلم، كيف تقّيم بأختصار دور المسيحيين العراقيين في نهضة العراق في التواريخ القديمة والوسيطة والحديثة"؟ فأجاب: " ان من الصعوبة بمكان ان يختصر تاريخ اجتماعي مثقل جدا بالاحداث والمواقف والادوار والابداعات الحضارية في جواب كهذا.. ومع كل هذا وذاك، فان المسيحيين العراقيين يعتبرون من قدامى العراقيين وقدامى المسيحيين في العالم، وخصوصا في اقليم الموصل الممتد في كل شمال العراق، بما يلحق به من مناطق في بلاد الجزيرة الفراتية وصولا الى ماردين وديار بكر. ان الموصل مركز اقليم بلاد الجزيرة (القسم الشمالي من موزيبوتيميا: اي بلاد ما بين النهرين ) تعد مركز حقيقيا ليس للمسيحيين العراقيين وحدهم، بل لكّل المسيحيين في الشرق، اذ تنتشر أعرق الكنائس والبيع القديمة في كل من المدينة القديمة وأطرافها، فضلا عن عشرات الاديرة التي يعود تاريخها الى بدايات القرن الاول الميلادي. ولقد دافع المسيحيون العراقيون الاوائل عن وجودهم ومعتقدهم دفاعا مستميتا، ولم تزل قصة مار بهنام ( الذي يسمونه بالشهيد ) وأخته ساره يتناقلها الناس من مسيحيين ومسلمين، بل وتزور الناس دير مار بهنام الواقع قرب قرية النمرود التاريخية ( 30 كم جنوب شرق الموصل) ليقرأوا تلك الملحمة المشهورة عن الشهيدين الرائعين، فضلا عن قصص وملاحم الرهبان المسيحيين الموصليين الاوائل: مار ميكائييل ومار كوركيس ومار اوراها ومار متّى ومار يوحنا ومار توما ومار يعقوب".

الأب أدريس حنّا: تاريخ المسيحية في العراق يمتد الى حوالي الفي عام

هذا التاريخ القديم لوجود المسيحية في العراق، أكده رجل دين مسيحي من العراق يخدم أبناء رعيته السريان في السويد. ومعلوم ان السريان هم جزء مهم من هذا الشعب.

الاب ادريس حنا
الأب أدريس حنّا، المولود في بلدة قرقوش التابعة للموصل، يقول لـ " إيلاف ": " منذ ما يقرب من ألفي عام، وجدت المسيحية في العراق. وهناك تقليدان عن دخول المسيحية في العراق أحدهما ينسب البشارة المسيحية للقديس توما الرسول، والآخر يقول بأن القديسين أداي وماري، هما اللذان بشّرا في أعالي ما بين النهرين ثم نزلا جنوباً عبر حوض ما بين النهرين. لكن كلا التقليدين قديمين جداً ويمتدان تقريباً إلى نهاية القرن الأول المسيحي"
يضيف: " هناك أديرة وكنائس قديمة جداً في العراق، وما يوجد مطموراً كآثار في التراب هو أكثر بمئات المرّات مما هو مرئي وموجود حالياً. هذه حقيقة كبرى، ولم يتسنّى إلى الآن إبراز الدور المسيحي في بناء حضارة العراق خلال الألفي عام المنصرمة، فهناك تجاهل كبير لما قدّمته المسيحية في العراق".
من الأديرة والكنائس القديمة الموجودة حالياً، ما نشاهده من الكنائس القديمة في الموصل وحواليها، مثل دير مار بهنام شرق الموصل، وديرمار متى شمال الموصل، ويعود أصل قصّتهما إلى بداية القرن الرابع الميلادي. واقدم كنيسة في الموصل هي كنيسة مار أشعيا في الموصل القديمة. فقد وجدت في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد. وهناك عشرات الكنائس القديمة جداً في الموصل، منها الدير الأعلى، وكنيسة الطاهرة القديمة بجوار مطرانية الكلدان التي أحرقت قبل شهور. وكنيسة الطاهرة للسريان في القلعة، وكنيسة مار توما من القرن الثامن الميلادي، وكنيسة مار كوركيس للكلدان من القرن الثالث عشر، و كنائس مار شمعون الصفا ومار بثيون،و مار حوديني، وكلها تقع تحت مستوى الشارع بعدة أمتار دلالة على قدمها.
ويؤكد الأب أدريس الذي يخدم حاليا أبناء الكنيسة السريانية في ستوكهولم بالسويد: " المسيحية كانت مزدهرة في جنوب العراق كما في شماله. فهناك أثر هامّ جداً وهو كنيسة ( كوخيه ) قرب سلمان باك جنوب بغداد، قد يكون الأقدم على الإطلاق في تاريخ المسيحية في العراق. وتؤكد مراجع أن مدينة الكوفة تضمّ فيها وحواليها مئات المواقع الآثرية المسيحية، كما في كتاب (( الكنائس والديارات المسيحية لمحمد سعيد الطريحي )). أما مدينة تكريت فمن المعرف أنها كانت مقراً لمفريانية سريانية، وقد تناقلت الألسن شفهياً، العثور على كنائس قديمة تحت الأنقاض عندما كانت تشيّد قصور النظام السابق في هذه المناطق. ويتداول الناس في تكريت إلى اليوم قصصاً مسيحية كثيرة تذكر التقليد والحياة المسيحية هناك، وهناك من العائلات الإسلامية من يفتخر بأصل أجداده المسيحيين، ومنهم من يحتفظ سرّاً بآنية مقدسة وآثار مسيحية تناقلها عن أسلافه، كما أن هناك عائلات مسلمة من تكريت لها صِلة قرابة بعائلات مسيحية في مناطق قرب الموصل، وأسماء العائلات واحد إلى اليوم مع بعض التغيير. وفي شمال العراق، فلا تزال مئات القرى والمناطق تحمل أسماء سريانية قديمة دلالة على عمق الإرتباط المسيحي في تراب العراق".

