لقد كان التغيير هو الظاهرة الأكثر حضوراً في عراق مابعد 2003 حتى أن أغلب العراقيين باتوا يطلقون على مرحلة مابعد هذا التأريخ بفترة مابعد التغيير والعكس..

فعندما تسأل أو تستفسر اليوم مِن عراقي عن تأريخ الموضوع الفلاني أو الحدث العلاني يجيبك بجملة قبل التغيير أو بعده وأحياناً طبعاً قبل السقوط أو بعده..وبعد9 نيسان2003 بالذات تغير كل شيء بالعراق مَرة ومَرتين وثلاثة ففي السياسة وهي مايهمنا هنا تناوَب على منصِب رئيس الجمهورية حتى الآن إثنان وعلى منصِب رئيس الوزراء ثلاثة وكذلك الحال مع منصِب رئيس البرلمان أماعضوية البرلمان وباقي المناصِب الوزارية والإدارية فتناوَب عليها منذ ذلك التأريخ أشخاص مَعدودين يتناوبون ويتبادلون المناصب بين بعضهم البعض مع تبَدّل الحكومات وتناوبها أغلبهم إن لم يكُن جميعهم من أحزاب السلطة فمَع كل حكومة جديدة نجدهم بمنصِب مُختلف وتحت عنوان جديد كما حدث على سبيل المثال مع السيد صولاغ الذي تحوّل بقدرة قادر من وزير للإعمار الى وزير للداخلية الى وزير للمالية وهي ثلاث إختصاصات مختلفة تماماً لا يقدر على الجمع والتوفيق بينها والنجاح فيها حتى كيسنجر بكل حنكته ودهائه وهو ماحدث بالفعل مع السيد صولاغ الذي لم يُعمّر العراق ولم يَحفظ أمنه ولم يُغنيه ويُصَفّي ديونه كما كان متوقعاً من رجال العراق الجديد..

وكذلك الحال مع الدكتور موفق الربيعي الذي إنتقل وبقدرة قادر من عيادة الطبيب وصالة العمليات التي يقال بأنه لم يدخلها يوماً الى مستشارية الأمن القومي التي تربّع على رأسها لخمس سنوات بفرَمان بريمري دون أن نلمس لإستشاراته نفعاً في حماية أمننا الوطني والقومي الذي بات نهباً لكل من هَب ودَب من أجهزة الإستخبارات العالمية وعصابات التهريب والجريمة الدولية والتنظيمات الإرهابية المسلحة ولاغرابة بذلك خصوصاً إذا علِمنا بأن الدكتور الربيعي لم يأخذ ولا حتى كورس في الستراتيجيات الأمنية قبل أن يُوَلّى هذا المنصب من قبل السفير بريمر الذي عنوَن كتابه عن العراق بجُملة (عام قضيته في العراق..النضال لبناء غد مرجو)!!..

فأي غد مرجو يتحقق بيَد مثل هذه الطاقات الفذة!! ما يهمنا هنا طبعاً هو أن الدكتور الربيعي وبعد إنقضاء المدة القانونية التي حدّدها بريمر ترك منصب المستشارية الذي مايزال حتى الساعة شاغراً تتقاذفه أهواء أحزاب السلطة ورجالها حاله حال منصب رئاسة المخابرات الذي تمّت التضحية برئيسه الذي شهَد الجميع بكفائته كرمالاً لعيون إحدى دول الجوار وهاهو الدكتور الربيعي يَجد له اليوم مَنفذاً يعود به الى واجهة الساحة السياسية بتشكيله لحزب أسماه بالوسط مُدّعياً أنه يَدعوا للوسطية والإعتدال ومُتصوراً أن العراقيين نسوا دوره الرئيسي بتشكيل ما سُمّيَ بالبيت الشيعي في الأيام الأخيرة التي سبقت 9 نيسان2003 ومابعدها وما كان لتشكيل هذا الكيان من تأثير سلبي على مجمل العملية السياسية في العراق وحرفها عن الطريق الذي كان مؤملاً لها.. وبالتالي فإن جميع رجال العراق الجديد مَهما عَلَت أقدارهم ومناصبهم دارت عليهم الدوائر وجائت الساعة التي تركوا بها كراسيهم لغيرهم وإن كان ذلك بشكل صوري ولكن الوحيدين الذين لم يَقترب منهم أحد ليَقُضّ مضاجعهم ويدوسِلهُم على طرف منذ 6 سنوات تقريباً هُم سُفراء العراق (مدة لم تُمنح لأعظم سفير بالعالم) الذين يبدوا بأنهم إلتصقوا بمناصبهم و أن الحكومة قد نسيَتهم في زحمة إنشغالها بتوفير الخدمات وإعمار البلاد وتحويلها الى يابان الشرق الأوسط!!


