شجرة فلفل رمز لعلاقة الشرق بالغرب في قرية فلسطينية


اسامة العيسة من ارطاس (الضفة الغربية): استهوت قرية ارطاس الصغيرة على بعد 3 كلم فقط جنوب مدينة بيت لحم، الباحثين والمستشرقين في بداية القرن الماضي، لطبيعتها الجميلة وقدمها وقربها من القدس وبيت لحم.
وسكن هذه القرية الصغيرة الجميلة التي يعني اسمها باللغة اليونانية (الجنة المقفلة) كثير من اولئك الذين فتنوا بالشرق، وعاشوا بين اهلها البسطاء وكتبوا عنهم.


علية شرف
ما زال هناك مواقع في القرية تحمل ذكرى اولئك الغرباء الذين تسللوا، في لحظات تاريخية فارقة، الى القرية.
وفي مدخل القرية مثلا يوجد منزل قديم مبني على تلة وما زال السكان يسمون ذلك الجزء من القرية باسم (شعب الست لويزة).
ولكن غالبية الجيل الجديد في لاقرية لا يعرفون من هي (الست لويزة) هذه التي ما زالت المنطقة تحمل اسمها.
واهم معلم في (شعب الست لويزة) هو ذلك المنزل القديم المهجور الذي تقف امامه، كبيرة وضخمة وشامخة، شجرة غريبة جدا عن النباتات الفلسطينية.
ويصاب المرء بالدهشة عندما يعلم انها شجرة فلفل.
ويقول محمود صالح شاب من القرية "امر يوميا من هذه المنطقة وارى الشجرة عن بعد، ولكن لم اعرف انها تحمل قرون الفلفل الا حديثا، واستغربت، لان الفلفل كما نزرعه هو عبارة عن شتل صغير".
ويقول موسى سند مدير مركز أرطاس للتراث الشعبي، بان شجرة الفلفل هذه مرتبطة بمن سكن المنزل من باحثين اجانب.
ويسمى المنزل ب (علية شرف) وهو مشرف على دير راهبات الجنة المقفة أرطاس بمبناه الأخاذ، وتسكنه راهبات ياتين اليه من مختلف انحاء العالم.
وجاء اسمه من مكان العالي والمشرف على معالم هامة في القرية التي تقع بين التلال.
فهو يشرف ايضا على مسجد القرية والبلدة القديمة وعين القرية، والتي ما زالت بعض النساء تغسل الملابس عندها بالطريقة القديمة (الدق بالحجر) على الملابس.


الحاجة حليمة
وارتبط هذا المنزل بالباحثين والمستشرقين الغرباء الذين تسللوا إلى أرطاس، وكان مقرا لبعثات تبشيرية وبحثية، زارت واستقرت واقامت في القرية وبعض هؤلاء ادخلوا زراعات جديدة الى القرية وادخلوا تربية النحل، ومنهم باحثة أعدت كتابا عن النباتات في القرية نشر في اللغات الحية، وترجم للعربية.

دير القرية
من هؤلاء الذين كان هذا المنزل نقطة انطلاق لهم الألماني بيتر ميشولام والفرنسي بالدفسيرغير والامريكية مانير وابنها والتي يعود الفضل لها، ولغيرها، إدخال زراعة ألدراق والمشمش الأمريكي والأجاص للقرية.
ومن هؤلاء أيضا، الامير هنري، ابن الملكة فكتوريا، الذي اشترى أرضا في القرية عام 1858، وقنصل بريطانيا وقتذاك السيد (فن)، والمنيسيور (ماريوانا سوير)، وهو اسقف من الارغواي، وفيليب بالدنسبيرغر الذي عاش منذ طفولته في هذا البيت واصدر عام 1913 كتابه (الشرق الذي لا يتحرك) وهو الكتاب الذي اصبح مشهورا بين اوساط المستشرقين وساهمت النتائج التي توصل لها صاحب الكتاب في ترسيخ صور نمطية عن الشرق لدى الباحثين الغربيين.
واشهر من سكن البلدة هي الباحثة الفنلندية هيلما جرانكفت، والتي اصبح اسمها معروفا على نطاق واسع، والتي عشقت هذه القرية بشكل كبير وغريب واطلق عليها السكان اسم الحاجة حليمة، وهو الاسم الذي ما زالت تعرف به حتى اليوم.
وأصدرت جرانفكت خمسة كتب عن القرية تعتبر من المراجع العالمية عن الانسان الفلسطيني في فترة تحول تاريخي.
وما زالت ابحاث جرانفكت مثيرة للباحثين، وشملت مناحي مختلفة من حياة الانسان الفلسطيني كالموت والميلاد والزراعة والعرس والتقاليد ومازال طلبة من جامعات العالم يتوافدون على قرية ارطاس اقتفاءا لاثار هيلما.