التنوعات المسيحية العراقية

وتدور بين الباحثين والمؤرخين، نقاشات وسجالات كثيرة حول تنوع المسيحيين.

الباحث سيار الجمّيل
الدكتور سيّار الجميل يقول عن التنوعات المسيحية العراقية: " إن المسيحيين القدماء في العراق يتنوعون ايضا، فمنهم من يعود أصله الى الجرامقة (أهل الموصل القدماء جدا) والنساطرة وهناك اليعاقبة والسريان الاراميين الكلدان الاثوريين وكان منهم من الارثودكس الشرقيين التابعين للكنيسة الشرقية وهناك من المسيحيين العراقيين المغاربة. ان تسمية المشارقة والمغاربة إنما جاءت اعتمادا على نفوذ الكنيستين: النسطورية ( شرق حدود المملكة الرومانية فسمي اتباعها بالمشارقة)، والارثوذكسية اليعقوبية ( غرب حدود المملكة الفارسية فسمي اتباعها بالمغاربة). وبقي المسيحيون هكذا لقرون طوال حتى انبثاق الملة الكاثوليكية.
ويرفض الجميل إدخال القارىء في الفروقات الكنسية واللاهوتية بين النساطرة واليعاقبة، " لان الاختلافات بين المذهبين كبيرة جدا وخصوصا حول التثليث الالهي.. ولكن من المعروف ان اليعاقبة هم الاقرب الى التوحيد مقارنة بغيرهم من المذاهب.. وهذا شأن كنسي نتركه لاصحابه من دون ان نتدّخل في شأنه" كما يقول.