إن أغلب سُفراء الدولة العراقية الموجودون حالياً في أنحاء العالم تم تعيينهم بالأيام الأولى لحكومة الدكتور أياد علاوي منذ مايزيد على الخمس سنوات دون أن تطالهم حركة التغيير التي شمِلت كل شيء في العراق رغم أن الجميع يعلم بأن عملية تعيينهم خضعت حينها لضغوطات وتجاذبات بل وتهديدات بعض الأحزاب ولنظرية المحاصصة المقيتة وظاهرة المحسوبية التي إعتمدتها هذه الأحزاب بتوزيع مناصب الدولة فيما بينها منذ دخولها للعراق فبعضهم لا يَحمل حتى الجنسية العراقية أو يَحمل الجنسية العراقية وجنسية الدولة التي يُمَثّل العراق بها في سابقة لم يشهد لها تأريخ الدبلوماسية مثيلاً كما إن كثيرين منهم ليسوا دبلوماسيين أصلاً ولم يَدرُسوا يوماً في معهد للخارجية بل ولم يأخذوا ولا حتى كورس تقوية فيه وإنتقلوا مباشرة من معارضين تجمَعهم مكاتب أحزابهم وجوامعها وحسينياتها ودكاكينها بدول المهجر لسُفراء يُمثلون الدولة العراقية في المحافل الدولية بدئاً من الأمم المتحدة وصولاً لأصغر دولة في العالم ولو أن الأمر توقف عند هذا الحَد وساروا وفق حكمة (رحم الله إمرء عرف قدر نفسه) ووَظّفوا بسَفاراتهم أشخاص لديهم إمكانيات تؤهلهم للعمل بالسَفارات ليُعينوهم على بلواهم لسَكتنا وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل لكننا فوجئنا بأنهم باتوا يأتون بأقاربهم وأبناء طوائفهم وقومياتهم وأحزابهم ويقومون بتعيينهم في هذه السفارات دون أن تكون لديهم أي معرفة مُسبقة بالعمل في هذا المجال بل أن بعضهم ليس لديه حتى شهادة إبتدائية أو متوسطة ويشغل اليوم وظائف رفيعة بهذه السَفارات فيما يشغل الوظائف الصغيرة وللأسف أشخاص لديهم شهادات جامعية دفعهم ظلم الزمان وهوانه على الناس للقبول بهذه الوظائف في دولة تضَع الرجال غير المُناسبين في الأماكن المُناسبة والعكس.


هنا تجدر الإشارة الى أن العَيّنة التي نتحدث عنها من السُفراء ما هي إلا إنعكاس لسياسيي الداخل وصورة مُستنسَخة عنهم خصوصاً إذا علِمنا أن الكثيرين منهم هُم أعضاء في الأحزاب التي تحكم الداخل ويأتمرون بأمر قادتها الذين لم نَر منهم خيراً خلال السنوات السِت الماضية التي حَكموا فيها العراق وشعبه لذا فأي خير يُرتجى من أعضاء أحزابهم الذين يتحكمون بمصائر أبناء هذا الشعب المنتشرون اليوم بجميع أرجاء العالم بسبب سياسات هؤلاء القادة وتلك الأحزاب!!..