الست لويزة
وهناك باحثة اخرى اقل شهرة من هيلما جرافكت هي لويزا بالدسترجر التي يطلق عليها السكان الست لويزة.
وسكنت لويزا في القرية حتى سن متقدمة من حياتها وعاشت في منزل (علية شرف) واصدرت مع زميلة اخرى لها هي ماري جرس كروفوت كتابا عن

شجرة الفلفل
لنباتات في فلسطين عام 1931، وكتابا أخر جمعتا فيه 38 قصة شعبية من ارطاس، ترجمه إلى العربية الباحث الراحل الدكتور عبد اللطيف البرغوثي.
وخلال 90 عاما استخدم منزل (علية شرف) كمركز غير رسمي للاستشراق الذي لم يكن دائما سيئا بسبب جهود هؤلاء،، وتكفي كتب هيلما جرانكفت والصور التي التقطتها لسكان القرية، للاقرار بأنها قدمت خدمات لا يمكن تثمينها للمجتمع الفلسطيني.
وما زال حتى الان يزور باحثون غربيون القرية مقتفين اثار هليما ولويزا مثل الشابة الأميركية سيليا ورثينبيرغ التي أعدت رسالتها في الدكتوراه عن (الجان ومعتقدات الناس عنه) وعن المرأة في ارطاس، وسكنت هذه الباحثة لمدة عام كامل في القرية من اجل هذه الغاية، وجاءت الى القرية مدفوعة بحبها للباحثة الشهيرة هيلما او الحاجة حليمة، كما قالت.
ولا يوجد الان أي اثر لهؤلاء سوى شجرة الفلفل، التي زرعتها لويزا على الارجح، بعد ان تم احضارها كشتلة من فنلندا او من فرنسا.
وكان من حظ هذه الشجرة ان جذورها تمتد الى اكثر من 10 امتار في الصخر الى عين القرية، وهذا ما ساعدها على البقاء، رغم محاولات كثيرة بذلت لقطعها، من قبل السكان لاسباب مختلفة، ولكن كل مرة كان يتم قطعها تعود قوية اكثر من قبل، في اشارة لا تخلو من رمزية على ما تمثله من علاقة اولئك المستشرقين بالقرية.
ويقول موسى سند "امدت عين القرية ومائها الجاري على مدار العام، في اسفل الجبل الشجرة المزروعة في الاعلى باسباب الحياة، حتى اصبحت الان شجرة ضخمة لا يوجد في فلسطين، وربما بلدان عربية اخرى شجرة فلفل مثلها".
ولا يهتم السكان بالشجرة مثلما هو حال المنزل المهجور.


مركز تراث
ولكن الباحث سند عمل على انشاء مركز للتراث في القرية عندما قابلته قبل عدة سنوات زائرة اجنبية للقرية ودار حديث بينهما تبين منه انها تعرف اسماء اجداده بتسلسل هو لا يعرفه، والسبب في ذلك الابحاث التي اجرتها هيلما جرانفكت.

نقش لطاحونة في القرية
بعد هذه اللقاء انشأ سند المركز، ونجح في تجنيد دعم مالي لترميم منازل في القرية ورمم عدة منازل لها مدلولات رمزية وثقافية.
ومن بين هذه المنازل، منزل مكون من ثلاث غرف قديمة ذات بناء تقليدي ويطلق عليه اسم (الراوية)، والاسم كما هو واضح وكما يمكن الاستنتاج، مشتق من كلمة الراوي، وهو الشخصية الحكاءة (الحكواتي) التي كانت منتشرة في القرى الفلسطينية.
وكان سكان قرية ارطاس، يتجمعون بها في فصل الشتاء لسماع الحكايات وتزجية الوقت.
واثناء عملية الترميم، تم اكتشاف مغارة تابعة للمنزل طولها 13 مترا وحسب سند، فان الفخاريات التي تم العثور عليها، تعود إلى العهد الروماني والبيزنطي والمملوكي.
ويقع منزل الراوية في منطقة تسمى الحبس أو العدالة، ويشير الاسمان المتناقضان إلى تاريخ يعود لعصر المماليك، لمحاسبة ومقاضاة الخارجين عن (العدالة) والذي يكون مصيرهم (الحبس) أي السجن.
ومن هذه المنازل انشيء متحفا للحياة الشعبية الفلسطينية في القرية التي تسلل اليها المستشرقون يوما ما، وقدموا لها الكثير، والان يحيطها غرباء من نوع اخر، من المستوطنين الذين يسكنون اعالي الجبال المحيطة بها ويتوسعون يوميا على حساب ارضها، ويخوض السكان صراعا يوميا معهم، لا يجعلهم يلتفتون الى ما يمكن ان تمثله شجرة فلفل ضخمة منسية من علاقات صحية متوازية مع الاخر.