الكاثوليكية العراقية

أيضا يتناول الجميل في حديثه الى " إيلاف " تاريخ أنتشار الكثلكة في العراق، يقول: " لقد بدأت الكثلكة بالانتشار بين المسيحيين العراقيين ومحيطهم بعد انقسام عام 1551 م الذي لم يدم طويلا، وقد توّسع انتشارها بصورة كبيرة بعد انقسام عام 1681 م، ومن البديهي ان تكثلك الكلدان الاثوريين / السريان في المناطق المختلفة، كان تدريجيا، فعلى سبيل المثال فإن القوش التي شهدت اول دخول للكثلكة اليها في العام 1551 م ( برغم انني اشك في هذا التاريخ فان اول حملة للكثلكة كانت في القرن الثامن عشر )، كانت لم تزل خليطا من النسطرة والكثلكة الى الربع الاخير من القرن الثامن عشر، بل وحتى بداية القرن العشرين كان هنالك مطرانا من القوش هو مار ايليا ابونا والذي عاد الى الكثلكة عام 1921، وجزيرة ابن عمر لم يكن فيها نحو سنة 1787 سوى اربع عوائل كلدانية والباقي كانوا نساطرة او يعاقبة، وسلامس في ايران حتى سنة 1797 لم تكن قد تكثلكت كليا بعد، وفي ابرشيات العمادية وزاخو ودهوك وعقرة كان اكبر انتشار للكثلكة فيها في القرن التاسع عشر اثناء تدبير مار يوسف اودو لمطرانية العمادية، واستمر انتشارها الى منتصف هذا القرن، فقرية كواني من اعمال العمادية وبادرش جوار سرسنك والشيخان لم تتكثلك الا في الخمسينات من القرن العشرين، بل وما زال لحد الان العديد من عوائلها نساطرة غير متكثلكين"..
ان الحركة الكاثوليكية التي تأثروا ببعثاتها في القرن الثامن عشر انشطر عنهم الكاثوليك.. المسيحيون العراقييون قدماء جدا وجذورهم مختلفة واحتوت الموصل ايضا منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر الارمن الذين تسرب قسم منهم الى بغداد.
ويتعامل المسيحيون في العراق باللغة العربية وهناك قرى سهل الموصل لم تزل الارامية لغتها الاساسية ( وهي لغة قديمة تجد شراكتها مع العربية باعتبارهما من جذر واحد ) كما وان الارامية لغة السيد المسيح ( ع) لم تزل لغة الطقوس الدينية في البيع والكنائس العراقية.. اما البروتستانت في العراق فهم قليلون بل ونادرون.

الادوار الحضارية

ان الادوار الحضارية لهذه الاقوام العريقة قد تكاملت سياسيا واجتماعيا مع القوى المحلية العراقية جميعا، ويمكن القول بأن الذي أدمجها هذا الادماج التاريخي الرائع والذي يعّبر عنه: تعايش سلمي واجتماعي قّل نظيره في اماكن وبيئات اخرى لأمم اخرى في العالم له دوافع حقيقية وتاريخية، يمكن أجمالها بالاتي:
اولا: الشعور الجمعي الاجتماعي المسيحي بأنه متوارث للنزعة المسالمة التي لا تقبل الاعتراض او الاختلاف او التباين.
ثانيا: توارث قيم التعايش واسلوب الحماية لمجتمع كان العراقيون يعتّزون به اعتزازا كبيرا حتى منتصف القرن العشرين.
ثالثا: موجات التحدّيات الخارجية القاسية التي عانى منها المجتمع العراقي كله على امتداد تاريخه الطويل، خلق حالة شراكة تاريخية حقيقية نادرة الحصول في وقوف الجميع مسلمين ومسيحيين للاستجابة معا الى التحديات، ومعاناتهم معا من المكابدات نفسها.
لقد وصلت حالة الاندماج الاجتماعي الى درجة الشراكة في التقاليد والعادات والالبسة وحتى اللغة، فالقرى المسيحية الواقعة في مجتمع كردي يتكّلم اهلها الكردية والقرى المسيحية الواقعة في مجتمع عربي يتكّلمون العربية وبنفس اللهجة. أما المستوطنات المسيحية القديمة منذ اكثر من الفي سنة فالناس فيها يتّكلمون الارامية (أخت العربية )..
برز منذ عهد صدر الاسلام وامتاداد بالامويين ومرورا بالعباسيين العديد من نخب الشعراء والعلماء واللغويين والمترجمين والاطباء المسيحيين العراقيين، ويكفي ان الفلسفة الاغريقية نقلت الى العربية بفضل المسيحيين العراقيين، وقام الاطباء المسيحيون العراقيون بأدوار بارعة في الجراحة وعلم الادوية، كما وكان لقسم منهم ادوار حضارية في الفن والهندسة والتاريخ والرحلات والصناعات والزراعة وهناك لغالبيتهم براعة في المهن وخصوصا البناء والسفتجة والتجارة وعلاج الاسنان والنجارة والحدادة وصناعة الحلويات والمعجنات..
اما دور المرأة المسيحية العراقية، فكان له أهميته البالغة لما قدمته للمجتمع من خدمات خاصة وخصوصا في فن التطريز وصناعة الحلويات والتمريض والتعليم.. ان هكذا ادوار وبراعات ما كان لها ان تتطور الى اسمى مراقيها لولا حالات السلم والامان التي عاشها المسيحيون العراقيون وهم في كنف المسلمين العراقيين وتأمين هؤلاء على شركائهم المسيحيين وعلى ارواحهم واموالهم واملاكهم واعراضهم ونواميسهم وعباداتهم وكنائسهم.. واحترام المجتمع عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وصلواتهم.. بل نجد شراكة وتعايشا في بعض الطقوس من المحلّيات المركّبة.
من جهته يقول ألأب أدريس حنا لـ " إيلاف " ان المسيحية الآن أقلية ضئيلة ولم يكن لها الحرية إلا منقوصة لذلك انحسر دورها، وضعفت كثيراً".
ويضيف: " فقد كان أغلب المقربين من حاشية الخلفاء العباسيين في بادئ ألأمر مسيحيون، منهم الأطباء الذين خدموا الخلفاء، مثل بختيشوع طبيب المتوكل في نهاية القرن التاسع".
ويذكر كتاب (( أحوال المسيحيين في خلافة بني العباس، بقلم د. جان موريس فييه )) أن بختيشوع كان ينتقل في بغداد بعربة من خشب الأبنوس، وكان له حوالي ألف خادم!
ناهيك عن الكتّاب والمترجمين الذين نقلوا الكتب اليونانية إلى السريانية ثم العربية. ومن اسماء الكثيرة نذكر حنين ابن اسحق، الطبيب ورئيس المترجمين الذي نقل كتب أفلاطون وارسطو إلى العربية، وابن العبري. وغيرهم بالمئات.