ولكي نكون أكثر دِقّّة وموضوعية بحكمنا على الأمور لنرى هل كان هؤلاء السُفراء موفّقين بأداء عملهم خلال هذه السنوات السِت المُهمة والحسّاسة من تأريخ العراق؟ الجواب هو بكل تأكيد كلا بشهادة مئات الألوف إن لم نقل الملايين من العراقيين الذين يعيشون بالمهجر والذين ذاقوا المُر والهَوان عند مراجعتهم لهذه السَفارات وتعاملهم معها لأسباب كثيرة على رأسها وفي مُقدمتها عَدم أهلية بعض العاملين بهذه السَفارات للنهوض بأعباء السَفارة وإنجاز معاملات مُراجعيها وكذلك ضُعف الإمكانات المتوفرة من قبل الدولة ووزارة الخارجية أحياناً لهذه السَفارات مضافاً الى ذلك النفس الطائفي أو القومي الذي باتت تصطبغ به وشيحة بعض هذه السَفارات والذي تسبّب أحياناً بتمييز قومي وطائفي ضد بعض المراجعين كل هذه الأسباب وغيرها أدّت الى تراجع أداء هذه السَفارات وإبتعاد العراقيين المُقيمين بالخارج عنها..فشتّان بَين إدارة سَفارة وإدارة مَكتب أو مَحَل وبَين تمثيل دولة وشعبها المُتعدد الأطياف وتمثيل طائفة بعينها أو الترويج لفكر حزب بعينه لذا رأينا ولانزال الكثير من هؤلاء السُفراء يتسابقون لحضور مناسبات دينية وقومية تقيمها بين الحين والآخر بعض (التجمّعات العراقية!) المحسوبة على هذه الطائفة أو تلك القومية المنتشرة بدولهم والتي كانوا هم أنفسهم يوماً أعضاء ناشطين بها ويُحيون مناسباتها ويبدوا أنهم يَحضُرون اليوم إليها لإستذكار(أيام شبابهم) وبالمقابل نراهم يتجنّبون الذهاب لمنظمات المجتمع المدني العراقية ذات التوجه الليبرالي واليساري والوطني بشكل عام المتواجدة بتلك البلدان ويتجاهلون فعالياتها الثقافية والإجتماعية ويبتعدون عنها ويصل الأمر بهم أحياناً حد التشهير بها ومحاربتها للتقليل من شأنها ورفع شأن دكاكينهم الطائفية والقومية السالفة الذكر.


تشير الأخبار الواردة من العراق الى أن هؤلاء السُفراء باقون حالياً في مناصبهم التي تكاد أن تُصبح أبدية لهم الى ما شاء الله على الرغم من صدور كتب إنهاء خدماتهم من الوزارة التي لم يتم تفعيلها بسبب الشلل الذي أصاب وزارة الخارجية بعد تفجيرات الأربعاء الدامي قبل أسابيع.. لكن وكما نعلم جميعاً فإن دوام الحال مِن المُحال لذا فإن أفلام الأخوة السُفراء الهندية التي طالت كثيراً بل وزادت عن الحد لابد لها من نهاية واليوم الذي سَيَترُكون فيه مناصبهم آت لامحالة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد.. وحينها يجب إيقاف كل هؤلاء ومحاسبتهم وسؤالهم عن هذه الفترة الطويلة وغير القانونية التي قضاها أغلبهم بمنصب(السَفير) بغير وجه حق وبمثل هذه الظروف الصعبة التي عاشها ويعيشها العراق وعما حققوه وأنجزوه لشعبهم وبلدهم خلالها وعن حِساباتهم وأملاك بعضهم التي تضاعفت خلال هذه السنوات السِت فيللاً وأطياناً وألوفاً مؤلفة كما يجب مُسائلة المسؤولين عن تعيينهم بمثل هكذا مناصب رغم عدم أهليتهم والسؤال عن المَعايير التي تم إعتمادها عند تعيينهم والتي كانت على الأغلب القرابة والصَداقة والمَحسوبية الحزبية والمناطقية والطائفية والعرقية أما معايير الكفاءة والنزاهة فلم يكن لها برأينا ذلك الحضور المُهم ضمن هذه (الوِليَة) التي إبتلي بها العراق.. لكن وكما يقول المثل (لقد أسمَعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي) إذ (يُقال) والعهدة على القائل الذي نتمنى أن يكون مخطئاً بأن أغلب السُفراء المُزمَع أو الذين تقرّر تعيينهم للفترة القادمة بدلاً من الحاليين قد تم إختيارهم بنفس الطريقة و وفق نفس المعايير التي إعتمدت مع سابقيهم لذا فهم ليسوا بأفضل حالاً منهم و(شِدّوا راسكم يا مغتربين ويا لاجئين ).

همسة.. ليس المقصود بهذه المقالة جميع سفراء الدولة العراقية الحالية ففيهم الكفوء والمخلص والجيد ومَن يقوم بواجبه على أكمل وجه.. وإنما فقط وفقط مَن على رأسه بطحة واللبيب تكفيه الإشارة.


[email protected]