فلسفة الشراكة والتعايش العراقية

في العام الماضي، عندما أشتدت حملة تفجير الكنائس، أستغرب كثيرون من ما كانت تنقله شبكات التلفزة العالمية والفضائيات، من مشاهد تأثر وحزن

هلع بعد تفجير كنيسة
المسلمين العراقيين لحرق وتفجير بيوت العبادة المسيحية!
العراقيون وحدهم لم يستغربوا من دموع المسلم التي تنهمر من أجل أخيه المسيحي. فالمسيحيون والمسلمون عاشوا في هذا البلد عقود من الزمن كأخوة.
يخبرنا التاريخ بشقّيه العراقي المحلي والمسيحي الكنسي ناهيكم عن الذاكرة التاريخية الجمعية للعراقيين اجمعين، بأن هناك تعايشا اجتماعيا في العراق يندر وجوده او نظيره لدى الامم الاخرى وخصوصا في دواخل المجتمع العراقي بين المسلمين والمسيحيين ( وحتى اليهود )، ولكن ان كان اليهود يؤثرون الشراكة في العمل نهارا والعزلة في سكناهم في محلة اليهود بالموصل او عقد اليهود ببغداد كما هو حالهم على امتداد مواطنهم في ما يسمى بمحيطات (Gates )، فان المسيحيين العراقيين نجدهم مندمجين اندماجا شبه كامل بالحياة الاجتماعية العراقية كاملة، وخصوصا في مدن الموصل وبغداد وكركوك والبصرة.
ويتحدث الدكتور سيّار الجميل عن هذه الشراكة: " وقعت وأنا أتحّرى تاريخ الشرق الاوسط الاجتماعي على مستندات طابو لملكيات عقارية وخصوصا في السكن يعود تاريخها على امتداد القرون المتأخرة منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فكم وجدت ان هناك شراكات لمسلمين مع مسيحيين موصليين او بغاددة في دار واحدة يقسمونها قسمين او اكثر يتوزعون عيشهم المشترك فيها ضمن سند عقاري واحد ولكن كل يستخدم له بابا على الطريق او الزقاق. وقد لمست ذلك ايضا في سندات عقارية وعقود تجارية لدكاكين مشتركة او شركات مساهمة او قوافل بضائع.. واستطيع ان اقول مجاهرا بناء على تاريخ وثائقي مشترك بأن الطرفين ارتبطا بمحبة غامرة واعتزاز كبير بالاخر ويعّبر عنها رجال الدين من كلا الطرفين عندما يزور احدهما الطرف الاخر تبريكا من هذا لمناسبة ذاك! بل ويشارك الطرفان فواجع واتراح احدهما الاخر!
دعونا نتأمل كم كان ينتشر من أديرة ( او: ديارات ) في العراق كلّه وخصوصا في قسمه الشمالي.. لنتامل أنها تقوم لوحدها في العراء بعيدا عن المدن وأسوارها، ولقد بقيت تلك الاديرة القريبة من المدن صامدة بوجه الهجمات والغزوات الخارجية.. في حين اننا نقف على ديارات عراقية عدة ( عن كتاب الديارات ) كانت تمتد بين بغداد والموصل لم نجدها اليوم، فلقد اندثرت نتيجة الغارات الخارجية عليها.. لقد بقيت الاديرة القديمة اليوم قرب مدينة الموصل في اروع المناطق جمالا وخصبا.. بقيت تحيا وتعيش منذ الفي سنة بهدوء وأمان من دون أن يؤذيها اي بشر من العراقيين، وحتى القرويين الذين يجاورونها يعتبرونها اماكن عبادة يحترمونها ولا يقتربون منها.

العلاقات المسيحية – الأسلامية في العراق تبشّر بالخير

أما الأب أدريس فيقول: " إنّ العلاقات المسيحية الإسلامية في العراق تبشّر بالخير، وهذه أقولها بتفاؤل، لأنّ المسيحيين مشهود لهم بالإخلاص والأمانة والحكمة والتعقّل، وهذا ما يحترمه المسلم في المسيحي. أما الهجمات ضد المسيحيين حالياً فهي خارجة أخلاق مجتمعنا العراقي، وإذا كان البعض من النفوس الضعيفة قد غُرر بهم، ومنهم رجال دين، فالسمّ قد دُسّ من خارج العراق بالتأكيد، وسيزول سريعاً حتماً، لكن لن ننسى التضحيات الجسيمة التي أودت بمسيحيينا، كما بالمسلمين من شعبنا العراقي في هذه الظروف العصيبة. والمستقبل سيبشر بالخير حتماً، عند استتباب الأمن والهدوء وعودة منطق العقل والبناء بدل الهدم والتخريب".

دوري حضاري على مر الأزمنة

وفي العصر الحديث، لا ينكر أحد ما الذي قدّمه المسيحيون العراقيون من أدوار ومواقف ومعطيات حضارية في الفن والادب واللغة والجغرافية والتاريخ والطباعة والصحة والفهرسة والتربية والتعليم والطب وطب الاسنان والصيدلة وحتى في الادارة والقضاء والمحاماة والصحافة والترجمة والعلوم الاكاديمية والتأليف والفن والغناء والمسرح.. وبناء المدارس ناهيكم عن بقاء فن البناء الى امد قريب. لقد برعت نخبة عراقية من المسيحيين الذين لم يكونوا يمّيزون انفسهم عن بقية ابناء العراق وخصوصا في القرن العشرين..
كذلك حفظت الأديرة القديمة اللغة العربية من الأندثار والضياع! حيث عمد الربان والأباء على حفض نفائس الكتب العربية في مجالات العلوم المختلفة خوفا من تلفها وإحراقها على يد الغزاة الذين توالوا على غزو بلاد الرافدين.
واشتهر العديد من الرهبان والقسس والمطارنة كعلماء ورحالة وشعراء ومدرسين في اللغة العربية الى جانب السريانية الارامية. وقد كان من أهم تلك البعثات: ارسالية الآباء الدومنيكان الذين وصلوا مدينة الموصل سنة 1750م وقدموا خدماتهم الطبية والتعليمية ومنها تأسيس مدرسة فرنسية عرفت بمدرسة الآباء الدومنيكان التي خرجت طبقة من المثقفين والعلماء المحدثين استمر تأثيرهم حتى القرن العشرين.. اذ كان لهم تأثيرهم في نشوء المسرح بالموصل لأول مرة في تاريخ المنطقة، وكان لهم تأثيرهم في تأسيس المطابع ونشر العدد الكبير من الصحف.. فضلا عن الطباعة وخدمات اخرى.
بالطبع، تحري تاريخ المسيحيين العراقيين يتطلب جهدا هائلا لايعبر عنه اي تحقيق او مقال، وما هذه السطور سوى محاولة متواضعة لتوضيح ماخفي من حقائق عنهم!


الجزء ( 2 ) " مسيحيون آشوريون: بين قدم التاريخ والواقع الراهن"

[email protected]